من سنتين مضتا أحسست كأن صوتا دائبا في قلبي يحدثني عن الحب ولذته، ويصور لي جنته اليانعة وطيورها المغردة، ولا يكاد يجد فرصة يبين لي عن جمال المرأة والسعادة التي تمسك بيدها إلا خاطبني بلسان عذب فصيح يملك علي قواي، وأظهر لي أن حياة لا حب فيها حياة باهتة لا قيمة لها. فشرد لبي يبحث عن الملاك الذي عنده سعادتي؛ وحلقت آمالي في الجو علها تجد المحبوب الذي يكن بين جوانحه سر الهناء ومعنى الوجود، ولكن ما كانت عيني تقع إلا على بلقع خربة متنائية الأطراف أحار فيها، ثم أرجع بخفي حنين. وأخيرا في ركن منها هناك لا تصل إليه الشمس ولا الهواء رأيت كأن فتاة واقفة حيرى هي الأخرى لا تدري لنفسها سبيلا في الصحراء الهائلة أمامها، فترفع طرفها نحوي أحيانا وكلها الحياء والخجل. ثم حدقت إليها أتثبتها فإذا هي ابنة عم لي قذف بها القضاء الذي قذف بي في بيداء الحياة، وتبحث من ركنها عمن تهبه روحها وقلبها. فلما عرفتها قلت: وحيدان يؤنس كل منهما صاحبه. لكن هيهات! وأنا محلق في الجو وهي مختبئة في كنها. غير أني قنعت من بحثي بما وصلت إليه، وكنت كلما رحت إلى عالم الخيال نضدت لها معي فيه آمال الهناء ومددت لها بسط السعادة.
وبينما أنا في بلدنا الصغير بين العمال والعاملات قابلتني ريفية منهن كأنما أرسلت بها السماء في وقت صفوها إلى الأرض رسول الحب. وهل رأيت في حياتي كعينيها تقوس فوقهما حاجبان أشد نفاذا من السهم. وعلى صدرها ثديان يوحيان رغما عن الثوب الذي يسترهما بكل ما تكنه فتاة في ثدييها من الشباب والرغبة، وخصر رقيق فوق أرداف تزين عبل ساقيها، ومع ذلك نظرات تشف عن قلب طاهر مليء حبا. فأخذ بعينى جمالها، وودت أن أجدها لجانبي كل ساعة. بل وددت أن آخذها لنفسي، وأن أجعلها موضع سرورى. وبقي إعجابي بها يزداد يوما عن يوم، فبدل أن كنت أذهب للمزارع بطريق المصادفة أحسست بعدها كأن شيئا يدفعني نحوها وإلى حيث توجد تلك الفتاة.
كنت أجدها في عملها ساعة أصل، فأذهب فأقف إلى جانبها بعد أن أهدي الآخرين تحيتي. وكانوا في هذه الأيام ينقلون طوبا أخضر من مفارشه فيضعونه فوق بعضه. واتخذوا لذلك وسيلة سهلة أن يقف شخصان أو ثلاثة مابين المفرش والطوب المكوم ويقذف جار المفرش القالب ليلقفه من بعده ومن بعده حتى يصل إلى مكانه سالما، فكان من أكبر سروري أن أقف بعدها لألقف القالب الذي تقذف، وأن أبقى كذلك حتى ينتهي النهار أو حتى يكدني التعب. ولم أدر السبب الذي كنت أحب من أجله هذا العمل: ألأن يدها لامست هذا القالب يصبح عزيزا إلى ومحببا عندي؟ أم لأنها أخذته إلى صدرها ساعة رفعته فأودعت فيه من حرارة جسمها ما يصل إلي، وأجد من اللذة أن أضمه أنا الآخر إلى صدري؟ أم لسبب غير هذين؟ لا أعلم. إلا أن هذا الإحساس الذي أحسست به لابنة عمي، وكنت أسميه الحب، لم يكن يجول في صدري لهذه الفتاة، وكان منتهى ما أريد منها إلى جانبي فأمسك بيدها أو أقبلها أو أضمها لصدري. وإذا ما رجعت إلى البلد واختلطت بإخوتي وأهلي نسيت ذلك ونسيت كل شيء من مثله.
ثم جاءت الأيام بابنة عمي، فأنساني مجيئها المزارع والعاملات، وبقيت أحتال لأجد ساعة أكون أنا وإياها وحيدين، فلم تسمح لي بذلك فرصة، وبقيت أقضي وقتي بين جنات الأمل ونيران اليأس منتظرا من غير جدوى.
كان أكبر أماني من يوم فكرت في الحب ومن ساعة عثرت على ابنة عمي أن أتزوج بها. فجعلت في أوقات فراغي أنضد الآمال لحياتنا المقبلة، وأخلق من أحلامي عالما أرتب فيه سعادتنا. وكنت أحسب هذا الزواج أمرا مقضيا، لأني وعدت أن أزوج هاته البنية وأنا لا أزال صغيرا.
وكان لذلك من الأثر علي أن كنت أعاملها وهي طفلة بحنان وعطف زائدين.. فلما رأيتها ورأيت إخفاقي في أن أجد الفرصة لأحادثها منفردين أتى لنفسي ضيق شديد، وصرت أشد حنقا على الجمعية وعاداتها ممن ذاقوا ألم عقوباتها. فرفضت كل ما وضعت، ونفيت كل ما أثبتت، وجعلت فكرة الزواج التي يتباهى بها الخلف عن سلفهم ويدعونها أحسن ما أظهرت على الأرض عقول بني آدم موضع النقد المر. (ولا أنكر إلى اليوم أني أعدها نقصا، خصوصا على ما هي عليه، وأعد الزواج الذي لم يبن على الحب ويستمر مع الحب زواجا خسيسا).
مرت الأيام وأنا أتقلب على مهاد أليم من أفكار سوداء وأحلام فظيعة. ثم جاء النسيان على كل شيء، وهل في الوجود شيء لا يجيء عليه النسيان؟!
أقبل الربيع يحيي القلوب ويبعث الشباب إلى كل موجود، فنبه قلبي من غفلته. وذكرت ريفيتي التي تزوجت أيام الشتاء فتمنيت لها الهناء. ثم راجعني ذكر ابنة عمي واستولى على نفسي وكل حواسي، وصرت لا أعرف غيرها ولا أحب إلا هي ولا مطمع لي إلا أن تكون معي، ففكرت بعد عام مضى على آمالي الأولى أن أقابلها. وتبادلنا كلمات جاءت بعدها الساعة التي نرجو، ولكنها كانت أشد الساعات صمتا في جوف الليل الأخرس.
وتزوجت ابنة عمي هي الأخرى، وأرسلت لي ورقة تودعني بها، فعراني حزن كبير، ثم ما أسرع أن استولت صاحبتي الفلاحة على فؤادي، وأخذت بمجامع قلبي، ومازجت كل نفسي، وكادت تخرجني عن صوابي، وصممت أن أراها وآخذها لصدري وأعانقها وأقبلها، وأفعل كل الجنات التي يفعلها محب واله.
ولكن شيئا من ذلك لم يكن. قابلتها وذكرتها القديم. فكفى ليبعدني عنها أن ذكرتني هي أنها متزوجة.
Página desconocida