قلت وأنا أنهض واقفا: «حاكم إنجلترا هو ابن خالتي وصديقي. عاملني بلطف في طفولتي، حينما كان للطف أهمية كبيرة. لم أعد مستشاره في المجلس لكن هذا لا يعني أني لم أعد ابن خالته وصديقه. لو كنت أملك دليلا على مؤامرة تحاك ضده، فسأخبره هو شخصيا. لن أخبرك أنت أيها المفتش الأول، ولن أتواصل مع شرطة الأمن الوطني. بل سأخبر الشخص المعني، سأخبر حاكم إنجلترا.»
كانت تلك تمثيلية بالطبع وكلانا كان يدرك ذلك. لم نتصافح أو نتكلم بينما رافقتهما للباب، لكن هذا ليس لأني كسبت عدوا. فرولينجز لم يسمح لنفسه بالانغماس في عداوات شخصية مثلما لن يسمح لنفسه بالشعور بالتعاطف، أو لمشاعره بأن تتحرك بالإعجاب أو الشفقة تجاه ضحاياه الذين يزورهم ويستجوبهم. ظننت أني أفهم طبيعة هذه الفئة؛ الموظفين البيروقراطيين التابعين لحكومات الاستبداد، الرجال الذين يتلذذون بالمقدار الضئيل المحسوب بعناية من السلطة الممنوحة لهم، والذين يحتاجون لأن يسيروا وحولهم هالة من الخوف المصطنع، ولأن يشعروا بأن الخوف يسبقهم إلى أي غرفة يدخلونها ويظل ماكثا فيها مثل رائحة كريهة بعد أن يغادروها، لكنهم لا يملكون السادية ولا الشجاعة اللازمة للوصول لأقصى درجات الوحشية. مع ذلك يحتاجون إلى دورهم في الأحداث. لا يكفيهم أن يقفوا ليراقبوا المشهد من بعيد مثل أغلبنا.
الفصل الثامن عشر
أغلق ثيو دفتر اليوميات ووضعه في الدرج العلوي لمكتبه، وأغلقه بالمفتاح ثم وضع المفتاح في جيبه. كان المكتب متقن الصنع، وأدراجه متينة، لكنها لن تصمد أمام محاولة متمرسة أو عنيدة لفتحها عنوة. لكن، على الأرجح لن تحدث محاولة، وإن حدثت، فقد كان حريصا على أن تخلو روايته لأحداث زيارة رولينجز من أي شيء يؤخذ ضده. لكنه كان يعرف أن شعوره بالحاجة إلى اللجوء إلى الرقابة الذاتية دليل على عدم الارتياح. ضايقه أن يضطر لأخذ ذلك الإجراء الوقائي؛ فقد بدأ كتابة تلك اليوميات ليس لتسجيل أحداث حياته (فلمن سيتركها ولماذا؟ وأي حياة تلك التي تستحق أحداثها التسجيل؟) بل باعتبارها نوعا من استكشاف الذات ينغمس فيه بصفة منتظمة ووسيلة لمحاولة فهم أحداث السنوات التي مضت من عمره، بغرض التنفيس عما بداخله من ناحية، وباعتباره مصادقة مطمئنة من ناحية أخرى. ستكون تلك اليوميات، التي صارت جزءا من روتين حياته، عديمة النفع إن اضطر إلى مراقبة محتواها، وحذف ما لا يليق، إن اضطر إلى اللجوء للمداراة لا التنوير.
استرجع أحداث مقابلته مع رولينجز وكاثكارت. وتفاجأ حينها من أنه لم يخفهما. بعد أن غادرا، شعر بشيء من الرضا تجاه عدم خوفه، وبالكفاءة التي تعامل بها مع تلك المواجهة. لكنه الآن يتساءل إذا ما كانت ثقته بنفسه تلك مبررة. فهو يتذكر تقريبا كل ما قيل بالضبط، فلطالما كانت الذاكرة اللفظية إحدى مواهبه. لكن تدوين حديثهما المبهم أثار بداخله مخاوف لم يشعر بها حينها. قال في نفسه إنه لا يوجد ما يستدعي خوفه؛ فلم يكذب كذبة صريحة إلا مرة واحدة، عندما أنكر علمه بتلقي أي من معارفه أحد منشورات «السمكات الخمس». وتلك كذبة يستطيع تبريرها إن احتاج لذلك؛ فسيقول إنه ما الداعي لأن يأتي على ذكر زوجته السابقة ويعرضها للإزعاج والقلق الذي ستتسبب به زيارة من شرطة الأمن الوطني لها؟ إن مسألة استلامها هي أو غيرها لمنشور ليس لها أي أهمية؛ إذ لا بد أن تلك الورقات قد دفعت من تحت أبواب جميع المنازل في الشارع. وكذبة واحدة ليست دليلا على الجرم. على الأرجح لن يقبض عليه بسبب كذبة صغيرة؛ فإنجلترا لا زال يحكمها القانون، على الأقل في حالة المواطنين البريطانيين.
انتقل إلى غرفة الاستقبال وظل يجوب تلك الغرفة الواسعة جيئة وذهابا، وهو يشعر برهبة غامضة من الطوابق غير المضاءة فوقه وأسفل منه كما لو كان ثمة خطر يتربص به في كل غرفة من تلك الغرف الصامتة. توقف أمام نافذة تطل على الشارع من وراء سور شرفتها المصنوع من الحديد المطاوع. كان مطر خفيف قد بدأ يتساقط. كان يرى قطرات المطر الفضية تتساقط أمام أضواء الشارع، وتحتها الرصيف الزلق المعتم. كانت ستائر النافذة المقابلة له مغلقة، وواجهتها الحجرية لا تدل على أي أثر للحياة، ولا حتى وراء الشق الدقيق حيث تلتقي ستائرها. جثم الاكتئاب على صدره كلحاف ثقيل مألوف، وأثقله الشعور بالذنب والذكريات والقلق حتى كاد يشم رائحة للنفايات التي ظلت تتراكم بداخله طوال السنوات البائدة. ورويدا رويدا، زالت ثقته بنفسه وتمكن منه الخوف. قال في نفسه إنه خلال المواجهة لم يكن يفكر إلا في نفسه، وفي سلامته وحنكته واحترامه لذاته. لكنه لم يكن هو محل اهتمامهم الأساسي، بل كانوا يسعون وراء جوليان وجماعة «السمكات الخمس». لم يفصح عن أي شيء، ولا داعي للشعور بالذنب تجاه ذلك، لكنهم قصدوه، وذلك يعني أنهم كانوا يشكون في أنه يعرف شيئا ما. بالطبع كانوا يشكون في ذلك؛ فالمجلس لم يقتنع قط بأن زيارته تلك جاءت بمحض إرادته. ستزوره شرطة الأمن الوطني مرة أخرى؛ وحينها سيكون ستار الذوق الذي يقفون خلفه أرق، وستكون الأسئلة أكثر حدة، ومن المحتمل أن تكون النتيجة أكثر إيلاما.
ما مقدار ما كانوا يعرفونه زيادة عما أفصح عنه رولينجز؟ فجأة بدا له أن من الغريب أنهم لم يلقوا القبض بالفعل على أعضاء الجماعة لاستجوابهم. لكن ربما يكونون قد فعلوا. أكان ذلك هو سبب زيارتهم له اليوم؟ هل أمسكوا بجوليان وبباقي أعضاء الجماعة بالفعل وكانوا يختبرون مدى تورطه؟ وبالتأكيد سرعان ما سيستدلون على ميريام. تذكر سؤاله للمجلس حول الأوضاع في جزيرة مان الذي كان ردهم عليه: «نحن نعرف. السؤال هو كيف تعرف أنت؟» هم يبحثون عن شخص يعرف الأوضاع على الجزيرة، وكون الزيارات ممنوعة ولا يسمح بمرور الرسائل من الجزيرة وإليها، وفي ظل غياب الدعاية، كيف له أن يحصل على تلك المعلومات؟ لا بد أن هروب شقيق ميريام مسجل لديهم. كان من الغريب أنهم لم يستدعوها للاستجواب فور أن بدأت جماعة «السمكات الخمس» نشاطها. لكن ربما يكونون قد فعلوا. ربما حتى كانت هي وجوليان في قبضتهم الآن بالفعل.
كانت أفكاره تدور في دائرة مفرغة، وللمرة الأولى في حياته شعر بوحدة موحشة. لم يكن ذلك الشعور مألوفا له. وهو شعور يبغضه ولا يثق فيه. بينما كان يتطلع إلى الشارع الخاوي، تمنى للمرة الأولى لو كان لديه شخص أو صديق يمكنه أن يثق فيه، ويأتمنه على سره. قبل أن تهجره هيلينا قالت له: «نحن نسكن المنزل نفسه، لكننا مثل مستأجرين أو نزيلين في الفندق نفسه؛ فنحن لا نتحدث قط.» ضايقته تلك الشكوى التافهة المتوقعة، والتذمر المعتاد للزوجات البائسات، فأجابها قائلا: «نتحدث حول ماذا؟ ها أنا ذا. إن كنت تريدين أن تتحدثي إلي الآن فكلي آذان مصغية.»
شعر بأن حتى الحديث معها هي وسماع ردودها الممانعة غير المفيدة حول تلك المعضلة التي يواجهها سيكون مطمئنا. وامتزج بالخوف والذنب والوحدة شعور متجدد بالضيق؛ من جوليان ومن الجماعة ومن نفسه لتورطه معهم. على الأقل فعل ما طلبوه منه. قابل حاكم إنجلترا ثم حذر جوليان. ليس خطأه أن الجماعة لم تأخذ بتحذيره. لا شك أنهم سيزعمون أن من واجبه أن يوصل لهم الرسالة، وأن يعلمهم بأنهم في خطر. ولكن لا بد أن يعرفوا أنهم في خطر. كيف له أن يحذرهم؟ فهو لا يعرف عنوان أي منهم ولا وظيفته ولا محل عمله. الأمر الوحيد الذي يمكنه فعله إن قبض على جوليان هو أن يتوسط لها لدى زان. لكن هل سيعلم عندما يقبض عليها؟ سيكون ذلك ممكنا إن بحث عن أحد أعضاء الجماعة، لكن كيف يتقصى عنهم دون أن يثير بحثه الانتباه؟ فربما يكون، من الآن حتى، تحت مراقبة شرطة الأمن الوطني. لم يكن بوسعه سوى أن ينتظر.
الفصل التاسع عشر
صفحه نامشخص