فبشرتها المرأة بأنهما سيشهدان عرس الست سنية عفيفي عما قريب، وأخبرتها أن الست ستهدي إليها فستانا لحضور الزفاف، فتظاهرت حميدة بالسرور، وجلست تصغي إلى ثرثرة أمها ساعة طويلة، ثم تناولتا عشاءهما وأوتا إلى حجرة النوم، وكانت حميدة تنام على كنبة قديمة، أما أمها فتفرش حشية على أرض الغرفة تستلقي عليها. ولم تكد تمضي دقائق حتى راحت الأم في نوم عميق، وملأت الحجرة شخيرا. ولبثت حميدة محملقة في النافذة المغلقة، وقد نضح خصاصها بنور القهوة المتصاعد. استحضرت ذاكرتها حوادث يومها العجيب، فلم يفتها منه حركة أو سكنة أو كلمة، وعاش في خيالها مرة أخرى، وذكرت ما وقع فيه من مغامرات جريئة لا يكاد يصدقها العقل، فشعرت على رغم قلقها الراهن بسرور غير خاف، سرور الزهو والفخار والجنون الكامن في غرائزها. ولم تنس مع ذلك أنها قالت عن ذلك الرجل وهي راجعة إلى زقاقها: «يا ليتني لم أره!» ولكنه كان قول لسان لم يجد له صدى في قلبها. والحق أنها عرفت من نفسها في ذلك اليوم ما لم تستطع معرفته مدى عمرها. وكأن هذا الرجل قد اعترض سبيلها ليجلو ما خفي من ذاتها ويبسطه لناظريها كمرآة مصقولة؛ بيد أنها قالت له: «كلا» وهي تفارقه، وربما لم يكن لها عن هذا القول مذهب، ولكن ما معناه على وجه التحقيق؟! أليس معناه أن تقبع في بيتها مترقبة عودة عباس الحلو؟! رباه، لم يعد للحلو مكان في نفسها .. امحى أثره، وتبدد رجع صداه .. وليس الحلو في الواقع إلا هذا الزواج التعس، وما يعقبه من حبل وولادة وإرضاع على الأرصفة وذباب، إلى آخر هذه الصورة البشعة الممقوتة. أجل .. لم يكن لعاطفة الأمومة نبع يتفجر في نفسها شأن الفتيات من أترابها، ولم تكن نسوة الزقاق بمتجنيات عليها فيما رمينها من قسوة وشذوذ، فماذا تبتغي إذا؟! .. وخفق قلبها خفقانا متتابعا، فعضت على شفتيها حتى كادت تدميهما. إنها لتعلم ما تبتغي، وبما تهفو إليه نفسها، كان يجري قبل اليوم في شعورها متقلقلا بين النور والظلمة، ولكنه شق اليوم غشاوة الغموض وأسفر جليا لا لبس فيه ولا إبهام. ومن عجب أنها لم تعان - في سهادها - ترددا خطيرا فيما ينبغي أن تختار من سبيل، ولم تشعر كثيرا بوطأة التجاذب بين ماضيها وحاضرها، أو بين ما في حياتها من خير وما يتصدى لها من شر، بل الحق أنها اختارت سبيلها بالفعل وهي لا تدري، ووقع اختيارها عليه وهي بين يدي ذلك الرجل، في بيته! كان لسانها يهدر غضبا وأعماقها ترقص طربا، كان وجهها يربد ويعبس وأحلامها تتنفس وتمرح! .. وفوق هذا كله فإنها لم تمقته لحظة واحدة، لا بل لم تحتقره قط، وكان - كما لم يزل - حياتها ومجدها وقوتها وسعادتها! لم يثر حنقها إلا إدلاله بثقته وهو يقول لها: «ستعودين إلي»!
أجل .. ستعود، ولكنه ينبغي أن يؤدي ثمن هذه الثقة الوقحة غاليا. فليس حبها عبادة وخضوعا، ولكنه معركة يحتدم أوارها ويتطاير شررها. طالما اختنقت في هذا البيت، وهذا الزقاق، وهيهات أن يعتاقها عائق بعد اليوم عن الانطلاق إلى النور والجاه والسلطان، وهل من سبيل إلى الإفلات من ربقة الماضي إلا عن يد هذا الرجل الذي أوقد في خيالها نارا؟ ولكنها لن تهرع إليه في خشوع وإذعان هاتفة: «إني عبد يديك، فافعل بي ما تشاء.» لأنها لا تعرف هذا الحب. كذلك لن تنطلق إليه كالرصاصة صارخة: «إني سيدتك فتخشع بين يدي.» فما أزهدها في الحب الناعم أو الحبيب الخرع. ولكنها ستذهب إليه وقلبها مشحون بالآمال والرغبات، ولسان حالها يقول: «إني قادمة بقوتي فلاقني بقوتك، ولنتناطح إلى الأبد في سعادة تجل عن الوصف، ثم متعني بما منيتني به من جاه وسعادة.» .. لقد وضح السبيل بفضله هو، وهيهات أن تفرط فيه ولو اشترته بحياتها.
ومع ذلك فلم تخل ليلتها من أفكار نغصت عليها عزمتها بعض التنغيص، تساءلت: «ترى ماذا يقولون عني غدا؟» وجاءها الجواب في كلمة واحدة: عاهرة! وتقبض قلبها حتى جف ريقها وذكرت كيف تلاحت مرة مع واحدة من صويحباتها بنات المشغل فسبتها صارخة: «يا ربيبة الشوارع .. يا عاهرة!» .. معيرة إياها بالعمل كالرجال والتسكع في الشوارع. فما عسى أن يقال عنها هي؟! .. وداخلها الحزن والأسى، فتململت في رقادها جزعا وضيقا. ولكن شيئا في الوجود لم يكن ليثنيها عما اعتزمت، أو يلوي بها عما اختارت، فقد اعتزمت بقوة أعماقها، واختارت بمجامع قلبها، فكانت تنحدر إلى مصيرها المحتوم لا يعوقها من وازع إلا ما يعوق المنحدر إلى الهاوية من دقاق الحصا.
ثم انتقل تيار أفكارها فجأة إلى أمها، فالتفتت نحوها، وقد ملأ أذنيها شخيرها الذي كان غاب عنها ساعة طويلة، فتصورتها في غدها وقد طال انتظارها لها حتى أشفت على اليأس. وذكرت كيف أحبتها المرأة حبا صادقا لم يترك في قلبها إحساسا - وإن قل - بالحرمان من الأمومة، وكيف أحبتها هي أيضا على كثرة ما شجر بينهما من نزاع وشقاق، وكأنما خافت أحاسيس العطف التي أخذت تدب في نفسها، فزفرت بقوة وضجر وقالت لنفسها: «لا أب لي ولا أم، وليس لي في الدنيا سواه.» وولت الماضي كشحها، ولم تعد تفكر إلا في الغد وما عسى أن يتكشف عنه، ثم أمضها السهاد، وشعرت بحرارته تصهر جفونها ودماغها، فتمنت أن ينقذها النوم من عذابه وأن تغمض عينيها فلا تفتحهما إلا على نور الصباح. وأهابت بإرادتها أن تنش عن رأسها ما ينثال عليه من خواطر، فنجحت في طردها إلى حين، ولكنها تنبهت إلى الأصوات المتصاعدة من قهوة كرشة، ووقعت من نفسها موقعا مثيرا، فراحت تلعنها وتتهمها بتطيير النوم من عينيها. وجعلت تنصت إليها على رغمها، وتسب محدثها في حنق وغضب. «يا سنقر غير ماء النرجيلة.» .. هذا صوت الفاجر الحشاش كرشة. «يا سيدي .. ربك يعدلها.» وهذا عم كامل الحيوان الأعجم. «ولو .. كل شيء له أصل.» .. هذا الأعمش القذر الدكتور بوشي. وتمثل لها حبيبها - على غرة - بمجلسه المختار ما بين المعلم كرشة والشيخ درويش، وتخيلته وهو يشير إليها بقبلاته فخفق فؤادها، ثم استحضرت ذاكرتها صورة العمارة الهائلة، والحجرة الرائعة، وسرعان ما طن صوته في أذنيها وهو يهمس قائلا: «ستعودين إلي.» رباه! متى يرحمها النوم؟ «السلام عليكم يا إخوان.» .. هذا صوت السيد رضوان الحسيني الذي أشار على أمها برفض يد السيد علوان قبل أن يهتصره المرض، ترى ماذا يقول عنها غدا إذا تناهى إليه الخبر؟ ليقل ما يشاء، لعنة الله على الحي جميعا! وانقلب الأرق صداعا وسقما، ومضت تتقلب على جنبيها وبطنها وظهرها، ومضى الليل بطيئا ثقيلا مرهقا مضنيا. يزيده هولا خطورة الغد المرتقب. وقبيل الفجر بقليل غشيها نوم ثقيل استيقظت منه عند الضحى. وبادرها الصحو بأفكارها جملة كأنما سبقتها إلى اليقظة بوقت طويل، ولكن لم يساورها التردد وتساءلت في جزع: متى يأتي المغيب؟! وقالت لنفسها: إنها الآن زائرة عابرة في المدق، لا هي منه ولا هو منها، كما قال الحبيب. ونهضت كعادتها ففتحت النافذة، وطوت حشية أمها وكومتها في ركن الحجرة، ثم كنست الشقة، ومسحت الردهة الخارجية، وتناولت فطورها على انفراد؛ لأن أمها كانت قد غادرت البيت إلى شئونها التي لا تنتهي، ثم مضت إلى المطبخ فوجدت عدسا في طبق تركته أمها لتطبخه غدا ليومهما، فعكفت على تنقيته وغسله، وأوقدت الكانون وخاطبت نفسها بصوت مرتفع قائلة: «هذه آخر طبخة في هذا البيت، وربما كانت آخر طبخة في حياتي .. ترى متى آكل العدس مرة أخرى؟!» ولم تكن تستكره العدس ولكنها كانت تعلم أنه غذاء الفقراء وشعار مائدتهم. كذلك لم تكن تعلم شيئا عن طعام الأغنياء، إلا أنه لحم ولحم ولحم. وأنشأ خيالها ينعم بتصور غذاء المستقبل وكسائه وزينته حتى انبسطت أساريرها وقطر وجهها بشاشة حالمة. وغادرت المطبخ عند الظهر، فدخلت الحمام تستحم، ثم مشطت شعرها بأناة وعناية وجدلته صفيرة غليظة طويلة أرسلتها وراء ظهرها حتى مست أهدابها أسفل فخذيها. وارتدت خير ما لديها من ثياب، ولكنها استاءت من مظهر ملابسها الداخلية البالي، فتورد وجهها البرنزي وعجبت كيف تزف إليه في مثل هذه الثياب، واربد وجهها وهاج صدرها، فصممت على ألا تسلم إليه حتى تستبدل بهذه الثياب الرقيقة أخرى جديدة زاهية. وطاب لها هذا الرأي، وصادف من نفسها - التي تأبى الهوى إلا في حومة العراك والعناد - هوى ولذة. ثم وقفت في النافذة تلقي على حيها نظرات الوداع. وجعل بصرها يتردد بين معالمه بغير توقف: الفرن، قهوة كرشة، دكان عم كامل، دكان الحلاق، الوكالة، بيت السيد الحسيني، والذكريات تبعثها النظرات كأنها الشعلات يبعثها حك أعواد الثقاب.
ومن عجب أنها وقفت حيال ذلك كله جامدة باردة لا يندى صدرها بعطف أو مودة، لا للزقاق ولا لأهله. وكانت أسباب الجوار والصداقة مقطوعة ما بينها وبين غالبية نسوة الحي كأم حسين - أمها بالرضاعة - والفرانة، حتى امرأة السيد رضوان الحسيني لم تسلم من لسانها، فقد بلغها يوما أنها وصفتها ببذاءة اللسان، فتربصت بها حتى رأتها يوما على سطح بيتها تنشر الغسيل، فصعدت إلى السطح وثبا - وكان السطحان متلاصقين - واقتربت من السور وجعلت تعرض بالمرأة قائلة بتهكم وازدراء: «أسفي عليك يا حميدة من فتاة بذيئة اللسان، غير جديرة بمعاشرة الهوانم من ستات المدق بنات الباشوات!» ولكن المرأة آثرت السلامة، وتعوذت بالصمت. وقد ثبتت عيناها غير قليل على الوكالة فذكرت كيف طلب السيد سليم علوان يدها، وكيف ثملت بأحلام الثراء يوما وبعض يوم! لكم احترقت حسرة على ضياع هذا الرجل من يديها! ولكن شتان بين رجل ورجل! .. فإذا كان سليم علوان قد حرك - بثروته - جانبا من قلبها، فهذا الذي حرك قلبها كله حتى كاد يقتلعه. وعادت عيناها إلى دكان الحلاق فذكرت عباس الحلو، وتساءلت: ترى ماذا يفعل إذا رجع يوما من مهجره فلم يعثر لها على أثر؟! وذكرت وداعه الأخير على السلم بقلب متحجر، وعجبت كيف منحته شفتيها يقبلهما؟! ثم ولت النافذة ظهرها ومضت إلى الكنبة أشد ما تكون عزما وتصميما. ورجعت أمها إلى البيت ظهرا، فتناولتا غداءهما معا. وقالت لها المرأة في أثناء الطعام: «لدي زيجة مهمة، إذا وفقت فيها، فتح الله علينا.» فاستفسرت عن هذه الزيجة المرجوة بفتور، ولم تكد تلقي لما قالت بالا، وكثيرا ما كانت تقول مثل ذلك ثم يتمخض الرجاء عن بضعة جنيهات وأكلة لحم! أو أكلة لحم فحسب بالنسبة لها. ولما أن اضطجعت أمها لتنام قليلا، تربعت هي على الكنبة وراحت تطيل إليها النظر. هذا يوم الوداع، وربما لن تقع عليها عيناها بعد الآن. ولأول مرة عراها الضعف فدرت حناياها عطفا للمرأة التي آوتها وتبنتها وأحبتها ولم تعرف سواها أما، وتمنت لو تستطيع أن تقبلها قبلة الوداع.
وجاءت ساعة الأصيل فتلفعت بملاءتها وانتعلت شبشبها. وكانت يداها ترتعشان انفعالا واضطرابا، وقلبها يخفق بشدة. ولم يكن بد من أن تفارق أمها بغير وداع، فامتعضت، ثم رأتها آمنة لا تدري شيئا عما يخبئه لها الغد فازداد امتعاضها. وحم الرحيل فألقت عليها نظرة طويلة، ثم قالت وهي تهم بالمسير: فتك بعافية.
فقالت لها المرأة وهي تشعل سيجارة: مع السلامة .. لا تتأخري.
وغادرت البيت تلوح في وجهها أمارات الجد والاهتمام، وقطعت المدق لآخر مرة لا تلوي على شيء، وسارت من الصنادقية إلى الغورية، ثم انعطفت صوب السكة الجديدة وتقدمت في خطوات متمهلة. وأرسلت بصرها بعد تردد وإشفاق .. فرأته بموقف الأمس ينتظر! .. التهب خداها واجتاحتها موجة صاخبة من التمرد والغضب، وودت من أعماقها أن تثأر من ظفره هذا ثأرا يرد عليها بعض سكينتها. وغضت بصرها، ثم تساءلت: أتراه يبتسم الآن تلك الابتسامة الوقحة؟! .. ورفعت عينيها بنرفزة، ولكنها وجدته هادئا جادا رزينا يلوح في عينيه اللوزيتين الرجاء والاهتمام، فانفثأ هياجها قليلا. ومرت به وهي تتوقع أن يخاطبها، أو أن يأخذ يدها كما فعل بالأمس، ولكنه تجاهلها، وتريث قليلا حتى غيبها المنعطف، ثم تبعها متمهلا، فأدركت أنه بات أشد حذرا، وأعظم شعورا بخطورة الأمر. وسارت حتى أوشكت السكة الجديدة أن تنتهي، ثم توقفت بغتة كأنما ذكرت شيئا جديدا، وانفتلت راجعة، فتبعها قلقا وهمس لها متسائلا: ماذا أرجعك؟
فترددت قليلا ثم قالت وقد سامها النطق عناء: بنات المشغل.
فقال بارتياح: إلى الأزهر، فلا يرانا أحد.
Página desconocida