فسأله الرجل متحيرا: ماذا تعني يا أستاذ؟!
فانكفأ وجه زيطة غضبا وصاح به محتدا: أستاذ؟! أسمعتني أقرأ على القبور؟
فدهم غضبه الرجل، وبسط راحتيه مستعطفا وقال بصوت منكسر: معاذ الله .. ما قصدت إلا تبجيلك.
فبصق زيطة مرتين وقال منفعلا في زهو وعجب: إن عملي ليعجز أعظم أطباء البلد لو حاولوه. ألا تعلم أن إحداث عاهة كاذبة أشق من إحداث عاهة حقيقية ألف مرة؟ .. إن عاهة حقيقية لا تستقضيني أكثر من أن أبصق على وجهك.
فقال الرجل بأدب جم: لا تؤاخذني يا سيدي، إن الله غفور رحيم.
وسكت الغضب عن زيطة، وحدج الرجل بنظرة حادة، ثم قال بصوت لم تمح منه بعض آثار الحدة: قلت: إن الوقار أنفس عاهة. - كيف يا سيدي؟ - الوقار كفيل بأن يكتب لك النجاح كشحاذ نادر المثال. - الوقار يا سيدي؟!
فمد زيطة يده إلى كوز على الرف، واستخرج منه نصف سيجارة، ثم أعاده إلى موضعه، وأشعلها من فوهة زجاجة المصباح، وأخذ نفسا طويلا وهو يضيق عينيه البراقتين، وقال بهدوء: ليست العاهة بمطلبك، بل أنت في حاجة إلى مزيد من التحسين والتجميل. اغسل جلبابك جيدا، واحصل بأية طريقة على طربوش نصف عمر، وامش بقامتك المعتدلة هذه في خشوع وأدب، واقترب في إشفاق من رواد المقاهي، ثم قف في حياء، ومد يدك في تألم دون أن تنبس بكلمة، وتكلم بعينيك .. ألا تعرف لغة الأعين؟ .. ستحدق فيك العيون بدهشة، سيقولون: عزيز قوم ذل، ويقولون: محال أن يكون هذا من أولئك الشحاذين المحترفين. أفهمت الآن ما أريد؟ ستربح بوقارك أضعاف ما يربحه الآخرون بعاهاتهم.
وأمره أن يقوم بتجربة لدوره الجديد، ووقف يراقبه مدخنا سيجارته، وتفكر قليلا ثم قال مقطبا: ربما سولت لك نفسك أن تأكل أجري بحجة أني لم أصنع لك عاهة تستحق الأجر، وأنت حر تفعل ما تشاء، على شرط أن تولي وجهك وجهة غير حي الحسين العامر.
فتعوذ الرجل في إنكار وقال متألما: حاشاي أن أخون صاحب الفضل علي.
وانتهت المقابلة عند ذاك، فسار زيطة بين يدي الرجل ليدله على الطريق، ووصله حتى الباب الخارجي للفرن، وفي أثناء عودته لاحظ أن المعلمة حسنية متربعة على حصيرة بمفردها، وليس لجعدة من أثر، وكان من عادته إذا التقى بها أن يخلق سببا لمبادلتها كلمة أو كلمتين، توددا إليها، وإفصاحا عن إعجابه الكمين، فقال لها: أرأيت هذا الرجل؟
Página desconocida