مد السائق محمود ذراعه الطويلة نحو زينة. كانت الورقة مطوية في يده، سلم إليها الورقة واختفى بين الصفوف، وضعت زينة بنت زينات الورقة في جيبها دون أن تفتحها، كانت منهمكة بالحديث مع الناس المحيطين بها، كانت تضحك وتلقي برأسها إلى الوراء، ترن ضحكتها بصوت يشبه الموسيقى، تضحك بكل قوتها على الضحك، مثلما تغني بكل قوتها على الغناء، مثلما تعزف بكل قوتها على العزف، مثلما تنشد الشعر بكل قوتها على إنشاد الشعر، تفعل كل شيء بكل كيانها، بكل ما فيها من جسد وروح وعقل. يرن صوتها في الكون لا يشبه أي صوت، لم يسمع أحد ضحكة مثل ضحكتها، ضحكة امرأة امتلكت نفسها، لم تعد مملوكة لأحد، امرأة أفلتت من قبضة القضاء والقدر، من قبضة السماء والأرض، من قبضة الزمان والمكان. ترن ضحكتها غريبة غير مألوفة، مثل حلم السعادة غير المفهومة، مثل حلم الحب المستحيل، مثل لغز الحياة الحية الآثمة الشريفة.
يرتج جسد أحمد الدامهيري في مقعده حين يسمعها تضحك، تنتشله ضحكتها من حزن دفين في جسده منذ الطفولة، من ألم عميق يسكن روحه منذ كان في المدرسة الابتدائية، منذ كان التلاميذ يضربونه على قفاه في المراحيض، يكتبون اسمه فوق الجدران بالطباشير. «أحمد الدامهيري أبو زمارة.»
صوتها وهي تضحك يسري في أذنيه دافئا مثل لبن أمه، يرفع روحه وجسده إلى السماء، يمسك قطعة من الشمس في يديه، ينسى الألم والحزن، يكاد يضحك معها بصوت عال. كان قد نسى الضحك، حتى سمعها تضحك، انتقلت إليه عدوى السعادة، سمع نفسه يضحك كأنما لأول مرة في حياته، إلا أن صوته لم يطلع.
في لحظة من لحظات اليأس الأسود كتب إليها رسالة أخرى، كم رسالة كتب؟ كم مرة تقدم نحوها السائق محمود مادا ذراعه الطويلة بالورقة المطوية؟ عشرين مرة، ثلاثين مرة، خمسين، مائة، ألفا؟
لم تكن زينة بنت زينات تفتح هذه الرسائل، إن فتحتها تقرأها بنظرة واحدة، من السطر الأول حتى الأخير، ثم تلقي بالرسالة في سلة المهملات. هي تعرف هذا النوع من الرجال، يظن الواحد منهم أنه قادر على امتلاكها، أنها واحدة من الغواني أو الإماء والجواري، ما إن يشير إليها حتى تأتي إليه، رجال يملكون كل شيء في الدنيا والآخرة، وهي لا تريد أن تملك شيئا إلا صوتها إلا أغانيها وألحانها، تريد أن تعزف وتغني وترقص حتى تموت واقفة على خشبة المسرح.
لم تكن زينة بنت زينات ذات جمال باهر، لا ليس الجمال ما جذب العيون إليها، بل شيء آخر غير الجمال، غير معروف، شيء يشع من حولها على شكل موجات من الضوء. لا، ليس الضوء، بل موجات من الوجود، كان لها وجود يتميز عن أي وجود، ذلك الوجود الذي يشغل المكان والزمان فلا نحس وجودا آخر.
يرى أحمد الدامهيري وجودها في عيون الآخرين، تنعكس صورتها في عيونهم فلا يرون غيرها. يكتسب المكان بحضورها نوعا من الوجود الحي، يتحول المكان إلى كائن حي. تسري في المكان موجات حية أو حيوية ما، تشبه الكهرباء أو المغناطيس، جاذبية ما تسري من عينيها وصوتها إلى كل ما حولها فتعم المكان، خشبة المسرح لا تعود خشبة، بل حياة في حد ذاتها، في تلامسها بقدميها وهما تدبان فوق الخشبة مع الإيقاع.
لم تكن زينة بنت زينات ترتدي ملابس الحفلات، لا ثوبا يلمع ولا جواهر تشع، بل ثوبا أبيض من القطن المصري الناعم. حذاؤها من الجلد الخفيف ليس له كعب، لا ينم مظهرها عن شيء غير عادي، مظهر عادي تماما وخارق للعادة بسبب عاديته البسيطة؛ بساطة الشمس حين تطلع وحين تغيب، لا تكف عيناه عن التطلع إليها، الحملقة فيها. يريد أن يعرف سرها، أن يهتك لغزها، يفكك أوصالها ومفاصلها كما فعل مع الدمية العروسة وهو طفل.
تبدو النساء من حولها كالعرائس، كالدمى، مصنوعة من الشمع أو الصلصال، مدهونة بالجير الأبيض والأحمر والأخضر وكل الألوان، مرصعة بالخواتم والأساور والعقود والسلاسل الذهبية. تتشابه النساء في الحركة والشكل والصوت مثل العرائس المتحركة، خيوطهن في أيدي غيرهن، تمسكهن من العنق، أو الذراع أو الساق وتحركهن في أي اتجاه.
في هدوء الليل وهو غارق في النوم يبتلع أحمد الدامهيري شهوته السوداء، الباردة كالثلج الأبيض. يتخيل زينة معه في الفراش عارية مستسلمة تحت جسده، متأوهة باللذة والألم، ثم تبكي تحت زمارته كغيرها من النسوة.
Página desconocida