هربت من معسكر الصاعقة وأنت كنت ضابطا؟
جرع مدهش كأسا آخر من الشراب، ومسح فمه بظهر كفه وقال بحسرة: فشلت الثورة يا زربة. أرى أن الحمدي يحلم بمستقبل زاهر لليمن. لو كنا بقينا إلى جواره سيرى كيف ستكون اليمن، لكنه في أحداث أغسطس (1968م) وقف مع قادته والقبائل ضدنا. عرف الطريق الصحيح بعد فوات الأوان، وهو يقف الآن وحيدا يصارع الأطماع الداخلية والخارجية.
بقي الاثنان يذرفان الدمع على ناصر، ويحتسيان آخر قطرة خمر، ثم ناما في الدكان بعد أن أفرغا كل ما في جوفيهما إلى الشارع.
5
لم يستطع زربة البقاء في صنعاء بعد موت ناصر فقرر السفر إلى القرية، كان عذره أن وقت الحصاد قد اقترب موعده، ولا بد عليه أن يسافر خاصة أن زوجته حامل في شهرها الأخير، ولن تقدر أن تقوم بالحصاد وجمع المحصول بمفردها. تناول زربة جرابه الصغير الذي يحوي عدة البناء: مطرقة، متر، ملعقة للإسمنت، وميزان البناء وخيط قياس. حمله على كتفه ومر أمام أصدقائه صامتا. اتجه نحو الفرزة (محطة سيارات) ثم استقل سيارة بيجوت إلى مدينة تعز، ومن ثم إلى مدينة الراهدة، وهناك اشترى اثني عشر كيلو حلاوة، وكيس قمح بلدي - خمسين كيلو - وست حزم قات كبيرة من نوع «جدة»، والتبغ الجيد المجلوب من عدن. افترش التراب واتكأ على حجرة صغيرة قرب فرزة المسافرين إلى مديرية حيفان، وبقي يمضغ القات بصمت، يتخيل دم ناصر يسيح أمامه. بعد ساعة استقل سيارة لندروفر عليها اثنا عشر راكبا. انطلقت السيارة تصعد الجبال الشاهقة، والمسافرون واقفون يتزاحمون على موضع قدم لأرجلهم. وصلوا آخر نقطة لطريق المركبات في حيفان الساعة الرابعة عصرا. حمل زربة هديته على ظهره، حوالي سبعين كيلو، وانطلق يعبر المنحدرات والمرتفعات الوعرة، إلى أن وصل قريته «القرن» الساعة الثامنة مساء. استقبلته زوجته ببطن منفوخ بحياة جديدة. ضحك زربة وقال لها: الحمد لله روحت
16
في الوقت المناسب.
ضحكت زوجته صفية فهي تعرف قصده ... هي امرأته قصيرة القامة، بجمال مقبول، نحيفة، ولود ودود، كفها خشن. لم يعرفها زربة إلا في ليلة العرس حين جلست بجواره أمام الأهل، بعد أن دفع لها والده المال لتكشف الحجاب عن وجهها. فرحت الأسرة بالقمح؛ فهم لا يتناولونه إلا في الأعياد. أحاط به أولاده فرحين بالهدية. أخذت صفية مكيالا من القمح وذهبت بقنديلها الزيتي إلى حجر الرحى المقابل لزرب البقرة (دوجع) وقامت بطحنه، ثم صعدت إلى المطبخ في سطح الدار، دخلته منحنية على الرغم من قصر قامتها وقد اشتكت مرارا انخفاض باب المطبخ، وزربة يعدها برفع سطح الباب، لكنه لم يفعل. سال لعاب الأولاد وهم يشمون رائحة خبز القمح البلدي، فشعروا بالجوع على الرغم من أنهم قد تناولوا العشاء قبل قليل.
قدمت صفية وجبة العشاء، فتة
17
Página desconocida