وأنت، أيها الظلام، أمين على مواعدك، دقيق في الوفاء بها. ما شرعت الشمس مرة في الأفول إلا دنوت أنت متلمسا متمهلا، كأنك ذلك المحب المحبوب الذي ينفث في روع إلفه الكلمة المنتظرة طويلا قبل أن ينبس بها، ويقولها بأساليب شتى قبل انتهاج الأسلوب الأوحد.
واليوم، لدن حلولك، تتكيف غيوم المغرب متلونات وتترجرج خلالها الأنجم الزاهرات، كأن هذه وتلك أوسمة العز، وأشرطة الفخار على صدور الأبطال.
وأقواس النصر هيفاء تحت بنود ألوية تعاقدن عليها، والأنوار تتغامز متفاهمات عن بعد كأرواح الأحباب، وأجواق الموسيقى تنبثق من جميع الشوارع والزوايا، والجيوش تجوب الأحياء بطبولها دون أن يعلم من أين تجيء وأنى تغدو.
ولأسراب الطيارات عزيف إذ تحلق في السماوات العلى باعثات من جوانبها إلى الأرض بذيول الضياء، مرصعات هواء الشفق ببسمة نجوم البرايا لنجوم الباري.
هو ذا مائج على الآفاق لألاء المواسم والأعياد. ومن أحشاء المدينة يصعد هزج النشوة والظفر. كل شيء يلمع ويموج ويهتف ويتلظى. وقد سرت إلي عدوى الطرب، فها أنا أعتلي سطوح الحمى لأشرف على فرح الفارحين وأنال منه نصيبي.
ولكن ...
عاملان اثنان يتجاذبان الجنان: الحزن والسرور، على أن قطرة حزن في عمقها توازي بحر سرور في اتساعه. •••
إذ بينا الإنسان يبتهج حاسبا أن أنظمة الاجتماع قد انحلت، ونواميس الطبيعة توقفت حتى انقضاء سروره، إذا بالنواميس والأنظمة نافذة في أدق مغازيها. ... وفي وسط الهتاف المنسجم تعالت نغمة شاذة.
وقفت عند الزاوية المشرفة على الديار المجاورة أبحث عن مصدر الأجيج، وما لبثت أن عثرت عليه في فاجعة من فواجع البؤس العديدة، تلك التي تذوب حيالها لفائف القلوب.
هاك أربعة رجال على أحد السطوح المحاذية يعالجون أمتعة أخرجت من غرفة صغيرة، ويزجرون امرأة بينهم تتوسل وتنتحب؛ مسكينة احدودب ظهرها، وقبحت هيئتها، ونثر شتاء العمر على هامتها ثلج الشيخوخة. لقد مرت شهور خمسة ولم تؤد بدل الإيجار، فتسلح المالك القوي بالقانون وحجز متاعها ليباع بالمزاد، وأما هي فتطرد طردا من الغرفة الصغيرة القائمة في طرف السطح، وتطرد من المنزل إلى تحت قبة السماء.
Página desconocida