تكلم بدور نفسها، تقول لنفسها: أنا ناقدة أدبية، لست روائية، أنا لا أجيد إلا مسح أحذية الآخرين. مهنة النقد الأدبي مثل تلميع الأحذية. اعترفت في لقاء صحفي أنني أشعر بالفخر حين أمسح حذاء زوجي، وكسبت الأصوات في انتخابات الجامعة، وخسرت صوت نفسي. فقدت قدرتي على الكتابة، وانكسر قلمي مع انكسار قلبي.
لم تكن بدور تكلم نفسها، كانت تكلم طبيبها النفسي. تخلط بين نفسها وبين طبيبها النفسي، تنتقل من سريرها إلى الأريكة في العيادة بخطوات بطيئة حذرة كما تمشي في النوم. تخشى السقوط فجأة إن أدركها الوعي، لا يتغير جسدها هنا أو هناك، جسدها المربع القصير السمين، تخلعه عنها في الكتابة، لتأخذ جسد بدرية الطويل الرشيق، بشرتها يتغير لونها حسب قوة الكهرباء، تتأمل دون رحمة صورتها في المرآة، تلمس دليل انحدارها، تتجسد نفسها أمام عينيها. لن ينقذها من نفسها إلا مزيد من السقوط في هوة الكتابة.
لكن الحبر لونه أبيض، لا تظهر الحروف فوق الصفحة البيضاء، يلتصق البياض بعينيها المفتوحتين حتى آخرهما، أصبحت بدور تنام بعينين مفتوحتين، مثل حيوان ليس له جفون. - يا دكتور هذا المرض المزمن هو حياتي، لن يشفيني إلا الموت أو الكتابة. - اكتبي يا بدور، ما يمنعك من الكتابة؟ - لم يخلقني الله لأكتب يا دكتور. - أتعودين إلى الإيمان بالله يا بدور؟ - الإيمان يحميني من الكتابة يا دكتور؛ لأن الله خلقني لأرقد تحت زوجي وأمسح حذاءه، لأدلك قدميه بالماء الدافئ، وأغسل جوربه النتن بالصابون المعطر، وأترك له جسدي يصب فيه ماءه العطن و... - أنت تقولين هذا الكلام منذ تزوجت يا بدور، كم سنة الآن؟ - مش عارفة يا دكتور يمكن ميت سنة. - عشرين سنة؟ - أكثر يا دكتور، وكل يوم أقول لنفسي ليه أنا عايشة معاه؟ مش قادرة آخذ قرار حاسم يا دكتور، صافي صديقتي أشجع مني، تخلصت من كل أزواجها وعايشة حرة، وبدرية أشجع مني ... - بدرية؟ - كانت معايا في المدرسة الابتدائية، كنا نقول عنها بنت زنى، ونكتب اسمها بالطباشير في المراحيض.
وتشد بدور جفونها وتصحو. تختلط الصور والأسماء في خيالها، لا تعرف الحقيقة من الخيال، جسدها ممدود فوف الأريكة، يتأملها الطبيب النفسي بإشفاق، فوق الأريكة ذاتها كان زوجها زكريا الخرتيتي ممدودا، يشكو للطبيب آثامه وأحزانه، وابنتهما مجيدة تمددت أيضا فوق هذه الأريكة، تفتح قلبها للطبيب النفسي، تتخفف من وطأة الإثم، وصافي صديقة بدور، والأمير ذاته، أحمد الدامهيري، الذي تمدد فوق الأريكة. حكى للطبيب لوعة الحب من طرف واحد، جحيم الرغبة في الانتقام، لم يذكر له اسمها زينة بنت زينات، خشي أن يبلغ الطبيب الأمر إلى البوليس.
كلهم جاءوا وتمددوا فوق الأريكة في عيادة الطبيب النفسي، أرادوا التخفف من الأسرار الدفينة الجاثمة فوق قلوبهم. ثقيلة كالجبال، ينفضونها عن صدورهم في أذن الطبيب النفسي، أذنه كبيرة مشرئبة من وراء الدخان، تشبه أذن الله في سمائه العليا، أو أذن القسيس المطلة من وراء الستار، تتلقى الاعترافات بالآثام من المؤمنين المذنبين المعذبين، والمؤمنات المذنبات المعذبات. - يا دكتور، انت عندك كل أسرار البلد، من القمة للقاعدة كل الناس من أكبرهم لأصغرهم، كل الأسرار عندك، كل القصص والروايات العجيبة فوق الأريكة. - ده عنوان جميل لرواية جديدة يا بدور. - أيوة، أيوة يا دكتور، لازم تكتب رواية بعنوان: فوق الأريكة. - أنا مجرد طبيب نفسي، أنا مش روائي، أنا أسمع كويس، لكن ما اعرفش أكتب جواب من صفحة واحدة أو صفحتين، الكتابة موهبة من عند الله، الكتابة نعمة من نعم الله يمنحها لمن يشاء من عباده. - الكتابة نقمة مش نعمة يا دكتور، الكتابة عذاب وألم ودموع ودم. الكتابة صبر طويل وشغل ليل نهار ونهار وليل، الكتابة مرض مزمن يا دكتور مالوش علاج غير الكتابة، قصدي الكتابة الحقيقية، كتابة الرواية، مش الكتابة في النقد الأدبي يا دكتور، النقد الأدبي ده مهنة طفيلية، زي الديدان الشريطية، تعيش على دم غيرها، على دم الرواية. - إنتي يا بدور أكبر أستاذة نقد أدبي في البلد. - كان لازم أقدم استقالتي من الجامعة، كل يوم أقول لازم آخذ قرار بالاستقالة من شغلي، كل يوم أقول لازم آخذ قرار انفصالي عن زوجي، كل يوم أصحى من النوم وأقول لنفسي، خلاص يا بدور كفاية، كفاية، لازم تأخذي قرار بالطلاق من الزوج ومن النقد الأدبي، لازم تحرري نفسك من الاثنين دول، اللي كاتمين على نفسك، الاثنين دول يا دكتور سبب فشلي في حياتي. - انتي يا بدور أنجح امرأة في البلد، اسمك نار على علم. - أنا فاشلة يا دكتور، أنا فشلت في أهم شيء في حياتي. - وإيه أهم شيء في حياتك يا بدور؟ - مش عارفة، عندي إحساس إني ضحيت بأعز شيء بحياتي من أجل أشياء تافهة. - تافهة زي إيه مثلا؟ - زي مثلا الكرسي في الجامعة، الاسم بالبنط العريض في الجريدة، الصورة داخل البرواز، شرف العيلة الكريمة، الزوج المحترم العظيم، الفيلا الكبيرة في جاردن سيتي، الأبهة والكلام الفارغ ده. - وأعز شيء في حياتك إيه؟ - بنتي يا دكتور. - بنتك مجيدة ما شاء الله كتاباتها في مجلة النهضة شيء جميل، شيء عظيم!
أطرقت بدور في صمت طويل، مترددة، حائرة، هل تحكي له سر حياتها الكبير؟ حكت له كل شيء إلا هذا السر الدفين، هل يحفظ السر؟ هل تملك شجاعة البوح؟ تريد أن تنفض عن قلبها هذا العبء الثقيل، أن تشفي نفسها من المرض المزمن الطويل، أن تمشي إلى زينة بنت زينات تحوطها بذراعيها، تأخذها في حضنها، تعترف لها أنها أمها. تطلب منها الصفح والغفران، تقول لها: اغفري لأمك المعذبة المحنطة بالخوف من الله وألسنة الناس، وألسنة اللهب في نار الجحيم، في الدنيا وبعد الموت. سامحي أمك التي تركتك فوق الرصيف، فوق فراش من الشراب، ظهرك مسند إلى الجدار، إلى السور المطل على النيل، لفتك بغطاء من الصوف، وغطاء أكبر من ظلام الليل، وقطرات الندى ونقيق الضفدع، أطلقت عليك اسم زينة، زينة الدنيا وراحت، راحت في ظلام الليل قبل طلوع الفجر.
تصحو بدور من النوم، تجد نفسها جالسة وراء مكتبها، أمامها الدوسيه الأصفر، مكتوب عليه «الرواية المسروقة».
كم مرة سرقت منها هذه الرواية؟
كم مرة استعادتها وكتبتها ثم سرقت منها؟
ربما هو زوجها زكريا الخرتيتي، لا يري للزوجة مكانا إلا تحت زوجها في الفراش، وإن ارتفع قدرها واشتهر اسمها، إن حملت لقب أستاذة، أو دكتورة أو وزيرة أو رئيسة وزراء أو رئيسة دولة، فإن مكانها الطبيعي الصحيح هو ذلك المكان في السرير أسفل زوجها، وليس فوقه بحال من الأحوال، إن صعدت لحظة فوقه فلا بد من إعادتها إلى مكانها.
Página desconocida