يحلق شعر العانة أيضا، يرش قطرات الكولونيا تحت إبطيه المحلوقين، يتمضمض بالسائل القاتل لجراثيم الفم، يضع تحت لسانه قرصا من النعناع وحبة قرنفل. تنعش الرائحة الطيبة روحه، تزيل عنه التردد واليأس، يملأ صدره برائحة القرنفل والنعناع، يتخيلها بين ذراعيه، بين شفتيه تتشتم رائحة أنفاسه الزكية، يقبض بأسنانه على شفتها السفلى، يحوط خصرها النحيف بيديه، يهبط إلى ردفيها المشدودين في صلابة، الردفان المتمردان القويان، ردفا جواد جامح، لا يمكن لأحد أن يركبه أو يمتطيه. تجمع بين صلابة الذكورة ورقة الأنوثة، ترقص مثل حصان خرج عن الطوق، ليس لها صاحب ولا لجام، ترتج الأرض تحت قدميها، يتخلخل الهواء من حولها، يسري صوتها وهي تغني خافتا ناعما مثل همس القلب، غاضبا عاليا مثل هدير الأمواج، تجمع التناقص داخل كيانها في انسجام غريب، في توازن يشبه انعدام الوزن، في عشق اللذات يتساوى مع إنكار الذات.
كان في طريقه إلى بيتها، هو الذي يقود سيارته، يريد أن يكون معها وحده دون سائق، دون حرس. هبط عليه الظلام وهو في منتصف الطريق ، الشمس غربت مبكرة، نسمة باردة تسللت إلى جسده من تحت الملابس. ارتعشت أحشاؤه بخوف غامض، قشعريرة لذة مقبلة، يعيش الخوف مع اللذة في أعماقه، ضوء القمر يتسلل من وراء السحابة، يرتبط في خياله بالحب وأحلام الليل. أوقف السيارة مترددا بين الإقدام أو العودة، ينطوي الإقدام على أمل باللذة المكبوتة منذ الطفولة، توحي العودة إلى بيته بالأمان والطمأنينة. تحركت السيارة إلى الأمام باندفاعة أشد، بإرادة أقوي نحو السعادة، أن يذوب كيانه في شيء آخر أكبر منه، في روح أكبر من روحه، في جسد أرقى من جسده، أن يذرف الدموع بين ذراعيها، دموع الفرح بالفناء في قمة اللذة، ودموع الحزن لأنه لم يعرف في حياته إلا التعاسة.
فتح بابها ودخل على أطراف أصابعه، يخشى أن يحدث صوتا يوقظه من النشوة. ضوء خافت ينبعث من غرفة النوم وموسيقى حالمة. كل شيء معد للسقوط في بئر اللذة بغير قاع، باب الغرفة نصف مفتوح، رفوف المكتبة من الأرض إلى السقف، أغلفة الكتب دكناء اللون، تكسب عمل الحب نوعا من الوقار. كانت تجلس أمام البيانو تعزف، رفعها من فوق الكرسي بذراعيه الاثنتين، رفعها حتى لامست شفتاه شفتيها، ثم هبط بها وأجلسها فوق السرير، خلع عنها ثوبها الأبيض من القطن، أطل على عري النهدين فوق صدرها، ليس لهما سمرة بشرتها ولا بياض الجلد، بل لون آخر شفاف، يشف من تحته لحم شفاف يشبه الروح. تمنعت كما تعودت أن تتمنع في أحلامه، كالحصن المنيع تتمنع. لم يسبقه أحد إلى هذه القلعة المحصنة، لم يمتلك هذا الجسد مخلوق من قبل، يدخل معها المعركة دون صوت، داخل الصمت الكامل إلا من لهاث أنفاسه المحمومة، يكافح ضد الوقوع في الإثم على أمل الوقوع فيه، تمتد يده إلى مركز الشهوة في ثنايا اللحم، يثبتها فوق السرير دون حراك، كالمروض يثبت الثور الهائج بحركة واحدة، بنظرة قوية خارقة، إلا أن الثور يقفز في لحظة خاطفة، ويغرز أسنانه في لحم كتفه العارية.
هب أحمد الدامهيري من النوم مبللا بالعرق، يحس الألم في كتفه اليسرى ، لسعته بعوضة عنيدة كانت تزن حول رأسه قبل أن ينام، أراد أن يقتلها دون جدوى، كانت أسرع منه في الحركة، تطير قبل أن تصل إليها الملطشة، تختفي في مكان خفي لا يعرف أين. يرشها بالمبيد الحشري دون أن تموت، هذه المبيدات الحشرية أصبحت ضعيفة المفعول، سلالات البعوض الجديدة اكتسبت قوة خارقة للطبيعة، تتحدى إرادة الله مثل الأجيال الجديدة من البنات الفاجرات. في اجتماع المجموعة تحت الأرض صدر القرار، ينفذ أمر الله دون سؤال. أصبحت قائمة الموت تشمل اسم زينة بنت زينات مع الأسماء الأخرى الخارجة عن دائرة الدين المهددة لنظام الدولة، شعراء وشاعرات أنشدوا قصائد ضد النظام، تدعو إلى الحب والعدل والحرية، شباب وشابات من الطلاب والعمال، ساروا في المظاهرات يطالبون بالقضاء على الفساد والرشوة والاستعمار الجديد. يهتفون ضد الفقر وضد الحرب والتجارة بالدين، قائمة الموت تضم أسماء جديدة مع تزايد البطالة، وامتداد مساحات العشوائيات، انتشار المخدرات وجرائم الاغتصاب، ثلاثة ملايين طفل يعيشون في الشوارع، تنكر الأب لابنه أو ابنته بعد الاعتداء على البنت الصغيرة الراقدة على الرصيف.
بدور الدامهيري ترشف قهوتها السوداء كعادتها قبل أن تتأهب للكتابة، أخذت حماما دافئا، غسلت شعرها ورأسها من رواسب النقد الأدبي، غسلت أسنانها بمعجون مطهر منعش. الكتابة عند بدور الدامهيري لها طقوس تشبه طقوس الحب أو الصلاة بين يدي الله، تتطلع بدور نحو السماء بعينين نصف مفتوحتين تتلقى الوحي والإلهام، تمص شفتيها، تتلذذ مذاق القهوة السوداء، تسري مرارتها في أحشائها قوية حادة منعشة، تطرد بقايا الحزن والاكتئاب المزمن. أمامها فوق مكتبها أوراق الرواية، تعلوها بقع حبر أسود وأزرق، وقطرات دموع صفراء ودم أحمر، أصبح لونه بنيا داكنا يقترب من السواد، رائحة عرق بين الحروف، تحت السطور، تعب وإرهاق، حزن دفين، خوف أعمق من الحزن يمنعها من الكتابة، لا تعرف الفرق بين الصدق والكذب، الحقيقة والخيال، تحملق في الفواصل الذائبة بين الأشياء، الإيمان يذوب في الكفر والإلحاد، القبح والوقاحة يذوبان في الجمال والأدب، الأمانة والشرف هما السرقة والخيانة والعار.
تطل الوجوه من بين الأوراق . لا تعرف بدور وجه زوجها من أبيها، لا فرق بين جدها وعمها وابن عمها، تذوب وجوه الرجال في وجه رجل واحد. له وجهان؛ شيطان وإله، تذوب وجوه النساء في وجه امرأة واحدة قاتلة رقيقة، سارقة شريفة، مؤمنة ملحدة، مخلصة خائنة، تلف رأسها بحجاب، تعري بطنها تحت حزام البنطلون الضيق، مشدود حول ردفيها الضامرين، لهما صلابة ردفي النمر، تهزهما وهي تمشي بخطوتها الواسعة السريعة، تبدو خطوتها بين نساء العائلات بدائية غير مهذبة، صوتها الطبيعي بين أصواتهن المكبوتة يرن عاليا خاليا من الأدب، تهمس في أذنها وهي ترمق أوراق روايتها بسخرية: أنت أقل من أن تكوني روائية، أنت طاهرة عذراء بريئة عاجزة عن الإبداع. لن تكتبي الرواية يا بدور إلى أن تعرفي الشر حتى الموت، إلى أن تنهلي من متاع الدنيا حتى الثمالة، حتى الاستغناء عن الدنيا والآخرة، الاستغناء عن الثواب والعقاب، عن الجنة والنار، الاستغناء عن الشرف والفضيلة، أو العار والرذيلة، كلها شيء واحد، حين تنزعين القناع عن وجهك، حين ترين نفسك عارية أمام نفسك، حين تدركين أن الوحدة خير من جليس السوء، الطلاق يا بدور هو الانطلاق والتحرر من الزواج الفاسد.
حين يسود الظلم تصبح الوحدة هي المصير الراقي، هي الصدر الحاني مثل صدر الأم، الشهوة والعفة متلازمتان كالليل والنهار، لا يشغل بال العفيفات مثلك يا بدور إلا الشهوة، ولا تحلم الشهوانيات إلا بالعفة. - تركت طفلتك المولودة فوق الرصيف من أجل ماذا؟ زكريا الخرتيتي؟ زوجك المريض بقضيبه المبتور؟ يغتصب به البنات الصغيرات والأولاد اليتامى والمساكين؟ المريض بعموده المنشور غير المقروء؟ كم سنة تشاركين زوجك في السرير؟ ترقدين تحته كالنعجة العرجاء وتحلمين بكتابة الرواية؟ أتحلمين بكتابة رواية دون ثمن دون أن تدفعي ثمن الإبداع؟ الثمن ضروري للحرية، والشجاعة. بالثمن يا بدور نغير حياتنا إلى الأفضل، ترتفع أرواحنا وتصفو. الكاتبة الروائية يا بدور ليس لها رجل جدير بها، لا تجد صدرا تضع عليه رأسها المتعب إلا صدرها، لا تجد شريكا لحياتها إلا قلمها، أما الناقدة الأدبية مثلك فهي تحظى بكل متع الدنيا والآخرة، بما فيها زوجك الكاتب الكبير، وشرف عائلتك الرفيع، وجائزة الدولة الكبرى، وقصر في الجنة وفوق الأرض. الكاتبة الروائية يا بدور لا تعرف السعادة، وإن عرفتها فهي تنبع من ذاتها، من كتاباتها. الكاتبة الروائية ليس لها وطن ولا أسرة ولا دين ولا مدينة ولا قبيلة، وطنها هو الشارع، هو الطريق المفتوح دون الجدران الأربعة، حياتها هي رحلة إلى المجهول، أنت مدفوعة إلى الكتابة بالوراثة كما ورثت دينك، بالرغبة في الجائزة وليس الرغبة في الكتابة، لهذا تهرب منك الرواية، تتزلق من بين أصابعك كالسمكة في البحر، الرواية يا بدور مثل الأسماك الحية في البحور، تسبح ضد التبار، ليست مثل الأسماك الميتة تطفو مع التيار. المرأة الفاضلة مثلك يا بدور هي المرأة الميتة السابحة مع التيار، وتريدين بعد كل ذلك كتابة الرواية؟
تشوح بدور بيدها البضة الناعمة في وجه بدرية، تطرد عنها شبحها الأسود المرعب، ترفع يدها بالقلم لتخرق عينها، لتكتم صوتها، لكن بدرية ليس لها عين ولا لسان، هي روح هائمة في الجو، تظهر في الليل فوق الجدار الخيال، تطل مثل إصبع إبليس من بين أوراق الرواية، مثل إصبع الله. حقيقية مثل وجود الله وإبليس، هي الحقيقة الكبرى في حياتها، لا يتسرب إليها الشك، يمكن أن تتشكك بدور في وجود إبليس أو وجود الله، لكن بدرية هي الحقيقة الوحيدة في حياتها، هي الصدق، كل ما عداها كاذب تافه غير مهم غير ضروري غير حقيقي.
ترتعش أصابعها وهي تمسك القلم، يتحرك في اهتزازات فوق الصفحة البيضاء، يرسم حروفا متعرجة تشبه كتابة الأطفال، يدور في رأسها السؤال: لماذا يبقى أصدق ما في حياتنا في الخفاء؟ وإن خرج إلى النور يسرقه أقرب الناس إلينا؟
رفعت رأسها من فوق المكتب، رأت زوجها زكريا الخرتيتي واقفا أمامها، داخل منامته الحريرية البيضاء، يهرش الشعر الخفيف الأشيب فوق صدره وأسفل بطنه، يفرك عينيه متثائبا يفتح فمه على آخره، يتمطى ويتثاءب بصوت عال، تفوح من فمه رائحة السمك الميت. قبل أن يسألها أي شيء انفجرت فيه بالسؤال: لماذا تسبح مع السمك الميت يا زكريا؟
Página desconocida