كررت بإصرار: «حسنا، هذا يرجع إلى المساجين أنفسهم، أليس كذلك؟»
لم نتطرق إلى المنشور مرة أخرى، وبعد عشر دقائق، بعد أن قمت بزيارة أخيرة لماتيلدا، كان من الواضح أن هيلينا قد توقعتها ولم تمانعها ماتيلدا، تركتهما. لست آسفا على قيامي بتلك الزيارة. لم يكن دافعي الوحيد للقيام بها هو رؤية ماتيلدا؛ فجمع الشمل القصير جعلني أشعر بالألم وليس بالبهجة. لكن صار الآن بإمكاني أن ألقي وراء ظهري شيئا كنت قد تركته غير مكتمل. هيلينا سعيدة. وهي تبدو حتى أصغر عمرا، وأجمل. فحسنها الممشوق المقبول الذي كنت فيما مضى أرفعه إلى مرتبة الجمال قد نضج ليصير بهاء أكيدا. لا أزعم أني سعيد من أجلها حقا. فمن الصعب أن نفكر فيمن تسببنا لهم في أذى شديد بذلك القدر من اللطف. لكني على الأقل لم أعد مسئولا عن سعادتها أو تعاستها. ليس لدي أي رغبة في رؤية أي منهما مرة أخرى، لكن بإمكاني الآن أن أفكر فيهما دون أن أشعر بالمرارة أو بالذنب.
كانت ثمة لحظة واحدة فقط قبل أن أغادر بقليل شعرت فيها بأكثر من مجرد اهتمام عابر لا مبال تجاه اكتفائهما بحياتهما الأسرية. كنت قد تركتهما لأذهب للحمام ذي منشفة اليد النظيفة المطرزة، والصابون الجديد، وحوض المرحاض بلون المطهر الأزرق الرغوي والوعاء الصغير الذي يحوي بتلات الأزهار العطرية المجففة؛ كل ذلك لاحظته وشعرت بالازدراء تجاهه. عندما عدت إليهما بهدوء، كانا يجلسان متباعدين قليلا ورأيتهما يمد كل منهما يده للآخر عبر الفراغ بينهما، وعندما سمعا وقع خطواتي سحب كل منهما يده بعيدا عن الآخر بحركة يكاد يشوبها الشعور بالذنب. تلك اللحظة العابرة من الرقة والذوق أو ربما حتى الشفقة، جعلتني أشعر لبرهة بمشاعر متناقضة، مرت بداخلي بوهن حتى إنها ذهبت لحال سبيلها بمجرد أن أدركت طبيعتها. لكني كنت أعلم أن ما شعرت به هو الحسد والندم، ليس على شيء فقدته، وإنما على شيء لم أستطع أن أصل إليه يوما.
الفصل السابع عشر
الاثنين 15 مارس 2021
اليوم زارني رجلان من رجال شرطة الأمن الوطني. كوني استطعت كتابة تلك الكلمات يعني أنني لم أعتقل وأنهم لم يجدوا دفتر اليوميات. أعترف أنهم لم يبحثوا عنه، بل لم يبحثوا عن أي شيء. يعلم الرب أن دفتر اليوميات يجرمني كفاية في عين من يبحث عن النواقص الأخلاقية والعيوب الشخصية، لكنهم كانوا يبحثون عن جرائم أكثر مادية. كما ذكرت، كانا اثنين؛ شابا، من الواضح أنه من الأوميجيين - كم هو غريب أن المرء يستطيع أن يميزهم دائما - وضابطا كبيرا، يصغرني بقليل، وكان يحمل معطف مطر وحقيبة أوراق جلدية سوداء. قدم نفسه على أنه مفتش أول جورج رولينجز وعرف رفيقه بأنه النقيب أوليفر كاثكارت. كان كاثكارت عابسا، أنيقا، ذا تعبيرات جامدة، كسائر الأوميجيين. أما رولينجز فكان ممتلئا، وأخرق في حركاته بعض الشيء، وكان له شعر كثيف أشيب مصفف بعناية، وكأنما عمد إلى قصه لدى حلاق باهظ الثمن ليبرز تموجاته المعقوصة على جانبي رأسه وفي خلفها. كانت ملامح وجهه غليظة وعيناه ضيقتان غائرتان لدرجة أن حدقتيهما كانتا غير ظاهرتين، وكان له فم واسع وشفة علوية مدببة كالسهم، وبارزة كمنقار. كان كلاهما يرتدي ملابس مدنية، وكانت بذلتاهما متقنتي الصنع للغاية. في ظروف أخرى، كان من الممكن أن أشعر برغبة في سؤالهما إذا كانا يقصدان الخياط نفسه.
كانت الساعة الحادية عشرة عندما وصلا. أدخلتهما إلى غرفة الجلوس بالطابق الأرضي وسألتهما إذا ما كانا يودان شرب القهوة. أجابا بالنفي. عندما عرضت عليهما الجلوس، جلس رولينجز مسترخيا في مقعد بالقرب من المدفأة، بينما جلس كاثكارت بعد لحظة من التردد قبالته بتكلف فاردا ظهره. جلست أنا في الكرسي الدوار أمام المكتب ودرت به لأواجههما.
قال رولينجز: «إحدى بنات أختي، وهي أصغر بناتها، فاتها أوميجا بعام واحد فحسب، حضرت سلسلتك القصيرة من الندوات حول «الحياة الفيكتورية والعصر الفيكتوري». ليست امرأة فائقة الذكاء، وعلى الأرجح لن تتذكرها. لكنك قد تتذكرها. اسمها ماريون هوبكروفت. أخبرتني أن عدد الحاضرين كان قليلا، وظل يقل كل أسبوع. الناس يفتقرون إلى القدرة على المواظبة. فهم يقبلون على الأمور التي يتحمسون لها، لكن سرعان ما تخور عزيمتهم، خصوصا إن لم يستثر اهتمامهم باستمرار.»
في بضع عبارات، كان قد جعل مجموعة المحاضرات تبدو سلسلة من الندوات المملة يحضرها عدد متضائل من الطلاب العديمي الذكاء. لم تكن تلك الحيلة ماكرة لكني أشك في أنه يقصد استخدام المكر. قلت: «يبدو الاسم مألوفا لكني لا أذكرها.» ««الحياة الفيكتورية والعصر الفيكتوري». اعتقدت أن كلمة «العصر الفيكتوري» زائدة. لم ليس «الحياة الفيكتورية» فحسب؟ أو كان من الممكن أن تسميها «الحياة في إنجلترا الفيكتورية».» «لم أختر عنوان الدورة الدراسية.» «حقا؟ هذا غريب. كنت أفترض أنك فعلت. أعتقد أنك يجب أن تصر على اختيار عنوان سلسلة ندواتك.»
لم أرد. لم يساورني أي شك في أنه يعرف جيدا أني توليت تلك الدورة الدراسية نيابة عن كولين سيبروك، لكن إن كان لا يعرف، فلا أنوي إيضاح ذلك له.
صفحه نامشخص