تلطم صفاء الظبي خدها وتولول مثل النسوة وراء نعش الميت، تبكي بغير دموع نشيجا جافا مشروخا ممزقا متقطعا. تغلق جفونها وتفتحها، تنام وتصحو، ثم تنام، ثم تصحو، تواصل حديثها المتقطع الممزق المبعثر في الماضي والحاضر، المتأرجح ما بين الوعي واللاوعي: أكبر كارثة يا دكتور ضياع الفلوس، شقا عمري كله يضيع كده في غمضة عين؟ عمري ما جالي انهيار عصبي أبدا أبدا أبدا، ياما شفت كوارث في عيشتي المهنية، ولا يمكن عرفت حاجة اسمها انهيار عصبي. لما اكتشفت إن جوزي بيخوني قلت له روح في ستين داهية، وكسرت وراه قلة قديمة. - جوزك انهوه يا صافي، الماركسي أو الإسلامي؟ - مش فاكرة يا دكتور مين فيهم، كانوا شبه بعض في كل حاجة؛ في الشغل السري، تحت الأرض، في النشاط السياسي، وفي النشاط الجنسي، شبه بعض في كل حاجة حتى الخيانة والكذب والمراوغة، وعشق السرية والتخفي، وإخفاء الفساد بالتشدق بكلمات كبيرة أوي، تحت اسم ربنا الله، أو ربنا كارل ماركس. لكن الراجل الماركسي كان حريص أكثر من التاني الإسلامي، بتوع الماركسية واعين مدربين ع السرية واللوع، لكن بتوع الإسلام أغبيا ومكشوفين. الراجل الثاني الماركسي كان واعي زي الحصوة، عاش معايا تسع سنين يخوني كل ليلة مع واحدة ثانية وأنا مش داريانة، لغاية ما واحدة صاحبتي ضربتلي تليفون، قالتلي جوزك يا صافي عنده شقة في شارع رمسيس. كتبتلي العنوان على ورقة جورنال، وأخذت تاكسي، طلعت الدور الثالث من غير أسانسير، وقفت أنهج قصاد الباب، دقيت الجرس رن رن رن، افتح يا سمسم، انفتح الباب، لقيته قصادي، هو جوزي الماركسي بلحمه وشحمه، أعرفه من مليون راجل، عشت معاه في سرير واحد تسع سنين، كان لابس بيجاما جديدة ملونة من الحرير، لونه أصبح أصفر زي الليمونة، واقف وراه طفل عمره ثلاثة أو أربعة سنين مش عارفة يمكن خمسة، الولد مسك إيد أبوه وقاله: يا بابا مين الست دي؟
واحدة غيري يا دكتور كان ممكن يجيلها انهيار عصبي، لكن أبدا. رفعت عيني في عينيه وقلت له: ازاي تعمل كده وانت راجل بتاع مبادئ، تعرف قال إيه يا دكتور؟ - قال لك إيه يا صافي؟ - قال لي ازاي تتجسسي علي؟ مش عيب عليكي وانتي أستاذة جامعة محترمة؟ تصور الوقاحة والبجاحة يا دكتور؟ طبعا خلعته من حياتي زي ما باخلع الجزمة يا دكتور، لا انهيار عصبي ولا يحزنون . لكن طبعا تسع سنين مش حاجة هينة يا دكتور، أحيانا كنت أصحي في نص الليل من عز النوم، أمد إيدي على السرير العريض، أفتح جفوني، ألاقي السرير فاضي، جالي أرق سنتين. لا يمكن كنت أنام إلا بالحبوب المنومة، وإن نمت أحلم أحلام مزعجة يا دكتور. - أحلام مزعجة زي إيه؟ - كنت أمسك السكينة وأخرج في الشارع، أمشي في الليل وأنا نايمة، أدور على تاكسي ما لقيتش، أمشي وأمشي على رجليي لغاية شارع رمسيس. أطلع الدور الثالث من غير أسانسير، أدق الجرس، يفتح لي الباب لابس البيجاما الملونة الحرير، زراير البنطلون مفتوحة، زراير الكلسون مفتوحة، أغرز السكينة في بطنه، في البتاع بتاعه اللي خاني بيه، أقطعه بالسكينة، ألفه في ورقة من جورنال، وأرميه في النيل، وأرجع البيت ماشية أشم هوا النيل العليل.
تغلق صفاء الظبي جفونها، يبدو عليها الإرهاق الشديد، يمسك الطبيب النفسي يدها في يده، يقول بصوت حنون في أذنها: إنتي يا صافي إنسانة عظيمة، أستاذة عندها عقل. أي امرأة عندها عقل لا يمكن تجد الرجل اللي يستحقها. كل الرجالة ورق، كلهم مرضى، كذابين منافقين مزدوجين وأنا واحد منهم، انتي أستاذة كبيره لكي اسمك ومؤلفاتك ومنصبك في الجامعة. الفلوس تروح وتيجي، الراجل يروح ويجي، كل شيء يروح ويجي إلا عقلك وشغلك وكتاباتك وصحتك. - لكن الفلوس يا دكتور؟ شقا العمر كله؟ قلبي موجوع على الفلوس، جسمي موجوع، أرجوك يا دكتور امسك إيدي، عاوزة أقوم أقف على رجليي.
ساعدها الطبيب النفسي على النهوض، سارت خطوة أو خطوتين متأرجحة. كادت تسقط لولا أن الطبيب حولها بذراعيه، وجدت نفسها في حضنه، تدفن وجهها في صدره وتبكي، تنشج بالبكاء وهي تحوطه بذراعيها، تخلخلت ساقاها، سقطت فوق الأريكة وهو معها. جسدها نصف الواعي ينتفض، شيء في أحشائها يرتعش، رغبة قديمة دفينة منذ الطفولة، لذة عارمة تجتاحها لم تعرفها، تريد أن تعرفها، تستبد بها الرغبة في المعرفة، لم يمنحها رجل واحد المعرفة. استبدت بها الرغبة وعقلها نصف غائب، زحفت شفتاها المحمومتان فوق صدره وعنقه وشفتيه. أمسكتهما بشفتيها الساخنتين ، شفتاه باردتان محايدتان، لا تسري فيها الحرارة، لا يصدها ولا يشجعها، يترك نفسه بين ذراعيها، يترك جسده تحت جسدها، يتركها تفك أزراره، يستسلم لها وهي تأخذه كما يأخذ رجل امرأة.
قبل أن تخرج من عيادته أمسك يدها في يده، طبع فوق خدها قبلة امتنان. - أشكرك يا صافي. - على إيه يا دكتور؟ - مش عارف. - بالعكس، أنا اللي أشكرك يا دكتور. - على إيه يا صافي؟ - أول مرة في حياتي أشعر بالراحة، كأني ... كأني كنت ... كنت شايلة جبل، مش عارفه إيه هوه جبل ثقيل مش عارفة ليه، لكن خلاص الثقل راح. حاسة يا دكتور إن جسمي أصبح خفيف زي الريشة وعندي قوة أهد جبل.
تبحث بدور الدامهيري عن روايتها في كل أدراجها. الرواية ضاعت منها دون أن تكتمل، تبخرت في الهواء كأن لم تكن. لم يعرف طريق الرواية أحد إلا زوجها زكريا الخرتيتي، يرمقها حين تكتب بحسد، يغار من عقلها وحروفها على الورق. لم تكن تقرأ عليه ما تكتبه، لا تسأله رأيه في كتاباتها، كانت واثقة بنفسها إلى حد الغرور، وكان يريد أن يحطم هذا الغرور، يمط شفتيه حين يقرأ مقالها المنشور في المجلة، يتطوع بإبداء الرأي دون أن تطلب منه: مقالك كان ممكن يكون أحسن يا بدور.
لا ترفع عينيها عن أوراقها، لا تنتبه إلى ما يقول. - مش سامعاني يا بدور؟ - سامعاك يا زكريا. - مش عاوزة تسمعي رأيي في مقالك؟ - أنا عارفه رأيك يا زكريا. - يعني إيه عارفه رأيي؟ - يعني عارفة أفكارك كلها يا زكريا، من مية سنة عارفة أفكارك، من يوم ما تجوزنا وأنا باسمع آراءك. كل يوم باسمعها، التكرار يعلم الحمار، وأنا مش حمارة.
كان يقرأ لها عموده اليومي أكثر من مرة، يسألها رأيها المرة بعد المرة، يصيبها النعاس حين يقرأ، قرأته من قبل أكثر من مرة. يصيبها النعاس رغم إرادتها، يصيبها التكرار بالملل، يؤكد التكرار إفلاس العقل وإن جاء في كتاب من كتب الله، هذه العبارة الأخيرة ليست من عندها، إنها عبارة بدرية بطلة الرواية المسروقة، لم يسرقها أحد إلا زوجها. كان يقول عن بدرية: امرأة ناقصة عقلا ودينا، تنطلق بعبارات خارجة عن دائرة الإيمان، الإعجاز في كتب الله الثلاثة يتجاوز عقلها الناقص. - بدرية شخصية خيالية في رواية يا زكريا، أنت تتعامل معها كما لو كانت امرأة حقيقية.
يمط شفتيه إلى الأمام يهتز بينهما السيجار الهافاني الكبير، يضعه بين شفتيه دون أن يشعله، كما يفعل رئيس التحرير ومحمود الفقي وأصحاب الأعمدة الأخرى. ما إن يملك الواحد منهم عمودا يوميا حتى يظهر السيجار بين شفتيه، يمطهما إلى الأمام حين لا يعجبه عمود، لم يكن يعجبه من الأعمدة إلا عموده، ولا صورة على رأس أي عمود إلا صورته، يتأملها طويلا وهو يلعب بإصبعه في أذنه أو أنفه، أو يهرش الشعر فوق صدره أو أسفل بطنه أو تحت إبطه.
يمشي زكريا الخرتيتي بحركة تشبه حركة الكتاب الكبار، يتكئ على قدمه اليسرى أكثر من اليمني، كأنما يعاني عرجة خفيفة، تنم عن الدلع التدلل التمختر في المشية. ترتفع كتفه اليمني قليلا عن الكتف اليسرى، تنخفض الألية اليسرى عن الألية اليمني قليلا، يمشي والسيجار في فمه مطفأ أو مشتعل قليلا. يطرق قليلا كأنما في تفكير عميق، ثم ترتفع عيناه نحو السقف كأنما في شرود طويل مثل الغارقين في الفكر العميق، إلا أنه سرعان ما يعتدل في مشيته أمام الرئيس أو الوزير، وينخلع السيجار عن شفتيه وتتلاشي التكشيرة العميقة والنظرة الشاردة. يصبح مستقيم الساقين والأليتين، منتبه الحواس الخمس؛ البصر والسمع والشم واللمس والتذوق، الحاسة السادسة أيضا تشتبه، والحاسة السابعة، وهي حاسة لا يملكها إلا من اقترب من أصحاب السلطة والمال والسلاح، مشتقة من حاسة الشم؛ يشم الكاتب الكبير متى يقبض عزرائيل الموت على رئيس التحرير ليجلس في مقعده.
Página desconocida