فضحك الشاب ضحكة رقيقة وقال: بل أنوي الحضور حقا. - الليلة إذا!
ولما لم ينبس الفتى بكلمة، قال الآخر بتوكيد وقلبه يرقص طربا: لا بد!
فغمغم الشاب: بإذن الله.
فتنهد الرجل بصوت مسموع ثم سأله: أين تقيم؟ - عطفة الوكالة. - نحن جيران تقريبا. متزوج؟ - كلا .. مع أهلي.
فقال برقة: أنت ابن ناس طيبين كما يبدو لي. الإناء الطيب ينضح ماء طيبا. وينبغي أن ترعى مستقبلك بعين الاهتمام؛ إذ لا يجوز أن تبقى مدى العمر عاملا بسيطا في دكان.
فلاح الاهتمام والطموح في الوجه الجميل، وتساءل الشاب في خبث: وهل لمثلي أن يطمع في أكثر من هذا؟!
فقال المعلم كرشة باستهانة: هل ضاقت «بنا» الحيل! ألم يكن جميع الكبار صغارا؟! - بلى كانوا، ولكن ليس من المحتم أن ينقلب الصغير كبيرا.
فأردف المعلم يتم كلام الفتى: إلا إذا صادفه التوفيق! فلنذكر هذا اليوم الذي تعارفنا فيه على أنه توفيق عظيم. أنتظرك الليلة؟!
فتردد الفتى قليلا، ثم قال مبتسما: لا يأبى الكرامة إلا لئيم.
وتصافحا عند بوابة المتولي، ثم رجع المعلم يخبط في الظلماء. صحا الرجل الذاهل وسرى في صدره دفء السرور. ولم يكن يستيقظ من دنيا النسيان التي يغط فيها إلا إذا لطمته موجة عنيفة من شهواته الخبيثة، ومر في طريقه بالدكان المغلق فألقى عليه نظرة طويلة تفيض بالشوق. وعاد إلى الزقاق وقد أغلقت دكاكينه، وكانت تشمله الظلمة لولا النور المنبعث من القهوة. وكان جو القهوة - على خلاف الجو البارد في الخارج - دفئا يحفظ حرارته دخان الجوز وأنفاس السمار ووهج «النصبة»، وقد تربع الحاضرون على الأرائك يتحدثون ويحتسون الشاي والقهوة، والراديو يذيع ما في جوفه، فلا يلقى إلا الإعراض والإهمال كأنه خطيب ثقيل يخطب صما، ودار سنقر كالنحلة لا يسكن ولا يكف عن الصياح. واتفق عند حضوره أن كان عم كامل يسأل أصحابه أن يقنعوا عباس الحلو بالنزول عن الكفن المحتفظ له به، ولكنهم أبوا عليه ذلك وأنكروا غرضه، وقال له الدكتور البوشي: لا تفرط في كسوة الآخرة؛ إن الإنسان ليعيش كثيرا في دنياه عاريا، أما عتبة القبر فلا يمكن أن يجوزها عاريا مهما كان فقره.
Página desconocida