ملاحظات على هذا الكتاب
هذا عمل غير خيالي، بني أساسا على ما رواه عبد الرحمن زيتون، وزوجته كاثي زيتون، وتأكدت من صحة التواريخ، والأوقات، والأماكن استنادا إلى مصادر أخرى مستقلة، وإلى السجلات التاريخية. كما أوردت المحادثات وفق أفضل ما وعته ذاكرة المشاركين في الأحداث، ولكني غيرت بعض الأسماء.
ولا يحاول هذا الكتاب أن يصبح كتابا شاملا لكل ما يتعلق بمدينة نيو أورلينز أو إعصار كاترينا، إنه رواية وحسب لما مرت به أسرة واحدة من الأحداث قبل العاصفة وبعدها، وقد كتب بمشاركة كاملة من أفراد أسرة زيتون، وتتجلى فيه نظرتهم إلى الأحداث.
الفصل الأول
الجمعة، 26 من أغسطس 2005
في الليالي التي يغيب فيها القمر، يخرج الرجال والصبيان في جبلة؛ تلك القرية الصغيرة ذات الشوارع الترابية التي تعيش على صيد السمك على ساحل سوريا، فيجمعون مصابيحهم وينطلقون إلى البحر في أهدأ قواربهم، وهكذا تبحر خمسة قوارب أو ستة، وفي كل منها صيادان أو ثلاثة، وعلى مبعدة ميل من الشاطئ تنتظم قواربهم على شكل دائرة في البحر الغارق في الظلام، ثم يلقون بشباكهم في الماء، رافعين مصابيحهم فوق صفحة الماء كأنما يسطع القمر عليها.
وسرعان ما تبدأ أسراب السردين في التجمع، فتبدو كتلة فضية اللون صاعدة من الأعماق؛ طلبا لغذائها من العوالق الحية الصغيرة التي اجتذبتها الأضواء، فتبدأ الالتفاف والدوران في سلسلة ذات حلقات غير مترابطة، وتزداد أعداد أفرادها في الساعة التالية، فتغلق الفجوات السوداء بين الحلقات الفضية، بحيث يبصر الصيادون من تحتهم كتلة مصمتة من الفضة تدور حول نفسها.
لم يكن عبد الرحمن زيتون قد جاوز الثالثة عشرة من عمره حين بدأ يمارس صيد السردين بهذا الأسلوب الذي يسمى «لامبارا» المستعار من الإيطاليين، وكان قد انتظر سنوات طويلة للحاق بالرجال والشبان في قواربهم الليلية، وقضى تلك الفترة في طرح الأسئلة. لماذا لا يخرجون إلا في الليالي غير المقمرة؟! وأجابه أحمد قائلا: «لأن العوالق تبرز بوضوح في الليالي المقمرة في كل مكان، وتنتشر في أرجاء البحر كله، فيستطيع السردين أن يرى تلك الكائنات الدقيقة البراقة بسهولة ويأكلها، وأما في الليالي غير المقمرة فيستطيع الرجال أن يأتوا بقمر من عندهم، أي مصباح، فيجتذبوا السردين إلى السطح في تجمعات مذهلة.» وقال أحمد لأخيه الصغير: «عليك أن ترى ذلك، فلم تشاهد من قبل شيئا يشبهه!»
وعندما أبصر عبد الرحمن أول مرة ذلك السردين وهو يدور في الماء الحالك، لم يصدق ما يشاهد؛ جمال الحلقة الفضية المتماوجة تحت الضوء الأبيض والذهبي للمصابيح، ولم ينطق بكلمة واحدة، كما حرص الصيادون على التزام الصمت، فجعلوا يجدفون من دون تشغيل المحركات؛ خشية إخافة الأسماك النافرة فتهرب. كان من عادتهم أن يتهامسوا فوق البحر فيطلقوا الفكاهات، ويتحدثوا عن النساء والفتيات وهم يرقبون الأسماك ترتفع من تحتهم وتدور. وبعد بضع ساعات عندما يجتمع السردين - عشرات الآلاف اللألاءة في الأضواء المتكسرة - يحكم الصيادون طرح الشبكة ويأتون بالأسماك إلى القوارب.
وفي طريق العودة إلى الشاطئ يديرون المحركات ويحملون الأسماك إلى تاجر الجملة في السوق قبل بزوغ الفجر، حيث يدفع النقود للرجال والصبيان، ثم يبيع الأسماك في شتى أنحاء غرب سوريا؛ في اللاذقية، وبانياس، ودمشق. ويتقاسم الصيادون النقود، ويعود عبد الرحمن وأحمد بنصيبيهما إلى المنزل. كان والدهما قد توفي قبل عام واحد، وأمهما واهنة، ومن ثم كان كل ما كسباه من صيد السمك ينفق على المنزل الذي كانا يعيشان فيه مع عشرة أشقاء.
Página desconocida