شرفني صديقي الأستاذ حسن أفندي صالح الجداوي الغيور على حرمة الأدب بكلمة نقدية، دعاني إلى كتابتها ليضمها إلى مجموعة الأدب الثمين التي ينشرها اليوم بعنوان «زينب: نفحات من شعر الغناء»، فتلبية لدعوته الصادقة أكتب هذه الكلمة، وإن كانت غير ما يرتقب، فقد ذهب بروحي النقدية إعجابي بما تذوقته من حلو نخبه المسكرة المشجية معا، وما لمحته فيها من القابلية العظمى لضروب من التوقيع، كأنما ناظمها موسيقي قبل أن يكون شاعرا، ولا عجب فكل بيت بل كل لفظ فيها يشعرك بشرف العاطفة، ودقة المعنى، وسلامة الذوق، وعمق الحس الصافي، وخفة الروح الكريمة، وحب الفن، وهذه صفات حرية بأن تخلق النور من الظلام، والماس من الفحم، والجنة من النار. ولو كان شاعرنا قد تحمل عذابا أكثر في سبيل عواطفه؛ لكان في اعتقادي ربح الأدب والفن أجزل، فإن حسناته التي نترنم بها الآن بشوق وإعجاب، إن هي إلا بنات الألم والجزع والحزن العميق.
تسألني عن شعر الغناء، ولن أجيبك جوابا فلسفيا طويلا، أو فنيا متعبا ، وإنما أكتفي بتعريف شعر الغناء بشعر السلاسة المتدفقة، والمعنى الجذاب، والعاطفة الرنانة، والذوق الموسيقي، والغالب أن مثل هذا الشعر لا يقوله ناظمه نفسه إلا متغنيا، فهو في أصله وليد الموسيقى، ولقد تدلى شعر الغناء في مصر لعوامل كثيرة، فمما يغتبط له رجال الفن أسوة برجال الأدب أن تظهر روح التجديد والعبقرية في سمائه، فالفن مظهر من مظاهر الثقافة في الأمة، ونهضتنا القومية الاستقلالية جديرة بأن تتسرب لجميع ظواهر حياتنا.
تلوت ثم تلوت وغنيت الكثير من الأشعار الحية التي تضمنتها هذه النفحات، فلم تفتني ملاحظة تهذيبها وأدبها العالي الذي لن تخجل منه الفتاة العذراء في خدرها، ولم تفتني دقة التصور التي تغار منها ريشة الرسام الماهر، ولا المعاني الوثابة، ولا الحنين الذي يرف له الجماد، ولا كياسة التعبير وشرف المرمى، ولا سلامة الذوق في اختيار الألفاظ بحيث لا تستطيع أن تجد لفظا أو حرفا في غير محله، سواء بالنسبة للجمال الشعري أو للقابلية الفنية، فلم أتردد في اعترافي قريرا: هكذا يكون شعر الغناء!
إلى المغني
شنفت أرواحا لصوتك آمنت
بالوحي والإيقاع والإبداع
وحكمت بالعود المرنح مثلنا
في دولة الألباب والأسماع
فلك الثناء من العواطف والنهى
في الأسر بين تعانق ونزاع
Página desconocida