أضاء الصباح بجنبات الزقاق، وألقت الشمس شعاعا من أشعتها على أعلى جدران الوكالة ودكان الحلاق. وغدا سنقر صبي القهوة فملأ دلوا ورش الأرض . وكان المدق يقلب صفحة من صفحات حياته الرتيبة، وأهله يستقبلون الصباح بهتافاتهم المحفوظة. وفي هذه الساعة الباكرة ينشط عم كامل على غير عادته، فيقف أمام صينية البسبوسة يحف به صبية المدرسة الإلزامية ويمتلئ جيبه بالملاليم، وفي مواجهته أكب الحلاق العجوز على المواسي يشحذها، ومضى جعدة الفران يحمل العجين من البيوت، وأقبل العمال على الوكالة يفتحون أبوابها ومخازنها ويخرقون السكون المخيم بجلبتهم التي لا تنقطع طوال النهار، بينما تربع المعلم كرشة وراء صندوق الماركات في جلسة حالمة يقضم شيئا بثنيتيه ويلوكه في فمه، ثم يعتصره بقدح من القهوة، وقد جلس على كثب منه الشيخ درويش في صمت وغيبوبة. وفي هذه الساعة الباكرة أيضا تلوح الست سنية عفيفي في نافذتها، تشيع زوجها الشاب وهو يغادر الزقاق في طريقه إلى القسم. هكذا تطرد الحياة في المدق على وتيرة واحدة إلا أن يقلقها اختفاء فتاة من فتياته، أو ابتلاع السجن لرجل من رجاله، لكن سرعان ما تنداح هذه الفقاعات في بحيرته الهادئة أو الراكدة، فلا يكاد يأتي المساء حتى يجر النسيان ذيوله على ما جاء به الصباح. أضاء الصباح والزقاق يستقبل هذه الحياة الهادئة المطمئنة، ولما أن أقبل الضحى جاء حسين كرشة مكفهر الوجه، ملتهب الجفون من عدم النوم ليلة كاملة يضرب الأرض بخطوات ثقال، فمضى إلى مجلس أبيه وارتمى على كرسي لقاءه، وهو يقول بصوت غليظ دون تحية أو سلام: قتل عباس الحلو يا أبي.
وكان المعلم قد أوشك أن ينتهره لقضائه الليل خارج البيت، فلم ينبس بكلمة، وحملق في وجهه بعينين ذاهلتين، ولبث لحظات جامدا ساهما كأنه لم يفهم ما ألقي على سمعه، ثم سأل بانزعاج شديد: ماذا قلت؟
وكان حسين ينظر فيما أمامه بعينين شاردتين فقال بصوت أجش: قتل عباس الحلو! قتله الإنجليز!
وازدرد الفتى ريقه ثم أعاد على أبيه ما حدثه به عباس وهما يسيران في الموسكي قبيل مغيب أمس، وقال بصوت حاد مضطرب: وقد مضى بي ليريني الحانة التي وعدته إياها الفتاة الشريرة، وإنا لنمر ببابها إذ رأى العاهرة تعربد في جمع من الجنود، ففقد وعيه واندفع إلى داخل الحانة ورماها بزجاجة في وجهها قبل أن أتنبه لقصده، وهاج الجنود وانقضوا عليه عشرات وعشرات وأوسعوه ضربا حتى سقط بينهم لا حراك به.
وكور قبضته وقرض أسنانه قائلا بغضب: يا للشيطان! ما كان بوسعي أن أخف إلى نجدته! .. حالت دون ذلك جموع الجنود الكثيفة التي سدت الباب سدا .. آه، لو بلغت يدي عنق جندي من أولئك الملاعين!
وكان هذا ما يحز فؤاده حزا، وما يشب في صدره نار الغضب من غير انقطاع، حتى لقد انقلب إلى الزقاق يكاد يستخفي من الخزي والعار. أما المعلم كرشة فقد ضرب كفا بكف وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وماذا فعلتم به؟ - جاءت الشرطة بعد نفاذ القضاء، وضربوا حول الحانة حصارا، وما عسى أن يفيد الحصار؟ وحملوا جثته إلى قصر العيني، ونقلوا العاهرة إلى الإسعاف.
فسأل المعلم باهتمام: وهل قتلت؟
فأجاب الشاب والحقد يأكل رأسه: لا أظن .. لا أظن الضربة كانت قاتلة .. ضاع الفتى هدرا. - والإنجليز؟
فقال الشاب بلهجة أسيفة: تركناهم والشرطة تحيط بهم. ولكن من ذا يستطيع أن ينال منهم حقا؟
فضرب المعلم كفا بكف مرة أخرى وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وهل علم أهل الفتى بالخبر الأسود؟ اذهب إلى خاله عم حسن القباقيبي بالخرنفش وآذنه بموته، والله يفعل ما يريد.
Página desconocida