بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الإنسان من نطفة أمشاج ، وجعله سميعا بصيرا ، وهداه النجدين ، فمنهم من سل طريق الجنة ، ومنهم من اختار سعيرا ، والصلاة والسلام على أفضل من أرسل بالحق بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وعلى آله وأصحابه الذين كانوا له في إحياء الدين معينا وظهيرا ، وهم في مجاهداتهم لم يتخذوا من دون الله وليا ولا نصيرا .
...وبعد : فهذه أوراق انتخبتها من [ إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ] للشيخ الإمام العلامة ابن القيم الجوزية ، جعل الله روحه مع الأوراح التي رجعت إلى ربها راضية مرضية ، كتبتها لبعض إخوان الآخرة ، مع ضم ما وجدته في الكتب المعتبرة ، لأن كثيرا من الناس في هذا الزمان ، جعلوا بعض القبور كالأوثان ، يصلون عندها ويذبحون القربان ويصدر منهم أفعال وأقوال لا تليق بأهل الإيمان ، فإن أردت أن أبين لهم ما وردبه الشرع في هذا الشأن ، حتى يتميز الحق من الباطل عند من يريد تصحيح الإيمان والخلاص من كيد الشيطان ، والنجاة من عذاب النيران ، والدخول في دار الجنان والله الهادي وعليه التكلان .
Página 2
...أعلم : أن السعادة العظمى ، والكرامة الكبرى في الدنيا والعقبى لا تحصل إلا بمتابعة خاتم النبيين ، صلوات الله عليه وعلى آله أجمعين ، لكن الشيطان للإنسان عدو مبين ، يصدهم بأنواع مكائده عن الصراط المستقيم ، ويدعوهم إلى الإثم العظيم ، ليكونوا من أصحاب الجحيم ، وغاية بغيتهم سلب الإيمان ، حتى يكونوا من أهل الخلود في النيران .
...ومن أعظم مكائده التي كاد بها أكثر الناس وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور ، حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها من دون الله تعالى ، وعبدت قبورهم واتخذت أوثانا ، وبنيت عليها الهياكل وصورت صور أربابها فيها ، ثم جعلت تلك الصور أجسادا لها ظل ، ثم جعلت أصناما وعبدت مع الله تعالى .
...وكان ابتداء هذا الداء العظيم في قوم نوح عليه السلام ، كما أخبر سبحانه وتعالى عنهم حيث قال { قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوقا ونسرا } وقال ابن عباس وغيره من السلف : كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح عليه السلام ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليه الأمد فعبدوهم ، وكان هذا مبدأ عبادة وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها : أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها : مارية ، فذكرت له ما رأت فيها من الصور ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى " .
...ففي هذا الحديث ما ذكر من الجمع بين التماثيل والقبور .
Página 3
فلما كان مبدأ عبادة الأصنام ومنشؤها من فتنة القبور ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن الافتتان بها بوجوه كثيرة .
...منها : أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن اتخاذها مساجد ، كما ثبت في [ صحيح مسلم] عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه انه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول : " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك ".
...وفي الصحيحن " عن عائشة رضي الله عنها : أنه عليه السلام قال في مرضه الذي لم يقم منه : " لعن الله اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما صنعوا قالت : ولولا ذلك لأبرز قبره عليه السلام ، لكن خشي أن يتخذ مسجدا .
...وقولها : ( خشي ) بضم الخاء تعليل لمنع إبراز قبره عليه السلام ، فإنهم اختلفوا بعد موته عليه السلام : في موضع دفنه ، حتى سموا ما وري عنه عليه السلام " أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون فلما كان هذا من خصائصهم دفنوه في حجرتها خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء ؛ لئلا يصلي أحد على قبره ، ويتخذوه مسجدا ، فإنه عليه السلام نهى أمته عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته ، ثم لعن من فعل ذلك من أهل الكتاب ؛ تحذيرا لهم أن يفعلوا ذلك .
...وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها والصلاة إليها ؛ متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة ، ونص أصحاب أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك .
...وطائفة وإن أطلقت الكراهة لكن ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم ؛ إحسانا للظن بالعلماء ، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه .
...ومنها : أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن إيقاد السرج عليها ؛ لما روى الإمام احمد وأهل السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام ( لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) .
Página 4
...فكل ما لعن عليه رسو الله صلى الله عليه وسلم فهو من الكبائر ، وقد صرح الفقهاء بتحريمه . وقال أبو محمد المقدسي : لو كان اتخاذ السرج عليها مباحا لم يلعن من فعله ؛ وقد لعن ؛ لأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة ، وإفراطا في تعظيم القبور تشبيها بتعظيم الأصنام ولهذا قال العلماء : لا يجوز أن ينذر للقبور ، لا شمع ولا زيت ولا غير ذلك فإنه نذر معصية لا يجوز الوفاء به بالاتفاق ، ولا أن يوقف عليها شيء لأجل ذلك ، فإن هذا الوقف لا يصح ولا يحل إثباته وتنفيذه .
...ومنها : أنه عليه السلام نهى عن تجصيصها والبناء عليها ، كما روى مسلم في [ صحيحه ] عن جابر رضي الله عنه أنه عليه السلام نهى عن تجصيص القبر ، وأن يبنى عليه قيل هذا يحتمل وجهين :
...أحدهما : البناء عليه بالحجارة ، وما يجري مجراها ، والآخر : أن يضرب عليه خباء ونحوه ، وكلا الوجهين منهي عنه لعدم الفائدة فيها مع إضاعة المال ، وبكونه من صنيع أهل الجاهلية .
...ومنها : أنه عليه السلام نهى عن الكتابة عليها ، كما روى أبو داود في [ سننه ] عن جابر رضي الله عنه : أنه عليه السلام ( نهى عن تجصيص القبور ، وأن يكتب عليها ) .
...ومنها : أنه عليه السلام نهى عن الزيادة فيها من غير ترابها ، كما روى أبو داود عن جابر رضي الله عنه أيضا : أنه عليه السلام ( نهى عن تجصيص القبر أن يكتب عليه ، أو يزاد عليه ) .
...ومنها : أنه عليه السلام نهى عن الصلاة عندها كما روى مسلم في [ صحيحه ] عن أبي مرثد الغنوي : أنه عليه السلام قال : " لا تجلسوا على القبور ، ولا تصلوا إليها " وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " رواه الإمام أحمد وأهل السنن .
...والأحاديث في النهي عن ذلك والتغليظ فيه كثيرة ؛ وذلك لأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها .
Página 5
...وقد تقدم أن ابتداء عبادة الأصنام إنما كان من فتنة القبور ؛ ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب ؛ لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد ، وأن هؤلاء المردة كانوا يصلون في المواضع التي دفن فيها أنبياؤهم ، إما ظنا منهم بأن السجود لقبورهم تعظيم لها ؛ وهذا شرك جلي ؛ ولهذا قال النبي عليه السلام : " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ". وإما ظنا منهم بأن التوجه إلى قبورهم حالة الصلاة أعظم موقعا عند الله تعالى ؛ لاشتماله على أمرين : عبادة الله تعالى وتعظيم الأنبياء . وهذا شرك خفي .
...قال ابن القيم في [ إغاثته ] نقلا عن شيخه ابن تيمية : وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيرا من الأمم ، إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك ن فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بشجر أو حجر ؛ ولهذا نجد كثيرا من الناس عند القبور يتضرعون ، ويخشعون ، ويخضعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في مساجد الله تعالى ولا في وقت السحر ومنهم من يسجد لها وكثير منهم يرجون من بركة الصلاة عندها ولديها مالا يرجون في المساجد لأجل هذه المفسدة حسما لنبي عليه الصلاة والسلام مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا وإن لم يقصد الصلاة عندها ووقت طلوع الشمس ووقت غروبها ووقت استوائها لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة للشمس فيها فنهى أمته عن الصلاة وإن لم يقصدوا ما قصده المشركون .
...وإذا قصد الرجل الصلاة عند المقبرة متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى فإن العبادات مبناها على الاستنان والاتباع لا على الهوى والابتداع فإن المسلمين اجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين نبيهم : أن الصلاة عند المقبرة مني عنها .
Página 6
...وفي هذا دليل على ضلال من زعم أن النهي عن الصلاة فيها مختص بالمقابر المنبوشة لما فيها من النجاسة الحاصلة بالنبش وهذا ابعد شيء من مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو باطل من عدة أوجه :
...أما أولا : فلأن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة المنبوشة وغير المنبوشة .
...أما ثانيا : فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد ومعلوم قطعا أن هذا ليس لأجل النجاسة الحاصلة بالنبش لأن قبور أنبيائهم لا تنبش ولو نبشت فهي من أطهر البقاع ليس للنجاسة عليها طريق البتة فإن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم في قبورهم طريون .
...وأما ثالثا : فإنه عليه الصلاة والسلام اخبر : أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ولو كان ذلك للنجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر أولى من ذكر القبور .
...وأما رابعا : فلأنه عليه الصلاة والسلام قرن في اللعنة بين متخذي المساجد عليها وموقدي السرج لديها فهما في اللعنة قرينان وفي ارتكاب الكبيرة سيان .
...ومعلوم إن أيقاد السراج إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها وجعلها أوثانا يوفض إليها وكذا اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها وتعريض للفتنة بها ولهذا قرن بينهما .
...وأما خامسا : فلأنه عليه الصلاة والسلام قال :" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله تعالى على قوم اتخذا قبور أنبيائهم مساجد ".
...فذكره عليه الصلاة والسلام اشتداد غضب الله تعالى على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد عقيب :" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " تنبيه منه على سبب اللعن لهم وهو : توسلهم بذلك إلى تصير قبورهم أوثانا تعبد .
Página 7
...وأما سادسا : فلأن فتنة الشرك بالصلاة فيها ومشابهة عبادة الأوائل بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عن تلك المفسدة سدا لذريعة التشبه التي لا تكاد تخطر ببال المصلي فكيف بهذه الذريعة التي كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك بدعاء الموتى وطلب الحوائج منهم واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم افضل من الصلاة في المساجد وغير ذلك مما هو محادة ظاهرة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فأين التعليل بنجاسة البقعة من هذه المفسدة ؟!.
...وبالجملة إن من له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعة وفهم عن الرسول عليه الصلاة والسلام مقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه عليه الصلاة والسلام واللعن والنهي بالصيغة التي هي : ( لا تفلعوا ) وصيغة ( إني أنهاكم ) ليس لأجل النجاسة الحاصلة بالنبش ، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه وارتكب ما نهى عنه واتبع هواه ، ولم يخش ربه ومولاه ، وقل نصيبه أو عدم من تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن هذا وأمثاله من النبي عليه الصلاة والسلام صيانة لحمى التوحيد من أن يلحقه الشرك ويغشاه وتجريد له أن يعدل به سواه ، فأبى أكثر الناس إلا عصيانا لأمره ، وارتكابا لنهيه وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين .
...ولعمر الله من هذا الباب بعينه دخل عباد يغوث ويعوق ونسرا وسائر عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة ، فإن هؤلاء جمعوا بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم فهدى الله تعالى أهل التوحيد حيث سلكوا طريقتهم وأنزلوهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية وسلبوا عنهم خصائص الربوبية ، وهذا غاية تعظيمهم وإكرامهم ونهاية طاعتهم ومتابعتهم .
Página 8
...ولا تحسبن أيها المنعم عليه باتباع الصراط المستقيم ، أن النهي عن اتخاذا القبور أوثانا والصلاة إليها وبناء المساجد عليها وإيقاد السرج لديها أن هذا غض من أصحابها وتنقيص لهم كلا ليس هذا من تنقيصهم كما يحسبه أهل البدع والضلال بل هذا من تعظيمهم وإكرامهم واحترامهم وسلوك فيما يحبون واجتناب عما يكرهون وأنت وأيم الله وليهم ومحبهم وناصر طريقتهم وسنتهم وأنت على هداهم .
...وأما هؤلاء المبتدعون الضالون فقد نقصوهم في صورة التعظيم فهم أبعد الناس من هداهم ومتابعتهم كالنصارى مع المسيح ، واليهود مع موسى ، والروافض مع علي فأهل الحق أحق بأهل الحق من أهل الباطل ، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض فإن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن
...ولذا نجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن طريقة من كان يتبع السنن ويحييها مشتغلين بغيره عما أمر به ودعا إليه .
وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما يكون باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح واقتفاء آثارهم وسلوك طريقتهم دون عبادة قبورهم والعكوف عليها واتخاذها أوثانا فإن من اقتفى آثارهم كان سببا لتكثير أجورهم باتباعه لهم ودعوته الناس إلى اتباعهم فإذا اعرض عما دعوا إليه واشتغل بضده حرم نفسه وإياهم عن ذلك الأجر فأي تعظيم واحترام لهم في هذا .
...ومنها : أنه عليه الصلاة والسلام أمر بتسويتها كما روى مسلم في [ صحيحه ] عن أبي الهياج الأسدي أنه قال : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عونه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته .
Página 9
...ومنها : أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن اتخاذها عيدا ، كما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : " لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، ولا تجعلوا قبري عيدا ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ".
...وفي [ مسند أبي يعلى الموصلي ] عن علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي عليه الصلاة والسلام فيدخل فيها فيدعوا فنهاه ، قال : ألا أحدثكم حديثا سمعته [من] أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تتخذوا قبري عيدا ، ولا بيوتكم قبورا ، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم ".
...وقال سعيد بن منصور : حدثنا عبد العزيز بن أحمد ، أخبرني سيهل بن أبي سهيل قال : رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر فناداني هو ببيت فاطمة يتعشى فقال : هلم إلى العشاء ، فقلت : لا أريده ، فقال : مالي رأيتك عند القبر فقلت : سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" لا تتخذو بيتي عيدا ، ولا بيوتكم مقابر ، وصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " فما أنت ومن بالأندلس إلا سواء منه عليه الصلاة والسلام .
Página 10
...فإن قبره عليه الصلاة والسلام لما كان سيد القبور وأفضل قبر على وجه الأرض ، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن اتخاذه عيدا ، فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام قرن ذلك النهي بقوله : " ولا تتخذوا بيوتكم قبورا " وهو أمر بتحري النافلة في البيوت حتى لا تكون بمنزلة القبور ، ونهى عن تحري العبادة عند القبور ثم عقبه بقوله " وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " وأشار بذلك إلى أن ما ناله منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبره وبعدكم عنه ، فلا حاجة بكم إلى الاتخاذ عيدا كما اتخذا المشركون من أهل الكتاب قبور أنبيائهم وصالحيهم عيدا فإن اتخاذ القبور عيدا هو من أعيادهم التي كانوا عليها قبل مجيء الإسلام وقد كان لهم أعياد زمانية وأعياد مكانية فلما جاء الإسلام أبدلها الله تعالى وعوض عن أعيادهم الزمانية عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى ، كما عوض عن أعيادهم المكانية الكعبة البيت الحرام وعرفات ومنى والمشاعر .
...قال ابن القيم [ في إغاثة اللهفان ] : قد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبها من النصارى بالشرك وشبها من اليهود بالتحريف ( فقال : هذا أمر بملازمة قبره عليه الصلاة والسلام والعكوف عنده واعتياد قصده وإتيانه ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين ، فكأنه قال : لا تجعلوا قبري بمنزلة العيد الذي يكون من الحول إلى الحول واقصدوه كل ساعة وكل وقت أه ) .
Página 11
وهذا محادة ومناقضة لما قصده الرسول عليه الصلاة والسلام وقلب للحقائق ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التدليس والتلبيس إذ لا ريب أن من أمر الناس بملازمة أمر واعتياده وكثرة انتيابه بقوله " لا تجعلوا قبري عيدا " فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان فإن لم يكن هذا تنقيصا فليس للتنقيص حقيقة فينا ولا شك أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهل إثما وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه عليه الصلاة والسلام وسنته وهكذا غيرت ديانات الرسل .
...ولولا أنه تعالى أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابين عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله قال عليه الصلاة والسلام :" يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " فإنه عليه السلام بين في هذا الحديث أن الغالين يحرفون ما جاء به ، وأن المبطلين ينتحلون أن باطلهم هو ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام ، وأن الجاهلين يتأولونه على غير تأويله .
...وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاث ، فلو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال هؤلاء الضالون لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ، ولم يلعن من فعل ذلك فإنه عليه الصلاة والسلام إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها وأن يعتاد قصدها وإتيانها ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول.؟!
وكيف يقول صلى الله عليه وسلم " وصلوا علي حيثما كنتم " بعد قوله "لا تجعلوا قبري عيدا وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضالون الذين جمعوا بين الشرك والتحريف !؟.
Página 12
...وقد سمعت فيما سبق أن أفضل التابعين من أهل بيته صلى الله عليه وسلم علي بن الحسين نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره عليه الصلاة والسلام واستدل بالحديث الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علي وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الطاغين ، وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أله بيته كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد ، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا .
...قال ابن القيم نقلا عن شيخه : فانظر إلى هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار ، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم ، وكانوا له أضبط .
...ثم في اتخاذ القبور عيدا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله تعالى ما يغضب لأجله كل من كان في قلبه وقار لله تعالى ، وغيرة على التوحيد وتقبيح للشرك وتهجين للكفر والبدع ، ولكن ( ما لجرح ميت بإيلام ) .
...فمن مفاسد اتخاذها عيدا أن غلاة متخذيها عيدا إذا رأوها من موضع بعيد ينزلون من الدواب ويضعون الجباه على الأرض ويقبلون ويكشفون الرؤوس وينادون من مكان بعيد ويستغيثون بمن لا يبديء ولا يعيد ويرفعون الأصوات بالضجيج ويرون أنهم قد ازدادوا في الربح على الحجيج حتى إذا وصلوا إليها يصلون عندها ركعتين ويرون أنهم قد أحرزوا من الأجر أجر من صلى إلى القبلتين فتراهم حول القبور سجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا وقد ملؤوا اكفهم خيبة وخسرانا فلغير الله تعالى ، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات ويرتفع من الأصوات ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات وإغناء ذوي الفاقات ومعافاة أولي العاهات والبليات .
Página 13
...ثم إنهم ينتشرون حول القبور طائفين ، تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله تعالى مباركا وهدى للعالمين ، ثم يأخذون في التقبيل والاستلام كما يفعل بالحجر الأسود في المسجد الحرام ثم يخرون على الجباه والخدود والله تعالى يعلم أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود يكملون مناسك حج القبر بالتقصير والحلاق ويستمتعون من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم نصيب عند من هو الخلاق ثم يقربون لذلك الوثن القرابين ، وتكون صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين ، ثم نراهم يهنئ بعضهم بعضا ويقول : أجز الله لنا ولكم أجرا وافرا .
...ثم إذا رجعوا يسألهم بعض غلاة المتخلفين أن يبيع لهم أحدهم ثواب حجة القبر بحجة البيت الحرام فيقول : لا ولو بحجك كل عام . هذا ولم نتجاوز فيما حكينا عنهم ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم إذ هي فوق ما يخطر بالبال ويدور في الخيال وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد ما هو ذريعة إلى هذا المحظور وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما يؤول إليه ما نهى عنه والخير والهدى في اتباعه وطاعته ، والشر والضلال في معصيته ومخالفته .
Página 14
...ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا فإنه عليه السلام نهى عن الصلاة إلى القبور وهم يخالفونه ويصلون عندها ، ونهى عن اتخاذ المساجد عليها وهم يخالفونه ويبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد . ونهى عن إيقاد السرج عليها وهم يخالفونه ويوقدون عليها القناديل والشموع بل يوقفون لذلك أوقافا وأمر بتسويتها وهم يخالفونه ويرفعونها من الأرض كالبيت ونهى عن تجصيصها والبناء عليها وهم يخالفونه ويجصصونها ويعقدون عليها القباب ونهى عن الكتابة عليها وهم يخالفونه ويتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره . ونهى عن الزيادة عليها غير ترابها وهم يخالفونه ويزيدون عليها سوى التراب الآجر والأحجار والجص ونهى عن اتخاذها للعيد وأكثر .
...والحاصل أنهم مناقضون لما أمر به الرسول عليه السلام ونهى عنه ومحادون لما جاء به .
...وقد آل الأمر بهؤلاء الضالين المضلين إلى أن شرعوا للقبور حجا ، ووضعوا لها مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتبا وسماه " مناسك حج المشاهد " مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام فانظر ما بين ما شرعه النبي عليه السلام من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وما قصدوه من التباين ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره :
...فمنها : تعظيمها الموقع في الافتتان بها .
Página 15
ومنها تفضيلها على احب البقاع إلى الله تعالى فإنهم يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب وغير ذلك مما لا يفعلونه في المساجد ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريب منه وذلك يقتضي عمارة المشاهد وخراب المساجد ودين الله الذي بعث فيه رسوله بضد ذلك ولهذا كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين إذ عمروا المشاهد وخربوا المساجد .
...ومنها اعتقاد أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء ويستنزل الغيث من السماء إلى غير ذلك من الرجاء .
...ومنها الشرك الأكبر الذي يفعل عندها فإن الشرك لما كان أظلم الظلم واقبح القبائح وأنكر المنكر ، كان أبغض إلى الله تعالى وأكرهها له ولذلك رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب آخر سواه واخبر أنه لا يغفره وأن أهله نجس ومنعهم قربان حرمه وحرم ذبائحهم ومناكحتهم وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين وجعلهم أعداء ولملائكته ورسله وللمؤمنين وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونسائهم وأن يتخذوهم عبيدا وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية وتنقيص لعظمة الإلهية وسوء ظن برب العالمين فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به ولو أحسنوا الظن لوحدوه حق توحيده ولم يرجوا شيئا من غيره .
...ولهذا اخبر سبحانه وتعالى عنهم في ثلاثة مواضع من كتابه أنهم ما قدروا الله حق قدره أي : ما عرفوه حق معرفته ، وكيف يعرفه محق معرفته من يجعل له عدلا وندا يحبه ويخافه ويرجوه ويذل له ويسويه برب العالمين .
...ومعلوم أنهم ما ساووا أوثانهم به تعالى في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال ولا قالوا : إنها خلقت السموات والأرض وأنها تحيي وتميت وإنما ساووها به تعالى في محبتهم لها وتعظيمهم لها وعبادتهم إياها ، كما ترى على ذلك أهل الشرك ممن ينسب إلى الإسلام .
...ومنها الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها .
Página 16
...ومنها المشابهة بعباد الأصنام بما يفعلونه عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها واتخاذ السدنة لها حتى أن عبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد .
...ومنها النذر لها ولسدنتها .
...ومنها المخالفة لله ولرسوله والمناقضة لما شرعه في دينه .
...ومنها إماتة السنن وإحياء البدع .
...ومنها السفر مع التعب الأليم والإثم العظيم فإن جمهور العلماء قالوا : السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين ولا أمر بها رسول رب العالمين ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك قربة وطاعة فقد خالف السنة والإجماع ولو سافر إليها بذلك الاعتقاد يحرم بإجماع المسلمين فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة .
...ومعلوم أن أحد لا يسافر إليها إلا لذلك وقد ثبت في [ الصحيحين ] أنه عليه السلام قال :" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا "
...ومنها إيذاء أصحابها فإنهم يتأذون بما يفعل عند قبورهم مما ذكر ويكرهونه غاية الكراهية كما أن المسيح يكره ما يفعله النصارى في حقه وكذلك غيره من الأنبياء والعلماء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى في حقهم وهم يتبرؤون منهم يوم القيامة كما قال تعالى { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل } وقال الله تعالى { يعيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } .
Página 17
...ومنها أن الذي شرعه النبي عليه السلام عند زيادة القبور إنما هو تذكر الآخرة والاتعاظ والاعتبار بحال المزور والإحسان إليه بالدعاء له والترحم عليه حتى يكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت فقلب هؤلاء الأمر وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيادة الشرك بالميت ودعاءه وسؤاله الحوائج واستنزال البركات منه ونحو ذلك فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت فإنه عليه السلام لسد ذريعة الشرك نهى أصحابه في أوائل الإسلام عن زيارة القبور لكونهم حديثي عهد بالكفر لم لما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها وبين فائدتها وعلمهم كيفيتها تارة بقوله وتارة بفعله وذلك في الأحاديث الكثيرة لكن نذكر عدة منها في الإذن وبعضها في التعليم وفي ضمنها بيان الفائدة .
...أما التي في الإذن :
فمنها حديثا أبي سعيد : أنه عليه السلام قال : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجرا " رواه الإمام أحمد والنسائي ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " زوروا القبور فإنها تذكر الموت " رواه مسلم
...وأما التي في التعليم :
فمنها حديث سليمان بن بريدة رضي الله عنه عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا : السلام على أهل الديار " وفي لفظ مسلم " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إنشاء الله للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية "
...ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وإنا إنشاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الفرقد " رواهما مسلم .
Página 18
...ومنها : حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهة فقال : السلام عليكم يا أهل القبور ، يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر " . رواه الأمام أحمد والترمذي وحسنه .
...فإنه صلى الله عليه وسلم بين في هذه الأحاديث أن فائدة زيارة القبور إحسان الزائر إلى نفسه وإلى الميت أما أحسانه إلى نفسه فيذكر الموت والآخرة والزهد في الدنيا والأتعاظ والاعتبار بحال الميت وأما إحسانه إلى الميت فبالسلام عليه والدعاء له بالرحمة والمغفرة وسؤال العافية .
...فينبغي لمن يزور قبر ميت أي ميت كان سواء كان من أولياء الله تعالى أو من غيرهم من المؤمنين : أن يسلم عليه ويسأل له العافية ويستغفر له ويترحم عليه كما تقدم في الأحاديث ثم يعتبر في حال من زاره وما صار إليه حاله وماذا سئل عنه وبماذا أجاب وهل كان قبره روضة من رياض الجنة أو حفرة من النيران ثم يجعل نفسه كأنه مات ودخل في القبر وذهب عنه ماله وأهله وولده معارفه وبقي وحيدا فريدا وهو الآن يسأل فماذا يجيب وما يكون حاله ويكون مشغولا بهذا الاعتبار مادام هناك ويتعلق بمولاه في الخلاص من هذه الأمور الخطيرة العظيمة ويلجأ إليه .
...وأما قراءة القرآن :
فجوزها بعض العلماء ومنعها البعض الآخر وقالوا : الزائر لا بد أن يكون مشغولا بالاعتبار وقراءة القرآن يحتاج إلى التدبر وإحضار الفكر فيما يتلوه ، وفكرتان لا تجتمعان في قلب واحد في زمان واحد .
...فإن قال قائل : أنا أعتبر في وقت واقرأ في وقت آخر والقرآن إذا قريء تنزل الرحمة فلعل أن يلحق بالميت من تلك الرحمة شيء ينفعه .
...فالجواب من وجوه :
...الأول : أن قراءة القرآن وإن كانت عبادة لكن كون الزائر مشغولا بما تقدم من الفكرة والاعتبار في حال الموت وسؤال ملكين وغير ذلك عبادة أيضا والوقت ليس محلا إلا لهذه العبادة فقط فلا يخرج من عبادة إلى أخرى سيما لأجل الغير .
Página 19
...والثاني : أنه لو قرأ في بيته أهدى ثوابها إليه بأن قال بعد فراغه من قراءته : اللهم اجعل ثواب ما قرأته لفلان الميت لوصل إليه ، لأن هذا دعاء له بوصول الثواب إليه والدعاء يصل بلا خلاف فلا يحتاج أن يقرأ على قبره .
...والثالث : أن قراءته على قبره قد تكون سببا لعذابه أو لزيادة عذابه ، إذ كلما قرئت آية لم يعمل بها يقال له : أما سمعتها فكيف خالفتها ؟! فيعذب لأخل مخالفته لها ؛ كما نقل عن بعض من ابتلي بما ذكر أنه رؤي في عذاب عظيم فقيل له : أما تنفعك القراءة عندك ليلا ونهارا ، فقال : إنها سبب لزيادة عذابي ، وذكر ما تقدم سواء .
...فإذا كان كذلك فاللائق بالزائر أن يتبع السنة ويقف عند ما شرع له ولا يتعداه ليكون محسنا إلى نفسه وإلى الميت فإن زيارة القبور نوعان : زيارة شرعية وزيارة بدعية .
...أما الزيارة الشرعية : التي أذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمقصود منها شيئان :
...أحدهما : راجع إلى الزائر هو الاعتبار والاتعاظ .
...ثانيهما : راجع إلى الميت وهو أن يسلم عليه الزائر ويدعو له ولا يطول عهده به فيهجره ويتناساه كما أنه إذا ترك زيارة أحد من الأحياء يتناساه وإذا زاره فرح بزيارته وسر ذلك ، فالميت أولى به ؛ لأنه قد صار في دار هجر أهلها إخوانهم ومعارفهم فإذا زاره أحد وأهدى إليه هدية من سلام ودعاء ازداد بذلك سروره وفرحه .
...وأما الزيارة البدعية :
Página 20
...فزيارة القبور لأجل الصلاة عندها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود عليها وأخذ ترابها ودعاء أصحابها والاستعانة بهم ، وسؤالهم النصر والرزق والعافية والولد وقضاء الديون وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وغير ذلك من الحاجات التي كان عباد الأوثان يسألونها من أوثانهم فليس شيء من ذلك مشروعا باتفاق أئمة المسلمين إذ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة والتابعين وسائر أئمة الدين ، بل أصل هذه الزيارة البدعية الشركية مأخوذة من عباد الأصنام .
...فإنهم قالوا : الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى وتفيض على روحه الخيرات فإذا علق الزائر روحه به وأدناه من فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرأة الصافية والماء الصافي ونحوهما على الجسم المقابل له .
...ثم قالوا : فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه إلى الميت ويعكف بهمته عليه ويوجه قصده وإقباله إليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه اعظم كان أقرب إلى انتفاعه به وذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سيناء والفارابي وغيرهما وصرح به عباد الكواكب وقالوا : إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها نور ولهذا السر عبدت الكواكب واتخذت لها الهياكل وصنفت لها الدعوات واتخذت لها الأصنام وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج عليها وإقامة السدنة لها ودعاء أصحابها والنذر لهم وغير ذلك من المنكرات .
Página 21