28
كان عم كامل جالسا على كرسيه على عتبة الدكان، مائلا رأسه على صدره غارقا في النعاس، والمنشة في حجره. ثم استيقظ على دبيب شيء على صلعته فتحركت يده حركة آلية ليطرد ما ظنه حشرة، ولكنها وقعت على كف آدمية، فقبض عليها ساخطا، وتأوه متذمرا، ورفع رأسه ليرد ذاك المداعب الثقيل الذي أيقظه من نعاسه اللذيذ، فوقعت عيناه على عباس الحلو .. لم يكد يصدق عينيه، فحملق فيه مشدوها، ثم اشتد احمرار وجهه المنفوخ فرحا، وهم بالنهوض، ولكن الشاب لم يمكنه من ذلك، واحتضنه بذراعيه فتعانقا عناقا حارا، والحلو يهتف به متأثرا: كيف حالك يا عم كامل؟
فيجيبه الرجل في لهفة وسرور: كيف أنت يا عباس .. أهلا وسهلا ومرحبا .. لشد ما أوحشتني يا عكروت!
ووقف الحلو بين يديه مبتسما، والآخر يتطلع إليه بعينين شيقتين. وكان يرتدي قميصا أبيض وبنطلونا رماديا، وقد حسر رأسه ورجل شعره فبدا أنيقا حسن المنظر، موفور الصحة، مورد الوجه، فرمقه عم كامل بإعجاب وقال بصوته الرفيع: ما شاء الله أنت رائع يا جوني!
فضحك عباس الحلو ضحكة رنانة صاعدة من قلب جذل وقال: ثنك يو .. لن يرطن الشيخ درويش بالإنجليزية وحده بعد اليوم!
وأجال الشاب عينيه في الزقاق المحبوب، فوقعتا على دكانه القديم، ورأى صاحبه الجديد مكبا على حلق ذقن زبون، فرنا إلى الدكان رنوة حنان وتحية. ثم طار بصره إلى النافذة فوجدها مغلقة كما كانت حين قدومه، فتساءل: ترى أهي في الدار أم في الخارج؟ وما عسى أن تفعل إذا فتحت الباب فوجدت أنه الطارق؟ سوف تحملق في وجهه بدهشة وذهول، فيملأ عينيه من حسنها الباهر! هذا يوم أغر من الأيام المعدودة في العمر. وانتبه إلى صوت عم كامل وهو يقول متسائلا: أتركت عملك؟ - كلا، ولكني أخذت إجازة قصيرة. - ألم تدر بما حصل لصاحبك حسين كرشة؟ هجر أباه، وتزوج، ثم استغنوا عنه فعاد إلى بيته يجر وراءه زوجه وشقيقها.
فلاح الأسف في وجه الحلو وقال: يا لسوء الحظ .. إنهم يستغنون عن العمال كثيرا في هذه الأيام .. وكيف استقبله المعلم كرشة؟
فمط عم كامل بوزه وقال: لا يفتأ شاكيا متبرما؛ أما الفتى وأهله فيقيمون في الدار.
وسكت الرجل نصف دقيقة، ثم قال متعجلا كأنما ذكر أمرا هاما: أما علمت بأن الدكتور بوشي وزيطة مسجونان؟!
ثم قص عليه كيف قبض عليهما في قبر الطالبي متلبسين بجريمة سرقة طقمه الذهبي. وقد وجم الحلو وجوما شديدا، ولم يكن يستبعد أن يرتكب زيطة أشنع الجرائم، ولكنه عجب للدكتور بوشي كيف سولت له نفسه اقتراف هذه الجريمة النكراء .. وذكر كيف طلب إليه أن يركب له طقما حين عودته من التل الكبير، فالتوت شفتاه امتعاضا وتقززا.
Página desconocida