Zaytuna Wa Sindiyana
الزيتونة والسنديانة: مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه: هكذا تكلم عبد الله
Géneros
الأولى تمد جذورها في دمشق، في أعماق الطفولة، والحلم، والذكريات، والشوق.
والثانية تنشر ظلالها في «ليبزيج»، مدينة الكتب، والعلم والفكر، والموسيقى، والهواء الموبوء بدخان المصانع وغبار الفحم.
زوج مختلف مؤتلف معا في وجدان الشاعر الذي ما فتئ - على مدى أربعة عقود من الزمان - يزاوج بين القطبين الأخضرين، ويتسلق الجذعين الراسخين في صميم كيانه، ويبذل كل ما يستطيع لإتمام الزفاف بين الثلج ودفء الشمس، في محاولة دائبة لتحسس الطريق إلى «الآخر»، ورأب الصدع أو الشرخ الذي يباعد بينهما ويعذبه ويمزقه ليل نهار: «آه أيها الشوق، لا تخنق البراعم في الضلوع المتشعبة الغصون.»
والشوق يحمله لشجرة الزيتون العجفاء التي تسخو بالزيتون، وتختزن الشمس في عروقها وتحط على مرساتها الخضراء حمامة نوح، والشوق يحركه أيضا نحو شجرة السنديان التي يتقطر منها المطر المتواصل، وتصنع من أوراقها المتكاثفة سقفا لحبه الكبير.
1
ويبقى البلد البعيد - الذي تستقر فيه وفي أحلامه وذكريات طفولته عنه شجرة الزيتون - وشما على الجبين، تميمة حول الرقبة، نبيذا معتقا في الذاكرة، بل نفسا يتردد في الصدر، وصورة تمسك بها يداه عندما يتوه في أدغال المدن الغريبة، كما يمسك الطفل برداء أمه في زحام البازار.
2
وتناديه أصوات اللهفة والحنين من ذلك البلد البعيد، فيلهث داخل الشبكة الواسعة التي أحكم خيوطها البلد الآخر، وهو يتحسس الطريق إلى حضن الأم. ويظل البلد البعيد هو الوطن الذي تتشبث أشواقه وذكرياته بجذورها الضاربة في حواريه الضيقة، وأزقته المتعرجة وملاعب طفولته وصباه، وأيام شبابه الباكر بأحزانه وأفراحه وكفاحه في سبيل لقيمات خبز تملأ الجوف، ولقيمات من خبز الشعير الذي بدأ ينضج تحت شمسها. ويبقى البلد الأجنبي، الذي جاء إليه بإرادته الحرة وفوق جبينه أحلام خضراء، هو الوطن الذي استطاع - بعد الكد والمرارة، والتحدي والمعاناة في تخطي أسواره الشائكة - أن يرسخ فيه جذوره، ويستظل فيه بنعناعة حبه الذهبية الخضراء، وينتزع الإعجاب والاحترام والاعتراف والتكريم أيضا من الآخر العنيد المتصلب، الذي لم ينجح كل النجاح في تخطي أحكامه وتحيزاته المسبقة ضد الشرقي والعربي بوجه خاص.
مع ذلك يبقى الشرخ داخل الجذور، ويظل الجرح يصرخ من ألم الفصام بين الطرفين المتباعدين. ولا يجد الغريب في بلدين، والمواطن في وطنين في نهاية المطاف من سبيل أمامه إلا أن يسلك طريق «الإنسان الكلي» أو «الأديب الكوني» - إذا صح هذان التعبيران - الذي يثبت جذوره في مركز العالم وقلبه النابض، ويأخذ هذا العالم والإنسانية كلها بين جفونه في الصحو والمنام، ويعلو فوق الشروخ والصدوع والجروح ليطل على «الكل» من فوق شجرته الشعرية، أو على الأقل ليستظل بظلها الوارف وهو قرير العين مرتاح الضمير، بينما لسان حاله يقول: بلداي ووطناي الاثنان، نحن اقترنا بالزواج إلى أن يفصل الموت وحده بيننا، وها أنا ذا الآن هنا، بينكم ومعكم، ولن أتخلى عن نفسي أو عنكم، أو عن بلد جئتها وعلى جبيني أحلام خضراء.
3
Página desconocida