ويقول بعد: إن كل أمة امتازت بشيء، فأهل الصين في الصناعات، واليونان في الحكم والآداب، والفرس في الملك والسياسة؛ والعرب لم يكونوا تجارا ولا صناعا ولا أطباء ولا حسابا، ولا طلبوا المعاش من ألسنة المكاييل والموازين، ولم يحتملوا ذلا قط فيميت قلوبهم، ويصغر عندهم أنفسهم، وكانوا سكان فياف، وتربية عراء، فوجهوا قواهم إلى قول الشعر، وبلاغة المنطق، وتثقيف اللغة، وتصريف الكلام، وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآثار، والبصر بالخيل والسلاح، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس ، وإحكام شأن المناقب والمثالب ومزية الأتراك في الحروب، وهم كذلك أصحاب عمد، وسكان فياف، وأرباب مواش، وهم أعراب العجم، كما أن هذيلا أكراد العرب، لم تشغلهم الصناعات ولا التجارات، ولا الطب والفلاحة والهندسة، ولا غراس ولا بنيان، ولا شق أنهار، ولا جباية غلات، ولم يكن همهم غير الغزو والغارة والصيد، وركوب الخيل، ومقارعة الأبطال، وطلب الغنائم، وتدويخ البلاد، لذتهم في الحرب، وهي فخرهم وحديثهم وسمرهم، وقد اتصفوا بالصفات التي تستتبع النجدة والفروسية، من الكرم وبعد الهمة وطلب الغاية، والحزم والعزم والصبر.
وبذلك انتهت رسالته الطويلة التي أوجزناها إيجازا تاما.
ومنها نستدل على أن العصبية في هذا العصر كانت شديدة قوية؛ كل عنصر يعدد مزاياه، ويدل بها على من سواه؛ فعربي يفخر بلسانه وسيفه، وفارسي يفخر بسياسته وملكه ... إلخ؛ وأن الأتراك كانت مزيتهم حسن القتال وما يستتبعه من صفات، فلم يفخروا بعلم ولا سياسة ولا بسابقة دين ولا شيء من ذلك، فلما كان هذا شأنهم في قوة القتال، غلبوا على كل سلطان.
أراد الفتح بن خاقان والجاحظ أن ينشرا عقيدة الوحدة بين الجنود وتناسي الأجناس، ولكن أنى لهما ذلك، والدين نفسه لم يستطع أن يمحو هذه العصبية، وعمل الأتراك أنفسهم باستبدادهم وطغيانهم يحيي العصبية ويجعلها وسيلة للدفاع عن النفس، بل وطريقة الجاحظ التي سلكها في مناقب الأتراك من شأنها أن تقوي العصبية لا أن تضعفها؟!
كان طبيعيا أن يزداد نفوذ الأتراك بقتلهم المتوكل وتنصيبهم المنتصر. وقد حكى الطبري «أن المنتصر عزم على أن يغزي وصيفا التركي؛ الثغر الشامي، فقال أحمد بن الخصيب للمنتصر: «ومن يجترئ على الموالي - الأتراك - حتى تأمر وصيفا بالشخوص؟!»»
21
وأمر الأتراك المنتصر أن يخلع أخويه المعتز والمؤيد من الخلافة خوفا أن ينتقما - إذا وليا - من قتلة المتوكل، وكان لذلك كارها، فدعاهما المنتصر، والأتراك وقوف وقال: «أترياني خلعتكما طمعا في أن أعيش حتى يكبر ولدي وأبايع له؟ والله ما طمعت في ذلك ساعة قط، وإذا لم يكن في ذلك طمع، فوالله لأن يليها بنو أبي أحب إلي من أن يليها بنو عمي، ولكن هؤلاء - وأومأ إلى سائر الموالي؛ يريد الأتراك - ألحوا علي في خلعكما، فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة فيأتي عليكما.»
22
فلما مات المنتصر بعد خلافته بستة أشهر، وقبل أن يستخلف خليفة بعده، استحلف القواد الأتراك والمغاربة والأشروسنية على أن يرضوا بمن يرضى به بغا الكبير وبغا الصغير وأتامش، وجميعهم أتراك، وهؤلاء قد اختاروا أحمد بن محمد المعتصم، ولقبوه المستعين فبايعه سائر الناس.
ضايق الأتراك المستعين بعد ذلك، وضايقوا الناس حتى ضج وضجوا، ودبروا المؤامرات لاغتياله، فهرب من سامرا إلى بغداد، فذهبوا إليه يعتذرون، فقال لهم: «أنتم أهل بغي وفساد واستقلال للنعم، ألم ترفعوا إلي في أولادكم فألحقتهم بكم، وهو نحو من ألفي غلام؟! وفي بناتكم، فأمرت بتصييرهن في عداد المتزوجات، وهن نحو أربعة آلاف امرأة؟! وفي المدركين والمولودين، وكل هذا قد أجبتكم إليه، وأدررت لكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضة، ومنعت نفسي لذتها وشهوتها؛ كل ذلك إرادة لصلاحكم ورضاكم، وأنتم تزدادون بغيا وفسادا، وتهددا وإبعادا.»
Página desconocida