أفاقت بدور على صوت زينات تقدم لها فنجان الشاي. - اشربي الشاي يا ست بدور قبل ما يبرد. - ما ليش نفس يا دادا، نفسي مسدودة. - مال لونك مخطوف كده يا ست بدور؟ - عندي برد من امبارح. - لازم مشيتي في المظاهرة، خطر عليكي يا ست بدور. - أوعي تقولي لبابا أو ماما. - ينقطع لساني لو قلت يا ست بدور. - إوعي تقولي لهم يا دادا! - لا يمكن أقول يا ست بدور، إنتي غالية عندي أوي، لكن المظاهرات خطر عليكي يا ست بدور، البوليس قبض امبارح الفجر على ابني نسيم، أخدوه بالفانلة واللباس، أخدوا شباب كثير، كلهم من الناس الفقرا اللي مالهومش ضهر ولا واسطة كبيرة، ضربوهم بالرصاص.
تبتلع زينات دموعها: يا ترى إنت عايش يا ابني أو ميت؟ يا ترى بيعذبوك زي ما باسمع من الناس؟ لو ربنا موجود كان العذاب ده يحصل يا ست زينات؟ أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، سامحني يا رب، شوف عذابي يا رب وإرحم إبني من العذاب.
تمسح زينات عينيها بكم جلبابها الواسع، تحوطها بدور بذراعيها، تبكي فوق صدرها، تمسح كل منهما دموع الأخرى. - عاوزه أموت يا دادة زينات. - بعيد الشر عنك يا ست بدور. - الموت أرحم من العيشة دي يا دادا. - ده إنتي لسه صغيرة يا ست بدور، يدوب عندك تسعتاشر سنة، وربنا أعطاكم خير كثير، بكره تتخرجي من الجامعة وتبقي أستاذة كبيرة، الدكتورة بدور الدامهيري على سن ورمح. - الدنيا مظلمة في عيني يا دادا، خايفه ... - خايفه من إيه يا ست بدور؟ - خايفه بابا وماما يعرفوا اللي حصل. - إيه اللي حصل يا ست بدور؟ - ما فيش حاجة يا دادا، ما فيش حاجة حصلت. - لما ما فيش حاجة حصلت خايفه من إيه؟ - خايفه يعرفوا إني مشيت في المظاهرة. - كل الناس مشوا في المظاهرة يا ست بدور. - مشيت مع واحد زميلي في المظاهرة. - مشيتوا سوا في المظاهرة يا ست بدور وماله؟ جرى إيه؟ المشي في المظاهرة مش عيب، بالعكس ده شرف يا ست بدور، أنا مشيت في مظاهرات كتيرة مع العمال والفلاحين. - أيوه يا دادا زينات لكن بعد المظاهرة رحت مع زميلي. - رحتم فين يا ست بدور؟ - بيته. - بيته؟ - أيوه يا دادا؟ - وحصل حاجة في بيته يا ست بدور؟ - أيوه يا دادا.
تبكي بدور فوق صدر الدادا وهي تحكي لها، ينتفض جسدها في اهتزازات عنيفة، تهدهدها زينات كالأم، تأخذها في حضنها، تربت رأسها وشعرها: قوليلي يا بنتي إيه اللي حصل؟ - إوعي تقولي لحد؟ إوعي تقولي لبابا وماما! - ينقطع لساني لو قلت يا ست بدور، ده إنني غالية عندي زي ابني نسيم، يا ترى عايش أو ميت يا ابني يا حبيبي.
كان اليوم جمعة وقت الظهيرة، بعد سنين كثيرة، الأبواق والميكروفونات كلها مفتوحة مثل فوهات الجحيم، الشمس رغم احتجابها وراء السحابة السوداء تشع لهيبا وسهلا وعرقا، امرأة تختفى وراء نقاب أسود، تصب على العالم فحيحها ولهاثها، كانت تمشي فوق الأسفلت السائل، تدوسه بكعب حذائها المدبب، تصنع خرما في الطين اللزج، تخشى الانزلاق فوق اللزوجة، تخشى السقوط فوق الأرض الهشة، إن سقطت فسوف تنهال فوقها السكاكين، ويهلل العيال خلفها: العجل وقع هاتوا السكين.
والعالم من حولها يزعق في الميكروفونات: الله أكبر، الله أكبر ...
حتى القطط الشاردة أصبحت تموء بكلمة الله أكبر، تتلقى من الصباح إلى المساء كل ما يخرج من فوهات الأبواق، تتمسح بالأرض ساجدة فوق بطنها في خشوع مع الجموع.
يراودها السؤال وهي تمشي: أيكون العالم كله مجنونا برجاله ونسائه وقططه، وأنا الوحيدة العاقلة؟
فوق الجدار العالي كانت الحروف محفورة: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
كانت هذه الحكمة هي ملاذها الوحيد. إذا كان الضلال مشيئة الله فهي حسب مبدأ العدالة بريئة.
Página desconocida