فابتسم عم كامل في ارتباك وقال: هب أن العمر قد امتد بي حتى تعود الحالة إلى ما كانت عليه قبل الحرب، ألا نكون قد خسرنا ثمن الكفن الغالي؟! - وهبك تموت غدا؟!
فقطب عم كامل وقال: لا قدر الله!
فقهقه الحلو ضاحكا وقال: عبثا تحاول أن تثنيني عما اعتزمت، سيبقى الكفن في حرز حريز حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وعاوده الضحك فضحك طويلا حتى شاطره الرجل ضحكه، ثم قال الشاب معاتبا: يا لك من رجل لا ترجى منه فائدة! هل استفدت منك مليما واحدا في حياتي؟! مطلقا. ذقنك جرداء لا تنبت، وكذلك شاربك. رأسك أصلع، وليس بهذه الدنيا الواسعة التي تدعوها جسمك شعرة واحدة أنتفع بحلقها! سامحك الله.
فابتسم عم كامل قائلا: جسم نظيف طاهر لن يشق على أحد غسله.
وقطع عليهما الحديث صوت يشبه العواء، فنظرا إلى داخل الزقاق فرأيا المعلمة حسنية الفرانة تنهال على زوجها جعدة بالشبشب، والرجل يتقهقر أمامها لا يملك لها دفعا، وصراخه يعلو حتى طبق الآفاق، فضحك الرجلان، وصاح عباس الحلو مخاطبا المرأة: العفو والرحمة يا معلمة!
ولكن المرأة لم تمسك حتى ارتمى جعدة عند قدميها باكيا مستعطفا. ولبث عباس ضاحكا، وهو يقول لعم كامل: ما أخلق جسمك بهذا الشبشب حتى يذوب شحمه!
وظهر عند ذاك حسين كرشة قادما من البيت في سرواله وقميصه وقبعته. كان ينظر في ساعة معصمه، تياها فخورا، وعيناه الصغيرتان الحاذقتان تمتلئان زهوا. وقد حيا صديقه الحلاق، ومضى إلى الكرسي داخل الصالون وجلس عليه ليحلق شعره في يوم عطلته. وقد نشأ الصديقان معا في زقاق المدق، كما رأيا نور الدنيا في بيت واحد، بيت السيد رضوان الحسيني، بيد أن عباس الحلو رأى هذا النور الدنيوي قبل صاحبه بثلاثة أعوام. وكان الحلو في ذلك الوقت يعيش في حضانة والديه، قبل أن يعرفه عم كامل ويشاطره شقته بخمسة عشر عاما. وقد قطع الصديقان الطفولة والصبا معا. وآخى بينهما الحب والمودة، وظلا على صداقتهما حتى بعد أن فرق بينهما العمل، فاشتغل عباس صبي حلاق بالسكة الجديدة، وعمل حسين صبيا في دكان دراجات بالجمالية. وقد تباينت أخلاقهما منذ البدء، ولكن لعل تباينهما هذا كان من أهم الأسباب التي أبقت على صداقتهما ومودتهما. كان عباس الحلو - ولا يزال - شخصا وديعا، دمث الأخلاق، طيب القلب، ميالا بطبعه إلى المهادنة والمصالحة والتسامح، أقصى ما يطمح إليه من فنون اللهو اللعب السلمي، أو ارتياد القهوة لتدخين الجوزة ولعب الكومي، مع نفور من اللجاج والشجار، ودراية في اتقائهما بالابتسامة الحلوة و«الله يسامحك يا عم.» وكان يحافظ على صلاته وصومه، ولا تفوته صلاة الجمعة في سيدنا الحسين. أجل أهمل الآن بعض هذه الفرائض، لا عن استهتار ولكن عن كسل، وما زال يحافظ على صلاة الجمعة وصوم رمضان. ولم يكن من النادر أن يتحرش به صاحبه حسين كرشة، ولكنه كان إذا شد صاحبه أرخى، فلم تصله قبضته القاسية قط. وعرف إلى ذلك بالقناعة والرضا، حتى إنه واصل عمله «صبيا» عشرة أعوام كاملة ولم يفتح دكانه الصغير إلا منذ خمسة أعوام، ومنذ ذلك التاريخ وهو يحسب أنه نال أرفع ما يطمح إليه. وقد ملأت هذه الروح القنوعة الراضية نفسه، فنطقت بها عيناه البارزتان الهادئتان، وجسمه البدين، وطابع المرح الذي لا يفارقه. أما حسين كرشة فكان من شطار الزقاق، مشتهرا بالنشاط والحذق والجراءة، بل هو معتد أثيم إذا دعا الداعي. وقد اشتغل بادئ أمره في قهوة أبيه، ولكنهما لم يتفقا، فهجرها وعمل بدكان الدراجات، ولبث بها حتى اندلع لهيب الحرب فالتحق بخدمة المعسكرات البريطانية، وبلغت يوميته بها ثلاثين قرشا - نظير ثلاثة قروش في عمله الأول - غير ما يسميه «أكل العيش يحب خفة اليد» فارتفعت حاله، وامتلأ جيبه، ورفه عن نفسه بحماس فائر لا يعترف بالحدود؛ فتمتع بالثياب الجديدة، وغشي المطاعم، وأكثر من أكل اللحوم التي هي في حسبانه طعام المحظوظين، وارتاد السينمات والملاهي، وعاقر الخمر، ورافق النساء، وربما أخذته نشوة كرم فدعا رفاقه إلى سطح البيت حيث يقدم لهم الطعام والنبيذ والحشيش. وفي نشوة من نشواته - كما يحكى عنه - قال لبعض مدعويه: «في بلاد الإنجليز يسمون من كان مثلي في بحبوحة العيش باللارج (Large) ، ولما كان مثله لا يعدم حاسدين فقد دعوه بحسين كرشة اللارج، ثم حرفت فيما بعد إلى حسين كرشة الجراج!»
أمسك عباس الحلو بالماكينة وأقبل على رأس صاحبه بهمة ونشاط، يصلح من أطرافها دون مساس بالشعر المفلفل الذي يكاد يقف من فظاظته وخشونته. ولم يكن يخلو من شعور بالحزن يساوره كلما التقى بذلك الصديق القديم. أجل ما زالا صديقين؛ ولكن الحياة تغيرت بطبيعة الحال، فلم يعد حسين كرشة يواظب على قضاء سهراته بقهوة أبيه كما كان يفعل في الأيام الخالية، مما دعا إلى ندرة اجتماع الصديقين. ولم يخل الأمر من عاطفة حسد تخامر فؤاد الحلاق كلما ذكر الهوة الواسعة التي تفصل بينهما. بيد أنه في حسده - كما هو في حياته - وديع عاقل لا يتهور ولا يتورط في خطأ، فلم ينل صاحبه بلفظ سوء، وكأنه يغبطه ولا يحسده، وربما قال لنفسه معزيا: «سوف تنتهي الحرب يوما، ويعود حسين إلى الزقاق معدما كما خرج منه.»
وجعل حسين كرشة - بثرثرته المعهودة - يحدث صاحبه عن حياة «الأورنس» والعمال والمرتبات والسرقات وما يحدث بينه وبين الإنجليز من نوادر ومداعبات! وعما يكنه الجنود لشخصه من الحب والإعجاب، قال:
Página desconocida