فأردت أن أفرد منها أحوال العلوم وتراجم الفنون في تأليف مختصر تقريبا للبعيد وتحصيلا للتجريد مضيفا إليه ما حصل الوقوف عليه في أثناء ملاحظة الكتب الشاذة وعطفها واجتناء ثمار الفوائد من الصحف الفاذة وقطفها. ليكون هذا السفر التام المقصود وكوكب المراد الطالع من أفق السعود سهل الحصول لمن رام الوصول إليه ويسير النتاج لمن أراد الحصول منه والتعويل عليه لأنه دراسات عديدة في كراريس محدودة وفراسات سديدة في قراطيس مشهودة تحلت بعون الله وحسن توفيقه بكل زين ورتبت على قسمين:
الأول: في بيان أحوال العلوم.
والثاني: في تراجمها المنطوق منها والمفهوم وكل قسم من هذين القسمين اشتمل على مقدمة وخاتمة وأبواب على أكمل وضع وأجمل أسلوب تسوق ناظريها من طلبة العلوم إلى أعز مقصود وأعز مطلوب وأنت تعلم إن كنت ممن طالع الكتب المشار إليها واطلع عليها أن بعد هذا التجريد مما فيها لم يبق من المقاصد العلمية إلا القليل من تراجم الكتب وأهليها
لكن الذي أهمني أني رأيت أبناء هذا الزمان لا تتوجه طبائعهم إلى إدراك العلوم ومبانيها واقتباس فوائد الفنون ولو بفهم بعض معانيها. فضلا عن أن يحيطوا بجميع المقاصد والغايات ويبلغوا من معرفتها وضبطها إلى النهايات. إلا واحدا من الألوف المؤلفة وفردا من الأحزاب المتحزبة ممن لهم همة شامخة وروية دارية في كسب المعارف والعلوم. أو دولة باذخة وقدرة سارية في جمع المقسوم. فإنه قد يرفع الرأس إلى معرفة العلم بدء وغاية وينحو إلى استعلام أمر الأول والنهاية وكل الخلق وجلهم مغمورون في اللذات العاجلة الخاطئة الكاذبة الفانية. ويؤثرونها ولو كان بهم خصاصة على النعم الآجلة الدائمة الباقية. إلا من عصمه الله تعالى. فكأن الناس كلهم قد صاروا أجناسا بلا فصول أو إناثا بلا فحول. مع أن الإنسان إنما تميز عن الحيوان بالنطق والعلم والعرفان. ولو لم يكن العلم في البشر لكان هو وجميع الحيوانات سواسية في كل شان. فإنا لله على ذهاب العلم وأهليه وفشو الجهل وعلو ذويه.
وبالجملة: فهذا المؤلف الذي جمع أحوال العلوم وتراجمها في كن١ واحد وأوعى أشتات الفنون في وعاء صامد. قد تجلى نوره في آخر الزمان من عمر الدنيا حين ولى شبابها ولم يبق من بحار حياتها إلا سرابها وتوالت فيها الآفات والفتن وعمت بأهلها البلوى والمحن. ولذلك كان أثرا بعد عين أو حديثا من خفي حنين.
ومع ذلك قد جاء بحمد الله تعالى في بابه بديع المثال منيع المنال مبدئ العجب العجاب. إذا سئل أعطى وإذا دعي أجاب كأنه سماء علوم شرفت كواكبها عجائبها وأرض فنون أمطرت بالغرائب سحائبها شامة في وجنات النكات تميمة في أجياد الفحول الأثبات جنة أشجارها مورقة حديقة أزهارها مونقة أكلها دائم وظلها قائم نعيمها مقيم ومزاجها من تسنيم. سفينة نجاة يعبر بها الأبرار بحارا بعيدة الأغوار وفلك مشحون يسيح العابرون في قاموسه المحيط التيار وحسبك به مطية يصل بها الراكب إلى رياض
_________
١ الكن: البيت.
1 / 18