فأدركت المرأة مقصده وقالت بعجلة: لا عليك من هذا يا سي السيد، وما نسأل الله إلا الصحة والعافية.
وسلمت المرأة مرة أخرى وغادرت الوكالة وقد تركته أسوأ حالا وأشد انقباضا، وقد حدث عند ذاك أن انزلق شوال حناء من بين يدي عامل، فاشتد به الغضب، وانتهره بقسوة صائحا: ستغلق عما قريب الوكالة أبوابها، فابحثوا عن مرتزق جديد.
ولبث برهة ينتفض من شدة الغضب والتأثر. وكأن هذا الغضب ذكره بما اقترحه عليه أبناؤه أخيرا من تصفية أعماله والخلود للراحة، فتضاعف غضبه وهياجه، وجعل يقول لنفسه: إنها ليست راحته التي يبتغون، ولكنه المال، ألم يقترحوا عليه الاقتراح نفسه سابقا وهو في عنفوان قوته؟! .. فالمال طلبتهم، لا صحته ولا راحته. ونسي في غضبه أنه - هو نفسه - كبر عليه أن تنحصر آماله في العمل في الوكالة، وألا يجد لذة في الحياة إلا إرهاق النفس في جمع مال لا يستطيع أن يتمتع به، ولكنه العناد الذي أولع به أخيرا، وسوء ظنه بالناس جميعا الذي لم ينج أولاده أنفسهم وزوجه من بعض آثاره .. وقبل أن يفيق من حمى الغضب والهياج سمع صوتا جهيرا يقول في عمق وحنان معا: حمدا لله على السلامة .. السلام عليكم يا أخي.
فالتفت نحو مصدر الصوت فرأى السيد رضوان الحسيني مقبلا بجسمه الطويل العريض، ووجهه المشرق المتألق، فانبسطت أساريره لأول مرة وهم بالوقوف، ولكن السيد بادره بوضع راحته على منكبه وهو يقول: حلفتك بالحسين إلا ما جلست!
وتصافحا بحرارة. وكان السيد رضوان قد زار قصر الرجل مرات في أثناء مرضه، ولما لم يمكنه مقابلته بعث له بتحياته ودعواته. وجلس السيد على مقعد قريب وراحا يتحدثان في رقة ومودة، قال السيد سليم علوان بتأثر شديد: نجوت بأعجوبة!
فقال السيد رضوان بصوت عميق هادئ: الحمد لله رب العالمين .. نجوت بأعجوبة، وتعيش بأعجوبة، إن استمرار المرء ثانية واحدة من الزمان يحتاج لمعجزة ضخمة من القدرة الإلهية، فعمر أي إنسان فان .. سلسلة من المعجزات الإلهية، وما بالك بأعمار الناس جميعا، وحيوات الكائنات جميعا؟! فلنشكر الله بكرة وأصيلا، آناء الليل وأطراف النهار، وما أتفه شكرنا حيال هذه النعم الربانية!
وأصغى إليه في جمود، ثم تمتم قائلا بضجر: المرض شر قبيح.
فابتسم السيد رضوان وقال: ربما كان كذلك في ذاته؛ ولكنه من ناحية أخرى امتحان إلهي، وهو من هذه الناحية خير.
ولم يرتح الرجل لهذه الفلسفة، وحنق بغتة على قائلها، فضاع الأثر الطيب الذي أحدثه مجيئه، ولكنه لم يستسلم لانفعاله على غير عادته أخيرا، وقال بلغة وشت بتذمره: ماذا فعلت حتى ينزل بي هذا العقاب؟ .. ألا ترى أني فقدت صحتي إلى الأبد؟
فعبث السيد بلحيته الجميلة، وقال بشيء من المعاتبة: أين يقع علمنا الضحل من هذه الحكمة الباهرة؟! حقا إنك رجل طيب، بار، كريم، قوام على الفرائض، ولكن الله امتحن عبده أيوب وهو نبي، فلا تأس ولا تحزن، وأبشر بالإيمان خيرا.
Página desconocida