الفصل الرابع عشر
كان ثيو لا يزال يجد صعوبة في اعتياد عبور جادة سانت جايلز وهي خاوية. لا بد أن ذكرى أيامه الأولى في أوكسفورد؛ صفوف السيارات التي ركنت متلاصقة تحت أشجار الدردار، وقلقه الذي كان يتزايد بينما يقف منتظرا فرصته لعبور الجادة التي كانت حركة المرور تكاد لا تنقطع فيها، كانت أقوى من أي ذكريات أخرى أكثر تفاؤلا أو أعظم شأنا، فقد كانت تحضر في ذهنه بسهولة شديدة. كان لا يزال يجد نفسه تلقائيا يقف مترددا قبل أن يجتاز حافة الرصيف، ولا يزال خلو الشارع من السيارات يدهشه. ألقى نظرة خاطفة عن يمينه ويساره قبل أن يعبر الشارع العريض، ثم قطع الزقاق المرصوف بالحجارة المجاور لحانة «لامب آند فلاج» وسار إلى المتحف. كان الباب مغلقا ولوهلة خشي أن يكون المتحف مغلقا أيضا، وشعر بالضيق لأنه لم يكلف نفسه عناء إجراء مكالمة هاتفية. لكن الباب انفتح عندما أدار مقبضه، ورأى أن الباب الداخلي الخشبي كان مواربا. دلف إلى الغرفة الشاسعة المربعة التي يغلب عليها الزجاج والحديد.
كان الهواء شديد البرودة، على ما يبدو كان أكثر برودة منه في الشارع بالخارج، وكان المتحف يخلو من الناس عدا سيدة عجوز، كانت متدثرة جيدا فكان لا يظهر إلا عيناها من بين وشاحها الصوفي المخطط وقلنسوتها، وكانت تجلس على طاولة البيع في متجر المتحف. كان بوسعه أن يرى أن البطاقات البريدية نفسها كانت معروضة؛ بطاقات عليها صور لديناصورات وجواهر، وفراشات، وللأحرف الكبيرة المحفورة بوضوح على الأعمدة، وصور فوتوغرافية للآباء المؤسسين لتلك الكاتدرائية العلمانية التي تحوي ثقة العصر الفيكتوري، لجون راسكين والسير هنري أكلاند وهما جالسان معا عام 1874، ولبينجامين وودوارد ذي الوجه المرهف الحزين. وقف صامتا ينظر إلى أعلى، إلى السقف الذي يرتكز على صفوف من الأعمدة المصنوعة من الحديد الصلب، وإلى الفرج المزخرفة بين أطر الأقواس وحوافها، التي تتفرع منها بأناقة أوراق شجر وثمار فاكهة وأزهار وأشجار وشجيرات. لكنه كان يعلم أن الوخز الخفيف غير المعتاد الذي كان يشعر به إثر الإثارة، والذي وجده مقلقا أكثر منه مبهجا، لم يكن سببه المبنى بل مقابلته المرتقبة مع جوليان، وحاول أن يسيطر عليه بالتركيز على براعة وجودة صناعة الحديد الصلب وجمال الزخارف. ففي النهاية كانت تلك هي الحقبة الزمنية التي يألفها جيدا. هنا تجلت الثقة الفيكتورية، والجدية الفيكتورية؛ باحترام التعلم، والحرف اليدوية والفنون؛ وبالاعتقاد أن الإنسان يمكن أن يحيا حياته بأكملها في انسجام مع الطبيعة. لم يكن قد زار المتحف منذ أكثر من ثلاث سنوات، ومع ذلك لم يكن أي شيء قد تغير. بالفعل لم يتغير أي شيء منذ أن دخله للمرة الأولى عندما كان طالبا جامعيا، عدا اختفاء تلك اللافتة التي تذكر أنها كانت تستند إلى أحد الأعمدة، مرحبة بقدوم الأطفال لكنها تحذرهم، دون جدوى حسبما يذكر، من الركض أو رفع أصواتهم. كان هيكل الديناصور ذي الإبهام المعقوف لا يزال يحتل موقع الصدارة بين المعروضات. عاد بذاكرته، وهو يتأمله، إلى مدرسته الابتدائية في كينجستون. كانت السيدة لادبروك قد علقت صورة للديناصور على السبورة وشرحت لهم أن ذلك الحيوان، شديد الضخامة دقيق الرأس، كان قوي الجسد لكنه كان ضعيف العقل؛ ولذلك لم يستطع التأقلم وانقرض. حتى عندما كان عمره عشر سنوات، لم يكن يقتنع بهذا التفسير. فقد ظل ذلك الديناصور، ذو العقل الصغير، على قيد الحياة لبضعة ملايين من السنوات؛ وبهذا يكون قد تفوق على جنس «الإنسان العاقل».
عبر من القوس في آخر المبنى الرئيسي إلى متحف بيت ريفرز، الذي يضم أحد أضخم المجموعات الإثنولوجية في العالم. كانت المعروضات متلاصقة للغاية فكان يصعب معرفة إذا ما كانت تقف بالفعل في انتظاره هناك ربما وراء قاعدة الطوطم الذي يبلغ ارتفاعه أربعين قدما. لكن عندما توقف لبرهة، لم يأته أي صوت لوقع أقدام. كان الصمت تاما، وكان يعلم أنه وحده في المكان، لكنه كان يعلم أيضا أنها ستأتي.
بدا متحف بيت ريفرز أكثر تكدسا مما كان في آخر زيارة له. بدت نماذج السفن والأقنعة والأغراض المصنوعة من العاج والأشغال المصنوعة من الخرز والتمائم وحاملات النذور كأنها تستعرض نفسها بصمت داخل صناديق العرض غير المنظمة لجذب انتباهه. شق طريقه بينها وتوقف أخيرا أمام أحد المعروضات الذي كان مفضلا لديه، وكان لا يزال معروضا لكن بطاقته صارت مصفرة وباهتة للغاية، وبالكاد كان يمكن قراءة الكتابة عليها. كان عقدا مصنوعا من ثلاثة وعشرين سنا مصقولا من أسنان حوت عنبر، أعطاه الملك ثاكومبو عام 1874 القس جيمس كالفرت، وأهداه للمتحف ابن حفيده، وهو ضابط طيار توفي متأثرا بجروحه في بداية الحرب العالمية الثانية. شعر ثيو بالانبهار نفسه الذي شعر به عندما كان طالبا جامعيا بسلسلة الأحداث العجيبة التي ربطت بين صنع يدي نحات من جزيرة فيجي والطيار الشاب ذي المصير المشئوم. تخيل مرة أخرى مراسم الإهداء؛ والملك جالسا على عرشه محاطا بمحاربيه الذين يرتدون التنانير المصنوعة من الكلأ، والمبشر وقد ارتسمت على ملامحه الجدية أثناء قبوله تلك الهبة الغريبة. خاض جده الحرب التي استمرت من 1939 حتى 1945، وكان أيضا قد قتل أثناء تأديته الخدمة في سلاح القوات الجوية الملكية عندما أسقطت طائرته قاذفة القنابل من طراز لانكاستر أثناء مشاركتها في الغارة الجوية الضخمة على مدينة دريزدن. عندما كان لا يزال طالبا جامعيا، مشغولا طوال الوقت بلغز الزمن، كان يحب أن يعتقد أن ذلك يربطه هو أيضا بالملك، المدفونة عظامه في الجانب الآخر من العالم.
ثم سمع صوت وقع خطوات. تلفت حوله لكنه انتظر مكانه حتى صارت جوليان بجواره. كان رأسها مكشوفا لكنها كانت ترتدي معطفا مبطنا وبنطالا. عندما تكلمت، خرجت أنفاسها في صورة نفحات صغيرة من الضباب. «آسفة على التأخير. فقد أتيت إلى هنا بالدراجة وانثقب إطارها. هل قابلته؟»
لم يتبادلا التحية، فعرف أنه كان يمثل لها مجرد رسول. سار مبتعدا عن صندوق العرض فتبعته وهي تجول بنظرها من جانب إلى آخر. افترض أنها تفعل ذلك لكي تعطي انطباعا بأنهما زائران تقابلا عرضا حتى وسط ذلك الخواء الواضح. لم يكن أداؤها مقنعا وتساءل لم تكلف نفسها عناء ذلك.
قال: «أجل قابلته. في الواقع قابلت المجلس بأكمله. ثم بعدها قابلت الحاكم منفردا. لم تكن مقابلتي مثمرة؛ بل ربما أكون قد تسببت في بعض الضرر. فقد استشف أن شخصا ما قد حرضني على تلك الزيارة. والآن إن مضيتم قدما في تنفيذ خططكم، فقد أنذر بها.» «هل شرحت له ما يحدث في فعاليات الراحة الأبدية، وما يلقاه العمال الوافدون من معاملة، وما يحدث في جزيرة مان؟» «هذا ما طلبتم مني أن أفعله، وهذا ما فعلته. لم أكن أتوقع أن أنجح في إقناعه وبالفعل لم أنجح. حسنا، قد يقوم ببعض التغييرات مع أنه لم يقطع لي أي وعود. على الأرجح سيغلق المحال الإباحية المتبقية، لكن سيفعل ذلك تدريجيا، ويتساهل في القوانين المتعلقة بفحوصات الحيوانات المنوية الإلزامية. فهي مضيعة للوقت على أي حال، وأشك أن لديه العدد اللازم من فنيي المعامل للاستمرار في إجرائها على النطاق الوطني أكثر من ذلك. فنصفهم لم يعد يكترث. فقد تخلفت عن موعدين العام الماضي ولم يكلف أحد نفسه عناء مراجعتي. لا أعتقد أنه سيفعل أي شيء بخصوص فعاليات الراحة الأبدية عدا، ربما، ما يضمن له أنها ستنظم بطريقة أفضل في المستقبل.» «ماذا عن مستعمرة مان العقابية؟» «لا شيء. لن يهدر أي رجال أو موارد على إحلال السلام في الجزيرة. ولماذا يفعل؟ فإنشاء المستعمرة العقابية كان على الأرجح أكثر إنجازاته شعبية.» «ومعاملة العمال الوافدين؟ منحهم حقوق المواطنة الكاملة، وحياة كريمة هنا، والفرصة كي يبقوا؟» «أهميتهم ضئيلة جدا في نظره مقارنة بما هو أهم: حفظ النظام في إنجلترا، وضمان أن يموت الجنس البشري وهو يتمتع بشيء من الكرامة.»
قالت: «الكرامة؟ كيف ستوجد الكرامة إذا كنا لا نهتم بكرامة الآخرين؟»
كانا قد اقتربا من قاعدة الطوطم الضخمة. مرر ثيو يده على خشبها. قالت غير مكترثة بالنظر إليها: «إذن، سنضطر إلى القيام بأقصى ما بوسعنا.» «ليس بوسعكم أي شيء إلا التسبب في موتكم أو إرسالكم إلى الجزيرة، هذا إن كان الحاكم والمجلس عديمي الرحمة كما تظنونهم. وكما يمكن لميريام أن تؤكد لكم، الموت سيكون أفضل من النفي إلى الجزيرة.»
صفحه نامشخص