حين سأله «ما تفسير معنى الله؟» أراد الخرتيتي أن يحرج المحقق، أن يكشف جهله، أن يورطه في الإجابة عن شيء ملتبس غير واضح، أن يثبت لابنه أنه قادر على المواجهة والتحدي.
أطرق المحقق لحظة يفكر في الإجابة، استرد الخرتيتي في هذه اللحظة سلطته، أدار رأسه نحو ابنه وابتسم في زهو. أبوه ينتصر دائما، لا يهزمه أحد وإن كان القانون ذاته أو الشرع أو الحكومة.
رفع المحقق رأسه وصاح بصوت غاضب: أنت هنا متهم يا أستاذ، ليس للمتهم أن يوجه الأسئلة. عليك الإجابة بنعم أو لا، هل تؤمن بوجود الله؟
أطرق الخرتيتي رأسه، عضلة صغيرة ترتجف تحت عينه اليسرى. منذ الطفولة ترتجف هذه العضلة حين يشخط فيه أبوه أو المدرس في المدرسة، أو إبليس حين يعصيه أو الله ذاته، حين يشخط فيه غاضبا عليه، حين تلمح عينه الساهرة لا تنام يده من تحت الغطاء، تتسلل إلى ما بين فخذيه، تداعبه، تدلكه، حتى يبلغ اللذة.
وأجاب الأب الخرتيتي وهو مطرق إلى الأرض، بكلمة واحدة كما أمره المحقق، قال: نعم.
في طريق العودة إلى البيت كان الأب يسير منكس الرأس صامتا، لم يتبادل كلمة واحدة مع ابنه، سألته زوجته وهي تفتح لهما الباب: عملتو إيه؟
انفجر غاضبا في زوجته، ينفس فيها عن غضبه المكبوت من المحقق، ومن كل من أغضبوه منذ الولادة حتى الموت، يشوح في وجهها بيده الممدودة، تكاد إصبعه تخرق عينها: اصبري شوية يا ولية لغاية ما آخذ نفسي!
تركته في الصالة، دخلت إلى غرفتها وأغلقت الباب وراءها، جلس في مقعده يلهث قليلا، لم يكن يلهث البتة وإن صعد عشرة أدوار، كأنما زحفت إليه الشيخوخة فجأة. وجهه أصبح طويلا نحيلا رماديا، ابنه جالس في ركن الصالة يرمقه، يتفادى النظر إلى ابنه، يجلس مطرقا صامتا، كتفاه محنيتان إلى الأمام، شعره يتساقط فوق رأسه المثلث الشكل، تتراءى تحت الشعر الخفيف صلعة تلمع في الضوء، يكاد يشبه أباه في صورته المعلقة فوق الحائط، من حولها شريط أسود. - هات لي كوباية مية يا ابني.
بينما هو يرشف من كوب الماء، وابنه إلى جواره ينظر إليه بعينين صغيرتين غائرتين، تطفو فوقهما دمعة حبيسة لا تسقط ولا تتبخر، نظر الأب في عيني ابنه وابتلع الدمعة مع رشفة الماء، وقال بصوت الأسد الجريح: طه حسين تراجع في التحقيق وأعلن أنه مؤمن، وأبوك يا ابني ليس أشجع من طه حسين.
أصبح زكريا يردد عبارة أبيه إن اتهمته زوجته بعدم الشجاعة، عينها الناقدة كانت ترمقه حين يتراجع عن آرائه، أو يغيرها إن عارضه رئيس التحرير أو الوزير أو من هو أكبر منهما، يتراجع مرددا آراءهم، يقتبسها لعموده اليومي، يضفي على كلمات الرئيس هالة من القدسية أو الفلسفة العميقة أو الفكرة اللامعة المبدعة، لم يصل إليها مفكر أو فيلسوف.
Página desconocida