الجمعة 26 مارس 2021
اليوم رأيتها للمرة الأولى منذ مقابلتنا في متحف بيت ريفرز. كنت أبتاع الجبن من السوق المغطى وكنت قد استدرت لتوي من أمام طاولة البيع وأنا أحمل الرزم الصغيرة من الجبن الروكفورت والجبن الأزرق الدنماركي، وجبن الكاممبر الفرنسي الملفوفة بعناية، عندما وقعت عيني عليها على بعد بضع ياردات فقط مني. كانت تنتقي الفاكهة، لا تنتقيها بتمعن بحثا عن أفضلها مذاقا كما أفعل، بل تشير لاختيارها دون تردد وهي تمسك بحقيبة قماشية مفتوحة بسماحة لتستقبل الأكياس البنية الضعيفة التي تكاد تنبثق منها ثمرات البرتقال الذهبية المنقرة المدورة، وانحناءات الموز البراقة، وتفاح كوكس ذو اللون الأصفر الشاحب. رأيتها في وهج من الألوان المتألقة، وبدا كأن بشرتها وشعرها كانا يمتصان التوهج من الفاكهة، وكأنها لم تكن تسير تحت أضواء المتجر الوهاجة بل تحت ضوء شمس الجنوب الدافئ. وقفت أشاهدها وهي تناول البائع ورقة نقدية، ثم تعد العملات المعدنية كي تدفع المبلغ المطلوب بالضبط وتناوله إياه بابتسامة، ثم ترفع الحزام العريض لحقيبتها القماشية لتحملها على كتفها، والتي جعلها وزنها تميل قليلا. مر المتسوقون بيننا لكني ظللت ثابتا في مكاني، لا أريد التحرك أو ربما لا أستطيع ذلك، ويموج عقلي بمشاعر غريبة ومستثقلة. اجتاحتني رغبة ملحة سخيفة في أن أندفع إلى كشك الزهور، وأضع النقود في يد البائع وأخطف باقات أزهار النرجس والتيوليب والزنبق والورود من آنيتها وأضعها بين ذراعيها وأحمل عنها الحقيبة التي كانت تثقل كتفها. كانت تلك نزوة رومانسية مفاجئة، طفولية وسخيفة، لم تجتحني منذ الصبا. كنت في السابق أبغض تلك المشاعر الرومانسية ولا أثق فيها. أما الآن فتروعني بقوتها، ولا منطقيتها، وقدرتها التدميرية.
استدارت دون أن تراني، وسارت باتجاه المخرج المؤدي إلى شارع هاي ستريت. تبعتها، وأنا أشق طريقي بين متسوقي يوم الجمعة الصباحيين الذين يجرون سلات مشترياتهم على عجلات، ولا أكاد أطيق أن يعيق أحدهم طريقي لحظيا. كنت أقول لنفسي إنني أتصرف كالأحمق، وإنني يجب أن أدعها تغيب عن نظري، وإنها امرأة لم أقابلها إلا أربع مرات ولم تبدي في أي منها أي اهتمام بي سوى إصرارها العنيد على أن أنفذ ما كانت تريده، وإني لا أعرف عنها سوى أنها متزوجة، وإن حاجتي الملحة تلك لأن أسمع صوتها وألمسها ليست سوى أول أعراض الاضطراب العاطفي الرهيب لوحدة منتصف العمر. حاولت ألا أسرع الخطى في اعتراف مهين مني بحاجتي. لكن مع ذلك، استطعت اللحاق بها وهي تدلف إلى شارع هاي ستريت.
لمست كتفها وقلت: «صباح الخير.»
أي تحية أخرى كانت ستبدو مبتذلة. على الأقل كانت تلك بريئة. التفتت ناحيتي ولثانية تمكنت من أن أخادع نفسي بأن الابتسامة التي ارتسمت على شفتيها كانت ابتسامة ابتهاج لرؤيتي. لكنها كانت الابتسامة نفسها التي منحتها للخضري.
وضعت يدي على الحقيبة وقلت: «أتسمحين لي أن أحمل تلك عنك؟» شعرت وكأني تلميذ لجوج.
هزت رأسها نفيا وقالت: «شكرا لك، لكن الشاحنة مركونة قريبا جدا.»
تساءلت أي شاحنة؟ ولمن اشترت الفاكهة؟ بالتأكيد ليس لها ولرولف فقط. هل تعمل في مؤسسة ما؟ لكني لم أسألها، فقد كنت أعرف أنها لن تخبرني.
قلت: «هل أنت بخير؟»
ابتسمت مرة أخرى وقالت: «أجل، كما ترى. وأنت؟» «كما ترين.»
صفحه نامشخص