الْفَصْل الاول الصِّرَاط الْمُسْتَقيم فِي الزّهْد وَالْعِبَادَة والورع
قَالَ الشَّيْخ ﵀ أهمية لُزُوم السّنة فصل فِي الصِّرَاط الْمُسْتَقيم فِي الزّهْد وَالْعِبَادَة والورع فِي ترك الْمُحرمَات والشهوات والاقصتاد فِي الْعِبَادَة وَأَن لُزُوم السّنة هُوَ يحفظ من شَرّ النَّفس والشيطان بِدُونِ الطّرق المبتدعة فَإِن أَصْحَابهَا لَا بُد أَن يقعوا فِي الآصار والأغلال وَإِن كَانُوا متأولين فَلَا بُد لَهُم من اتِّبَاع الْهوى وَلِهَذَا سمي أَصْحَاب الْبدع أَصْحَاب الْأَهْوَاء فَإِن طَرِيق السّنة علم وَعدل وَهدى وَفِي الْبِدْعَة جهل وظلم وفيهَا اتِّبَاع الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس معنى الضلال والغي والرشد وَالرَّسُول مَا ضل وَمَا غوى والضلال مقرون بالغي فَكل غاو ضال والرشد ضد الغي وَالْهدى ضد الضلال وَهُوَ مجانبة طَرِيق الْفجار وَأهل الْبدع كَمَا كَانَ السّلف ينهون عَنْهُمَا قَالَ تَعَالَى فخلف من بعدهمْ خلف أضاعوا الصَّلَاة وَاتبعُوا الشَّهَوَات فَسَوف يلقون غيا
1 / 9
والغي فِي الأَصْل مصدر غوى يغوي غيا كَمَا يُقَال لوى يلوي ليا وَهُوَ ضد الرشد كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِن يرَوا سَبِيل الرشد لَا يتخذوه سَبِيلا وان سَبِيل الغي يتخذوه سَبِيلا والرشد الْعَمَل الَّذِي ينفع صَاحبه والغي الْعَمَل الَّذِي يضر صَاحبه فَعمل الْخَيْر رشد وَعمل الشَّرّ غي وَلِهَذَا قَالَت الْجِنّ وَإِنَّا لَا نَدْرِي أشر أُرِيد بِمن فِي الأَرْض أم أَرَادَ بهم رَبهم رشدا فقابلوا بَين الشَّرّ وَبَين الرشد وَقَالَ فِي آخر السُّورَة قل اني لَا أملك لكم ضرا وَلَا رشدا وَمِنْه الرشيد الَّذِي يسلم إِلَيْهِ مَاله وَهُوَ الَّذِي يصرف مَاله فِيمَا ينفع لَا فِيمَا يضر وَقَالَ الشَّيْطَان ولأعوينهم أَجْمَعِينَ الا عِبَادك مِنْهُم المخلصين وَهُوَ أَن يَأْمُرهُم بِالشَّرِّ الَّذِي يضرهم فيطيعونه كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم من سُلْطَان الا أَن دعوتكم فاستجبتم لي وَقَالَ وبرزت الْجَحِيم للغاوين الى أَن قَالَ فكبكبوا فِيهَا هم والغاوون وجنود ابليس أَجْمَعُونَ وَقَالَ قَالَ الَّذين حق عَلَيْهِم القَوْل رَبنَا هَؤُلَاءِ الَّذين أغويناهم غوينا وَقَالَ مَا ضل ضاحبكم وَمَا غوى
1 / 10
ثمَّ ان الغي اذا كَانَ اسْما لعمل الشَّرّ الَّذِي يضر صَاحبه فَإِن عَاقِبَة الْعَمَل أَيْضا تسمى غيا كَمَا ان عَاقِبَة الْخَيْر تسمى رشدا كَمَا تسمى عَاقِبَة الشَّرّ شرا وعاقبة الْخَيْر خيرا وعاقبة الْحَسَنَات حَسَنَات وعاقبة السَّيِّئَات سيئات فالحسنات والسيئات فِي كتاب الله يُرَاد بهَا أَعمال الْخَيْر وأعمال الشَّرّ كَمَا يُرَاد بهَا النعم والمصائب وَالْجَزَاء من جنس الْعَمَل فَمن عمل خيرا وحسنات لَقِي خيرا وحسنات وَمن عمل شرا وسئيات لَقِي شرا وسيئات كَذَلِك من عمل غيا لَقِي غيا وَترك الصَّلَاة وَاتِّبَاع الشَّهَوَات غي يلقى صَاحبه غيا فَلهَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ كل شَرّ عِنْد الْعَرَب غي وكل خير رشاد كَمَا قيل فَمن يلق خيرا يحمد النَّاس أمرهومن يغولا يعْدم على الغي لائما وَقَالَ الزّجاج جَزَاؤُهُ غي لقَوْله يلق أثاما أَي مجازاة آثام وَفِي الحَدِيث الْمَأْثُور ان غيا وَاد فِي جَهَنَّم تستعيذ مِنْهُ أَوديتهَا وَهَذَا تَعْبِير عَن ملاقاة الشَّرّ وَقَالَ سُبْحَانَهُ أضاعوا الصَّلَاة وَاتبعُوا الشَّهَوَات فَإِن الصَّلَاة فِيهَا ارادة وَجه الله كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه أَي يصلونَ صَلَاة الْفجْر وَالْعصر والداعي يقْصد ربه ويريده فَتكون الْقُلُوب فِي هَذِه الْأَشْيَاء مريدة لِرَبِّهَا محبَّة لَهُ
1 / 11
اتِّبَاع الشَّهَوَات وَاتِّبَاع الشَّهَوَات هُوَ اتِّبَاع مَا تشتهيه النَّفس فَإِن الشَّهَوَات جمع شَهْوَة والشهوة هِيَ فِي الأَصْل مصدر وَيُسمى المشتهى شَهْوَة تَسْمِيَة للْمَفْعُول باسم الْمصدر قَالَ تَعَالَى وَيُرِيد الَّذين يتبعُون الشَّهَوَات أَن تميلوا ميلاعظيما فَجعل التَّوْبَة فِي مُقَابلَة اتِّبَاع الشَّهَوَات فَإِنَّهُ يُرِيد أَن يَتُوب علينا أَي فَالله يحب لنا ذَلِك ويرضاه وَيَأْمُر بِهِ وَيُرِيد الَّذين يتبعُون الشَّهَوَات وهم الْغَاوُونَ أَن تميلوا ميلًا عَظِيما يعدل بكم عَن الصِّرَاط الْمُسْتَقيم الى اتِّبَاع الشَّهَوَات عُدُولًا عَظِيما فَإِن أصل الْميل الْعُدُول فَلَا بُد مِنْهُ للَّذين يتبعُون الشَّهَوَات كَمَا قَالَ ﷺ اسْتَقِيمُوا وَلنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَن خير أَعمالكُم الصَّلَاة وَلَا يحافظ على الْوضُوء الا مُؤمن رَوَاهُ أَحْمد وَابْن مَاجَه من حَدِيث ثَوْبَان فَأخْبر أَنا لَا نطيق الاسْتقَامَة أَو ثَوَابهَا اذا استقمنا وَقَالَ وَلنْ تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء وَلَو حرصتم فَلَا تميلوا كل الْميل فتذروها كالمعلقة فَقَوله كل الْميل أَي يُرِيد نِهَايَة الْميل يُرِيد الزيغ عَن الطَّرِيق والعدول عَن سَوَاء الصِّرَاط الى نِهَايَة الشَّرّ بل اذا بليت بذلك فتوسط وعد الى الطَّرِيق بِالتَّوْبَةِ كَمَا فِي الحَدِيث عَن النَّبِي صلى اله عَلَيْهِ وَسلم مثل الْمُؤمن كَمثل
1 / 12
الْفرس فِي آخيته يجول ثمَّ يرجع الى آخيته كَذَلِك الْمُؤمن يجول ثمَّ يرجع الى ربه قَالَ تَعَالَى وسارعوا الى مغْفرَة من ربكُم وجنة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض أعدت لِلْمُتقين الى قَوْله وَنعم أجر العاملين فَلم يقل لَا يظْلمُونَ وَلَا يذنبون بل قَالَ اذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا أنفسهم أَي بذنب آخر غير الْفَاحِشَة فعطف الْعَام على الْخَاص كَمَا قَالَ مُوسَى رب اني ظلمت نَفسِي وَقَالَت بلقيس رب اني ظلمت نَفسِي وَقَالَ تَعَالَى عُمُوما عَن أهل الْقرى الْمهْلكَة وَمَا ظلمناهم وَلكم ظلمُوا أنفسهم فظلموا أنفسهم بارتكابهم مَا نهوا عَنهُ وبعصيانهم لأنبيائهم وبتركهم التَّوْبَة الى رَبهم وَقَوله تَعَالَى ذكرُوا الله فاستغفروا لذنوبهم وَلِهَذَا قَالَ وَالله يُرِيد أَن يَتُوب عَلَيْكُم ثمَّ قَالَ يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم وَخلق الانسان ضَعِيفا قَالَ مُجَاهِد وَغَيره يتبعُون الشَّهَوَات الزِّنَا وَقَالَ
1 / 13
ابْن زيد هم أهل الْبَاطِل وَقَالَ السّديّ هم الْيَهُود وَالنَّصَارَى والجميع حق فَإِنَّهُم قد يتبعُون الشَّهَوَات مَعَ الْكفْر وَقد يكون مَعَ الِاعْتِرَاف بِأَنَّهَا مَعْصِيّة ثمَّ ذكر أَنه خلق الانسان ضَعِيفا وَسِيَاق الْكَلَام يدل على أَنه ضيف عَن ترك الشَّهَوَات فَلَا بُد لَهُ من شَهْوَة مُبَاحَة يَسْتَغْنِي بهَا عَن الْمُحرمَة وَلِهَذَا قَالَ طَاوُوس وَمُقَاتِل ضَعِيف فِي قلَّة الصَّبْر عَن النِّسَاء وَقَالَ الزّجاج وَابْن كيسَان ضَعِيف الْعَزْم عَن قهر الْهوى وَقيل ضَعِيف فِي أصل الْخلقَة وَلِأَنَّهُ خلق من مَاء مهين يرْوى ذَلِك عَن الْحسن لَكِن لَا بُد أَن يُوجد مَعَ ذَلِك أَنه ضَعِيف عَن الصَّبْر يُنَاسب مَا ذكر فِي الْآيَة فانه قَالَ يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم وَهُوَ تسهيل التَّكْلِيف بِأَن يُبِيح لكم مَا تحتاجون اليه وَلَا تصبروا عَنهُ كَمَا أَبَاحَ نِكَاح الفتيات وَقد قَالَ قبل ذَلِك لمن خشِي الْعَنَت مِنْكُم وَأَن تصبروا خير لكم وَالله غَفُور رَحِيم فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ اباحته نِكَاح الاماء عِنْد عدم الطول وخشية الْعَنَت قَالَ وَأَن تصبروا خير لكم فَدلَّ ذَلِك على أَنه يُمكن الصَّبْر مَعَ خشيَة الْعَنَت وَأَنه لَيْسَ النِّكَاح كاباحة الْميتَة عِنْد المخمصة فَإِن ذَلِك لَا يُمكن الصَّبْر عَنهُ حكم الاستمناء وَكَذَلِكَ من أَبَاحَ الاستمناء عِنْد الضَّرُورَة فالصبر عَن الاستمناء أفضل فقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَن نِكَاح الاماء خير مِنْهُ وَهُوَ خير من
1 / 14
الزِّنَا فَإِذا كَانَ الصَّبْر عَن نِكَاح الاماء أفضل فَعَن الاستمناء بطرِيق الأولى أفضل لَا سِيمَا وَكثير من الْعلمَاء أَو أَكْثَرهم يجزمون بِتَحْرِيمِهِ مُطلقًا وَهُوَ أحد الْأَقْوَال فِي مَذْهَب أَحْمد وَاخْتَارَهُ ابْن عقيل فِي الْمُفْردَات وَالْمَشْهُور عَنهُ يَعْنِي عَن أَحْمد أَنه محرم الا اذا خشِي الْعَنَت وَالثَّالِث أَنه مَكْرُوه الا اذا خشِي الْعَنَت فَإِذا كَانَ الله قد قَالَ فِي نِكَاح الاماء وَأَن تصبروا خير لكم فَفِيهِ أولى وَذَلِكَ يدل على أَن الصَّبْر عَن كِلَاهُمَا مُمكن فَإِذا كَانَ قد أَبَاحَ مَا يُمكن الصَّبْر عَنهُ فَذَلِك لتسهيل التَّكْلِيف كَمَا قَالَ تَعَالَى يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم وَخلق الانسان ضَعِيفا والاستمناء لَا يُبَاح عِنْد أَكثر الْعلمَاء سلفا وخلفا سَوَاء خشِي الْعَنَت أَو لم يخْش ذَلِك وَكَلَام ابْن عَبَّاس وَمَا رُوِيَ عَن أَحْمد فِيهِ انما هُوَ لمن خشِي الْعَنَت وَهُوَ الزِّنَا واللواط خشيَة شَدِيدَة خَافَ على نَفسه من الْوُقُوع فِي ذَلِك فأبيح لَهُ ذَلِك لتكسير شدَّة عنته وشهوته وَأما من فعل ذَلِك تلذذا أَو تذكرا أَو عَادَة بِأَن يتَذَكَّر فِي حَال استمناءه صُورَة كَأَنَّهُ يُجَامِعهَا فَهَذَا كُله محرم لَا يَقُول بِهِ أَحْمد وَلَا غَيره وَقد أوجب فِيهِ بَعضهم الْحَد وَالصَّبْر عَن هَذَا من الْوَاجِبَات لابد من المستحبات وجوب الصَّبْر عَن الْمُحرمَات وَأما الصَّبْر عَن الْمُحرمَات فَوَاجِب وَإِن كَانَت النَّفس تشتهيها وتهواها قَالَ تَعَالَى وليستعفف الَّذين لَا يَجدونَ نِكَاحا حَتَّى يغنيهم الله من فَضله والاستعفاف هُوَ ترك الْمنْهِي عَنهُ كَمَا فِي الحَدِيث
1 / 15
الصَّحِيح عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ من يستعفف يعفه الله وَمن يسْتَغْن يغنه الله وَمن يتصبر يصبره الله وَمَا أعطي لأحد عَطاء خيرا وأوسع من الصَّبْر فالمستغني لَا يستشرف بِقَلْبِه والمستعف هُوَ الَّذِي لَا يسْأَل النَّاس بِلِسَانِهِ والمتصبر هُوَ الَّذِي لَا يتَكَلَّف الصَّبْر فَأخْبر أَنه من يتصبر يصبره الله وَهَذَا كَأَنَّهُ فِي سِيَاق الصَّبْر على الْفَاقَة بِأَن يصبر على مرَارَة الْحَاجة لَا يجزع مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ من الْفقر وَهُوَ الصَّبْر فِي البأساء وَالضَّرَّاء قَالَ تَعَالَى وَالصَّابِرِينَ فِي البأساء وَالضَّرَّاء وَحين الْبَأْس الصَّبْر على الْبلَاء وَالضَّرَّاء وَالْمَرَض وَهُوَ الصَّبْر على مَا ابْتُلِيَ بِهِ من حَاجَة وَمرض وَخَوف وَالصَّبْر على مَا ابْتُلِيَ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ كالجهاد فَإِن الصَّبْر عَلَيْهِ أفضل من الصَّبْر على الْمَرَض الَّذِي يبتلى بِهِ بِغَيْر اخْتِيَاره وَلذَلِك اذا ابْتُلِيَ بالعنت فِي الْجِهَاد فالصبر على ذَلِك أفضل من الصَّبْر عَلَيْهِ فِي بَلَده لِأَن هَذَا الصَّبْر من تَمام الْجِهَاد وَكَذَلِكَ لَو ابْتُلِيَ فِي الْجِهَاد بفاقة أَو مرض حصل بِسَبَبِهِ كَانَ الصَّبْر عَلَيْهِ أفضل كَمَا قد بسط هَذَا فِي مَوَاضِع
1 / 16
الصَّبْر على الطَّاعَات وَكَذَلِكَ مَا يُؤْذِي الانسان بِهِ فِي فعله للطاعات كَالصَّلَاةِ وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَطلب الْعلم من المصائب فصبره عَلَيْهَا أفضل من صبره على مَا ابْتُلِيَ بِهِ بِدُونِ ذَلِك وَكَذَلِكَ اذا دَعَتْهُ نَفسه الى مُحرمَات من رئاسة وَأخذ مَال وَفعل فَاحِشَة كَانَ صبره عَنهُ أفضل من صبره على مَا هُوَ دون ذَلِك فَإِن أَعمال الْبر كلما عظمت كَانَ الصَّبْر عَلَيْهَا أعظم مِمَّا دونهمَا فَإِن فِي الْعلم والامارة وَالْجهَاد وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالصَّلَاة وَالْحج وَالصَّوْم وَالزَّكَاة من الْفِتَن النفسية وَغَيرهَا مَا لَيْسَ فِي غَيرهَا ويعرض فِي ذَلِك ميل النَّفس الى الرِّئَاسَة وَالْمَال والصور فَإِذا كَانَت النَّفس غير قادرة على ذَلِك لم تطمع فِيهِ كَمَا تطمع مَعَ الْقُدْرَة فَإِنَّهَا مَعَ الْقُدْرَة تطلب تِلْكَ الْأُمُور الْمُحرمَة بِخِلَاف حَالهَا بِدُونِ الْقُدْرَة فَإِن الصَّبْر مَعَ الْقُدْرَة جِهَاد بل هُوَ من أفضل الْجِهَاد وأكمل من ثَلَاثَة أوجه أَحدهمَا أَن الصَّبْر عَن الْمُحرمَات أفضل من الصَّبْر على المصائب الثَّانِي أَن ترك الْمُحرمَات مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا وَطلب النَّفس لَهَا أفضل من تَركهَا بِدُونِ ذَلِك الثَّالِث أَن طلب النَّفس لَهَا اذا كَانَ بِسَبَب أَمر ديني كمن خرج لصَلَاة أَو طلب علم أَو جِهَاد فابتلي بِمَا يمِيل اليه من ذَلِك فَإِن صبره عَن ذَلِك يتَضَمَّن فعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور بِخِلَاف مَا اذا مَالَتْ نَفسه الى ذَلِك بِدُونِ عمل صَالح وَلِهَذَا كَانَ يُونُس بن عبيد يُوصي بِثَلَاث
1 / 17
يَقُول لَا تدخل على سُلْطَان وَإِن قلت آمره بِطَاعَة الله وَلَا تدخل على امْرَأَة وَإِن قلت أعلمها كتاب الله وَلَا تصنع أُذُنك الى صَاحب بِدعَة وان قلت أرد عَلَيْهِ فَأمره بالاحتراز من أَسبَاب الْفِتْنَة فَإِن الانسان اذا تعرض لذَلِك فقد يفتتن وَلَا يسلم فَإِذا قدر أَنه ابْتُلِيَ بذلك بِغَيْر اخْتِيَاره أَو دخل فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ وابتلي فَعَلَيهِ أَن يَتَّقِي الله ويصبر ويخلص ويجاهد وَصَبره على ذَلِك وسلامته مَعَ قِيَامه بِالْوَاجِبِ من أفضل الْأَعْمَال كمن تولى ولَايَة وَعدل فِيهَا أَو رد على أَصْحَاب الْبدع بِالسنةِ الْمَحْضَة وَلم يتفنوه أَو علم النِّسَاء الدّين على الْوَجْه الْمَشْرُوع من غير فتْنَة الِابْتِلَاء لَكِن الله اذا ابتلى العَبْد وَقدر عَلَيْهِ أَعَانَهُ واذا تعرض العَبْد بِنَفسِهِ الى الْبلَاء وَكله الله الى نَفسه كَمَا قَالَ النَّبِي ﷺ لعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة لَا تسْأَل الامارة فَإنَّك ان أعطيتهَا عَن مَسْأَلَة وكلت اليها وَإِن أعطيتهَا عَن غير مَسْأَلَة أعنت عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الطَّاعُون اذا بِبَلَد وَأَنْتُم بهَا فَلَا تخْرجُوا فِرَارًا مِنْهُ واذا سَمِعْتُمْ بِهِ
1 / 18
بِأَرْض فَلَا تقدمُوا عَلَيْهِ فَمن فعل مَا أمره الله بِهِ فعرضت لَهُ فتْنَة من غير اخْتِيَاره فَإِن الله يُعينهُ عَلَيْهَا بِخِلَاف من تعرض لَهَا التَّوْبَة لَكِن بَاب التَّوْبَة مَفْتُوح فَإِن الرجل قد يسْأَل الامارة فيوكل اليها ثمَّ ينْدَم فيتوب من سُؤَاله فيتوب الله عَلَيْهِ ويعينه اما على اقامة الْوَاجِب واما على الْخَلَاص مِنْهَا وَكَذَلِكَ سَائِر الْفِتَن كَمَا قَالَ قل يَا عباري الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم لَا تقنطوا من رَحْمَة الله ان الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا وَهَذِه الْأُمُور تحْتَاج الى بسط لَا يَتَّسِع لَهُ هَذَا الْموضع الْهِدَايَة وَالْمَقْصُود أَن الله سُبْحَانَهُ يُرِيد أَن يبين لنا ويهدينا سنَن الَّذين من قبلنَا الَّذين قَالَ فيهم أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده وهم الَّذين أمرنَا أَن نَسْأَلهُ الْهِدَايَة لسبيلهم فِي قَوْله اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صرط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم فَهُوَ يحب لنا ويأمرنا أَن نتبع صِرَاط هَؤُلَاءِ وَهُوَ سَبِيل من أناب اليه فَذكر هُنَا ثَلَاثَة أُمُور الْبَيَان وَالْهِدَايَة وَالتَّوْبَة
1 / 19
المُرَاد بالسنن وَقيل المُرَاد بالسنن هُنَا سنَن أهل الْحق وَالْبَاطِل أَي يُرِيد أَن يبين لنا سنَن هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء فيهدي عباده الْمُؤمنِينَ الى الْحق ويضل آخَرين فَإِن الْهدى والضلال انما يكون بعد الْبَيَان كَمَا قَالَ وَمَا أرسلنَا من رَسُول الا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم فيضل الله من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم وَقَالَ وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد اذ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ فَتكون سنَن مُتَعَلقا بيبين يَعْنِي سنَن أهل الْبَاطِل لَا بيهدي وَأهل الْحق مُتَعَلق بقوله وَيهْدِيكُمْ وَقَالَ الزّجاج السّنَن الطّرق فَالْمَعْنى بدلكم على طَاعَته كَمَا دلّ الْأَنْبِيَاء وتابعيهم وَهَذَا أولى لِأَنَّهُ قد يقدم فعلين فَلَا يَجْعَل الأول هُوَ الْعَامِل وَحده بل الْعَامِل اما الثَّانِي وَحده واما الِاثْنَان كَقَوْلِه آتوني أفرغ عَلَيْهِ قطرا أَو اذا أُرِيد هَذَا التَّقْدِير يبين لكم سنَن الَّذين من قبلكُمْ وَيهْدِيكُمْ سننا فَدلَّ على أَنه يهدينا سُنَنهمْ وَالْمرَاد بذلك سنَن أهل الْحق بِخِلَاف قَوْله قد خلت من قبلكُمْ سنَن فَإِنَّهُ قَالَ بعْدهَا فسيروا فِي الأَرْض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين فَإِنَّهُ أَرَادَ تَعْرِيف عُقُوبَة
1 / 20
الظَّالِمين بالعيان وَهنا فَأنْزل علينا من الْقُرْآن مَا يهدينا بِهِ سنَن الَّذين من قبلنَا وهم الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم وَذكر ثَلَاثَة أُمُور التَّبْيِين وَالْهدى وَالتَّوْبَة لِأَن الانسان أَولا يحْتَاج الى معرفَة الْخَيْر وَالشَّر وَمَا أَمر بِهِ وَمَا نهي عَنهُ ثمَّ يحْتَاج بعد ذَلِك الى أَن يهدي فيقصد الْحق وَيعْمل بِهِ دون الْبَاطِل وَهُوَ سنَن الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ ثمَّ لَا بُد لَهُ بعد ذَلِك من الذُّنُوب فيريد أَن يتَطَهَّر مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ فَهُوَ مُحْتَاج الى الْعلم وَالْعَمَل بِهِ والى التَّوْبَة مَعَ ذَلِك فَلَا بُد لَهُ من التَّقْصِير أَو الْغَفْلَة فِي سلوك تِلْكَ السّنَن الَّتِي هداه الله اليها فيتوب مِنْهَا بِمَا وَقع من تَفْرِيط فِي كل سنة من تِلْكَ السّنَن وَهَذِه السّنَن تدخل فِيهَا الْوَاجِبَات والمستحبات فَلَا بُد للسالك فِيهَا من تَقْصِير وغفلة فيستغفر الله وَيَتُوب اليه فَإِن العَبْد لَو اجْتهد مهما اجْتهد لَا يَسْتَطِيع أَن يقوم لله بِالْحَقِّ الَّذِي أوجبه عَلَيْهِ فَمَا يَسعهُ الا الاسْتِغْفَار وَالتَّوْبَة عقيب كل طَاعَة تَفْسِير الْهِدَايَة وَقد يُقَال الْهِدَايَة هُنَا الْبَيَان والتعريف أَي يعرفكم سنَن الَّذين من قبلكُمْ من أهل السَّعَادَة والشقاوة لتتبعوا هَذِه وتجتنبوا هَذِه كَمَا قَالَ تَعَالَى وهديناه النجدين قَالَ عَليّ وَابْن مَسْعُود سَبِيل الْخَيْر وَالشَّر وَعَن ابْن عَبَّاس سَبِيل الْهدى والضلال وَقَالَ مُجَاهِد سَبِيل السَّعَادَة والشقاوة أَي فطرناه على ذَلِك وعرفناه اياه والجميع وَاحِد والنجدان الطريقان الواضحان والنجد الْمُرْتَفع من الأَرْض فَالْمَعْنى ألم نعرفه طَرِيق الْخَيْر وَالشَّر ونبينه لَهُ كتبيين الطَّرِيقَيْنِ العاليين لَكِن الْهدى والتبيين والتعريف فِي هَذِه الْآيَة يشْتَرك فِيهِ بَنو آدم ويعرفونه بعقولهم وَأما طَرِيق من تقدم من الْأَنْبِيَاء فَلَا بُد من اخبار الله تَعَالَى عَنْهَا كَمَا
1 / 21
قَالَ تِلْكَ من أنباء الْغَيْب نوحيها اليك مَا كنت تعلمهَا أَنْت وَلَا قَوْمك من قبل هَذَا لَكِن يُجَاب عَن هَذَا بِأَنَّهُ لَو أُرِيد هَذَا الْمَعْنى لقَالَ يُرِيد الله ليبين لكم سنَن الَّذين من قبلكُمْ وَلم يحْتَج أَن يذكر الْهدى اذا كَانَ الْمَعْنى وَاحِدًا فَلَمَّا ذكر أَنه يُرِيد التَّبْيِين وَالْهدى علم أَن هَذَا غير هَذَا فالتبيين التَّعْرِيف والتعليم وَالْهدى هُوَ الْأَمر وَالنَّهْي وَهُوَ الدُّعَاء الى الْخَيْر كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلكُل قوم هاد أَي دَاع يَدعُوهُم الى الْخَيْر كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإنَّك لتهدي الى صِرَاط مُسْتَقِيم أَي تدعوهم اليه دُعَاء تَعْلِيم الارادة الشرعيه والارادة الكونية وهداه هُنَا يتَعَدَّى نَفسه لِأَن التَّقْدِير ولزمكم سنَن الَّذين من قبلكُمْ فَلَا تعدلوا عَنْهَا وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا بِالْهدى الالهام كَمَا فِي قَوْله اهدنا الصراد الْمُسْتَقيم لكَونه لَو أَرَادَ ذَلِك لوقع وَلم يكن فِينَا ضال بل هَذِه ارادة شرعيه أمرية بِمَعْنى الْمحبَّة وَالرِّضَا وَلِهَذَا قَالَ الزّجاج يُرِيد أَن يدلكم على مَا يكون سَببا لتوبتكم فعلق الارادة بِفعل نَفسه فَإِن الزّجاج ظن الارادة فِي الْقُرْآن لَيست الا كَذَلِك وَلَيْسَ كَمَا ظن بل الارادة الْمُتَعَلّقَة بِفِعْلِهِ يكون مرادها كَذَلِك فَإِنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن وَأما الْإِرَادَة وشرعه فَهُوَ كَقَوْلِه مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم الْآيَة وَقَوله انما يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَنَحْو ذَلِك
1 / 22
فَهَذِهِ ارادته لما أَمر بِهِ بِمَعْنى أَنه يُحِبهُ ويرضاه ويثيب فَاعله لَا بِمَعْنى أَنه أَرَادَ أَن يخلقه فَيكون كَمَا قَالَ فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره للاسلام وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا الْآيَة وكما قَالَ نوح وَلَا ينفعكم نصحي ان أردْت أَن أنصح لكم ان كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم هُوَ ربكُم واليه ترجعون فَهَذِهِ ارادة لما يخلقه ويكونه كَمَا يَقُول الْمُسلمُونَ مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن وَهَذِه الارادة مُتَعَلقَة بِكُل حَادث والارادة الشرعيه الأمرية لَا تتَعَلَّق الا بالطاعات كَمَا يَقُول النَّاس لمن يفعل الْقَبِيح يفعل شَيْئا مَا يُريدهُ الله مَعَ قَوْلهم مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن فَإِن هَذِه الارادة نَوْعَانِ كَمَا قد بسط فِي مَوضِع آخر وَقد يُرَاد بِالْهدى الالهام وَيكون الْخطاب للْمُؤْمِنين المطيعين الَّذين هدَاهُم الله الى طَاعَته فَإِن الله تَعَالَى أَرَادَ أَن يَتُوب عَلَيْهِم ويهديهم فاهتدوا وَلَوْلَا إِرَادَته لَهُم ذَلِك لم يهتدوا كَمَا قَالُوا الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله لقد جائت رسل رَبنَا بِالْحَقِّ لَكِن الْخطاب فِي الْآيَة لجَمِيع الْمُسلمين كالخطاب بِآيَة الْوضُوء وَالْخطاب لأهل الْبَيْت بقوله انما يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس وَلِهَذَا يهدد من لم يطعه وكا فِي الصّيام يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر فَهَذِهِ ارادة شَرْعِيَّة أمرية بِمَعْنى الْمحبَّة وَالرِّضَا لَا ارادة
1 / 23
الْخلق المستلزمة للمراد لِأَنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك لم تكن الْآيَة خطابا الا لمن أَخذ باليسر وَلمن فعل مَا أَمر بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِك بل الحكم الشَّرْعِيّ لَازم لجَمِيع الْمُسلمين فَمن أطَاع أثيب وَمن عصى عُوقِبَ وَالَّذين أطاعوه انما أطاعوه بهداه لَهُم هدى الامام والاعانة بِأَن جعلهم مهتدين كَمَا أَنه هُوَ الَّذِي جعل الْمُصَلِّي مُصَليا وَالْمُسلم مُسلما وَلَو كَانَت الارادة هُنَا من الانسان مستلزمة لوُقُوع المُرَاد لم يقل وَيُرِيد الَّذين يتبعُون الشَّهَوَات أَن تميلوا ميلًا عَظِيما فَأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا تَأْثِير لارادة هَؤُلَاءِ بل وجدهَا وَعدمهَا سَوَاء كَمَا فِي قَول نوح وَلَا ينفعكم نصحي ان أردْت أَن أنصح لكم ان كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم فَإِنَّهُ شَاءَ الله كَانَ وان لم يَشَاء النَّاس وَمَا لم يَشَأْ لم يكن وَإِن شاءه النَّاس اتِّبَاع الشَّهَوَات والأهواء وَالْمَقْصُود بِالْآيَةِ تحذيرهم من مُتَابعَة الَّذين يتبعُون الشَّهَوَات وَالْمعْنَى اني أُرِيد لكم الْخَيْر الَّذِي ينفعكم وَهَؤُلَاء يُرِيدُونَ لكم الشَّرّ الَّذِي يضركم كالشيطان الَّذِي يُرِيد أَن يغويكم وَأَتْبَاعه هم أهل الشَّهَوَات فَلَا تتخذوه وَذريته أَوْلِيَاء من دوني بل اسلكوا طرق الْهدى والرشاد وَإِيَّاكُم وطرق الغي وَالْفساد كَمَا قَالَ تَعَالَى فَمن اتبع هُدَايَ فَلَا يضل وَلَا يشقى الْآيَات وَقَوله يتبعُون الشَّهَوَات فِي الْمَوْضِعَيْنِ فاتباع الشَّهْوَة من جنس اتِّبَاع الْهوى كَمَا قَالَ تَعَالَى انما
1 / 24
يتبعُون أهواءهم وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله وَقَالَ وَلَو اتبع الْحق أهواءهم لفسدت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمن فيهم وَقَالَ تَعَالَى وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وَقَالَ تَعَالَى أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَة من ربه كمن زين لَهُ سوء عمله وَاتبعُوا أهواءهم وَقَالَ تَعَالَى وَلَا تتبع أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ وَهَذَا فِي الْقُرْآن كثير والهوى مصدر هوى يهوى هوى وَنَفس المهوي يُسمى هوى مَا يهوى فاتباعه كاتباع السَّبِيل كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وكما فِي لفظ الشَّهْوَة فاتباع الْهوى يُرَاد بِهِ نفس مُسَمّى الْمصدر أَي اتِّبَاع ارادته ومحبته الَّتِي هِيَ هَوَاهُ وَاتِّبَاع الارادة هُوَ فعل مَا تهواه النَّفس كَقَوْلِه تَعَالَى وَاتبع سَبِيل من أناب الي وَقَوله وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله وَقَالَ وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء فَلفظ الِاتِّبَاع يكون للْآمِر الناهي وللأمر وَالنَّهْي وللمأمور بِهِ والمنهي عَنهُ وَهُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم كَذَلِك يكون للهوى أَمر وَنهي وَهُوَ أَمر النَّفس ونهيا كَمَا قَالَ
1 / 25
تَعَالَى ان النَّفس لأمارة بالسوء الا مَا رحم رَبِّي ان رَبِّي غَفُور رَحِيم وَلَكِن مَا يَأْمر بِهِ من الْأَفْعَال المذمومة فأحدها مُسْتَلْزم للْآخر فاتباع الْأَمر هُوَ فعل الْمَأْمُور وَاتِّبَاع أَمر النَّفس هُوَ فعل مَا تهواه فعلى هَذِه يعلم أَن اتِّبَاع الشَّهَوَات وَاتِّبَاع الْأَهْوَاء هُوَ اتِّبَاع شَهْوَة النَّفس وهواها وَذَلِكَ يفعل مَا تشتهيه وتهواه بل قد يُقَال هَذَا هُوَ الَّذِي يتَعَيَّن فِي لفظ اتِّبَاع الشَّهَوَات والأهواء لِأَن الَّذِي يَشْتَهِي ويهوى انما يصير مَوْجُودا بعد أَن يَشْتَهِي ويهوى وَإِنَّمَا يذم الانسان اذا فعل مَا يشتهى ويهوى عِنْد وجود فَهُوَ حِينَئِذٍ قد فعل وَلَا ينْهَى عَنهُ بعد وجوده وَلَا يُقَال لصَاحبه لَا تتبع هَوَاك وَأَيْضًا فالفعل المُرَاد المشتهى الَّذِي يهواه الانسان هُوَ تَابع لشهوته وهواه فَلَيْسَتْ الشَّهْوَة والهوى تَابِعَة لَهُ فاتباع الشَّهَوَات هُوَ اتِّبَاع شَهْوَة النَّفس واذا جعلت الشَّهْوَة بِمَعْنى المشتهى كَانَ مَعَ مُخَالفَة الأَصْل يحْتَاج الى أَن يَجْعَل فِي الْخَارِج مَا يشتهى والانسان يتبعهُ كَالْمَرْأَةِ الْمَطْلُوبَة أَو الطَّعَام الْمَطْلُوب وَإِن سميت الْمَرْأَة شَهْوَة وَالطَّعَام أَيْضا كَمَا فِي قَوْله ﷺ كل عمل ابْن آدم لَهُ الا الصّيام فَإِنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ يدع طَعَامه طَعَامه وَشَرَابه وشهوته من أَجلي أَي بترك شَهْوَته وَهُوَ إِنَّمَا يتْرك مَا يشتهيه كَمَا يتْرك الطَّعَام لَا أَنه يدع طَعَامه بترك الشهوتة الْمَوْجُودَة فِي نَفسه
1 / 26
فَإِن تِلْكَ مخلوقة فِيهِ مجبول عَلَيْهَا وَإِنَّمَا يُثَاب اذا ترك مَا تطلبه تِلْكَ الشَّهْوَة وَحَقِيقَة الْأَمر أَنَّهُمَا متلازمان فَمن اتبع نفس شَهْوَته الْقَائِمَة بِنَفسِهِ اتبع مَا يشتهيه وَكَذَلِكَ من اتبع الْهوى الْقَائِم بِنَفسِهِ اتبع مَا يهواه فَإِن ذَلِك من آثَار الارادة وَاتِّبَاع الارادة هُوَ امْتِثَال أمرهَا وَفعل مَا تطلبه كالمأمور الَّذِي يتبع أَمر أميره ولابد أَن يتَصَوَّر مُرَاده الَّذِي يهواه ويشتهيه فِي نَفسه ويتخيله قبل فعله فَيبقى ذَلِك الْمِثَال كَالْإِمَامِ مَعَ الْمَأْمُوم يتبعهُ حَيْثُ كَانَ وَفعله فِي الظَّاهِر تبع لاتباع الْبَاطِن فَتبقى صُورَة المُرَاد الْمَطْلُوب المشتهى الَّتِي فِي النَّفس هِيَ المحركة للانسان الآمرة لَهُ وَلِهَذَا يُقَال الْعلَّة الغائية عِلّة فاعلية فَإِن الانسان لِلْعِلَّةِ الغائية بِهَذَا التَّصَوُّر والارادة صَار فَاعِلا للنفعل وَهَذِه الصُّورَة المرادة المتصورة فِي النَّفس هِيَ الَّتِي جعلت الْفَاعِل فَاعِلا فَيكون الانسان مُتبعا لَهَا والشيطان يمده فِي الغي فَهُوَ يُقَوي تِلْكَ الصُّورَة وَيُقَوِّي أَثَرهَا ويزين للنَّاس اتباعها وَتلك الصُّورَة تتَنَاوَل صُورَة الْعين الْمَطْلُوبَة كالمحبوب من الصُّور وَالطَّعَام وَالشرَاب وتتناول نفس الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْمُبَاشرَة لذَلِك الْمَطْلُوب المحبوب والشيطان وَالنَّفس تحب ذَلِك وَكلما تصور ذَلِك المحبوب فِي نَفسه أَرَادَ وجوده فِي الْخَارِج فَإِن أول الْفِكر آخر الْعَمَل وَأول البغية آخر الدَّرك وَلِهَذَا يبْقى الانسان عِنْد شَهْوَته وهواه أَسِيرًا لذَلِك مقهورا تَحت سُلْطَان الْهوى أعظم من قهر كل قاهر فَإِن هَذَا القاهر الهوائي القاهر للْعَبد هُوَ صفة قَائِمَة بِنَفسِهِ لَا يُمكنهُ مُفَارقَته الْبَتَّةَ وَالصُّورَة الذهنية تطلبها النَّفس فَإِن المحبوب تطلب النَّفس أَن تُدْرِكهُ وتمثله لَهَا فِي نَفسهَا فو مُتبع للارادة وَإِن كَانَت الذهنية والتزين من الزين وَالْمرَاد التَّصَوُّر فِي نَفسه والمشتهى الْمَوْجُود فِي الْخَارِج لَهُ محركان التَّصَوُّر والمشتهى هَذَا
1 / 27
يحركه تَحْرِيك طلب وَأمر وَهَذَا يَأْمُرهُ أَن يتبع طلبه وَأمره فاتباع الشَّهَوَات والأهواء يتَنَاوَل هَذَا كُله بِخِلَاف كل قاهر ينْفَصل عَن الانسان فَإِنَّهُ يُمكنهُ مُفَارقَته مَعَ بَقَاء نَفسه على حَالهَا وَهَذَا انما يُفَارِقهُ بِتَغَيُّر صفة نَفسه وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي ﷺ ثَلَاث مهلكات شح مُطَاع وَهوى مُتبع واعجاب الْمَرْء بِنَفسِهِ وَثَلَاث منجيات خشيَة الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَالْقَصْد فِي الْفقر والغنا وَكلمَة الْحق فِي الْغَضَب وَالرِّضَا وَقَوله فِي الحَدِيث هوى مُتبع فِيهِ دَلِيل على أَن المتبع هُوَ مَا قَامَ فِي النَّفس كَقَوْلِه فِي الشُّح المطاع وَجعل الشُّح مُطَاعًا لِأَنَّهُ هُوَ الْآمِر وَجعل الْهوى مُتبعا لِأَن المتبع قد يكون اماما يقْتَدى بِهِ وَلَا يكون آمرا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ اياكم الشُّح فَإِن الشُّح أهلك من كَانَ قبلكُمْ أَمرهم بالبخل فبخلوا وَأمرهمْ بالظلم فظلموا وَأمرهمْ بالقطيعة فَقطعُوا فَبين أَن الشُّح يَأْمر بالبخل وَالظُّلم والقطيعة فالبخل منع مَنْفَعَة النَّاس بِنَفسِهِ وَمَاله وَالظُّلم هُوَ الاعتداء عَلَيْهِم فَالْأول هُوَ التَّفْرِيط فِيمَا يجب فَيكون قد فرط فِيمَا يجب واعتدى عَلَيْهِم بِفعل مَا يحرم وَخص قطيعة الرَّحِم بِالذكر اعظاما لَهَا لِأَنَّهَا تدخل فِي الْأَمريْنِ الْمُتَقَدِّمين قبلهَا
1 / 28