ما أحلى ليالي الصيف! وما أسرعها مرا! تسري بنا فتنسينا الحياة والوجود، وتبعث لنفوسنا بطيبها أكبر الهناء. ولو أن الأماني تجاب لكانت كبراها استدامة هاته الليالي الزاهرة حيث كل شيء جميل ذاهب في أحلامه، وحيث البدر يحبو في السماء تائها هو الآخر في خيالات حبه، والطبيعة الصامتة توحي بأصواتها نجوى الغرام إلى القلب، والفلاح الساهر يرسل في سلاميته في جوف الكون نغمة رقيقة كلها الوجد والجوى.
ولكن الأيام لا تقف عند أمنية، ولا يستحثها قلق الساهر الشيق يشكو آلامه، بل هي هي الدائمة السير المتشابهة الخالدة تجري بنا على غير ما نريد، فتطوي وقت السعيد حتى لا يحس به، وتتمطى أمام البائس فتزيد بؤسه مضاضة وإيلاما.
سافر إبراهيم لمنفاه، وكل ذنبه أنه فقير. وجاء الخريف لزينب بالهموم، وودت بعد ذلك الفراق لو أنها أعطت إبراهيم نفسها حتى يكون لها من ذكرى ذلك عزاء عن لوعتها، ولكنها اليوم تعاني الحسرات من غير عزاء.
أما حامد فقد انتهى بدفن كتاب عزيزة الذي شغله أياما، وابتدأ النسيان يجيء على كل أثر لها في نفسه، ولكنه بمقدار ذلك النسيان كان يحس بفراغ في قلبه يزداد كل يوم، ويشعره بالحاجة المطلقة إلى سد هذا الفراغ.. فإذا ما رأى فتاة عليها مسحة من الجمال اجتهد ليتقرب منها، وعد فيها محبوبا جديدا، وإذا جاء الغد بأخرى نسي تلك وتعلق بهذه. ويتنقل قلبه من واحدة لأخرى كما تتنقل النحلة من زهرة لزهرة، ولا يدري أيا يحب وأيا يترك، حتى تقلب على أكثر من عشر. أخيرا رأى فتاة أخذ بلبه حسنها، فعاهد نفسه ألا ما ثبت على الولاء لها، وكل يوم يمر يزيده تعلقا بها، وثقة من قلبه وتقربا منها. ثم انقلب عنده الظن يقينا أن أكبر السعادات هو الاجتماع بها، وأن تكون له شريكة الحياة.
ثم غابت عنه أياما كان في خلالها الوامق الكثير الذكر القائم الليل يناجي الكواكب، ويسائل البدر عنها، ويرجو السماء ألا ما جمعته بها. فلما تلاقيا شعر ببرد يسري في جسمه ويصيبه من أوله إلى آخره، ورأى كأن قد كان من قبل في حلم كاذب. هنالك شعر بأكبر الألم.
أليست هي هاته التي أحبها وهام بها؟ فأي شيء غيره عليها وقد كانت إلى آخر يوم من فراقهما أحب الناس إليه؟ ولكن القلوب قلب، والشباب أيام حب من أوله إلى آخره. فإذا ما هامت الروح ورجعت فلم تجد حبيبها إلى جنبها فكثيرا ما تلجئها الحاجة إلى أن تستبدل به غيره.
ثم جاء على حامد بعد ذلك جمود على كل شيء، وأمام كل شيء، وأصبح الكون أمامه باهتا، وصار كأن لا قلب له. تمر الحوادث والناس والأشياء فلا يعبأ بها، ولا يهتم بما تكنه. كل همه أن يبقى مستريحا ساكنا، ينام ملء جفنه، ويعمل ما يريد. ويترك ما يريده، ولا يسأله إنسان حسابا. تطلع الشمس وتغيب وهو قد قضى نهاره متنقلا من بيته إلى بيت بعض أصحابه أو سارحا فيما لا حدود له من تيهاء الخيال. ويجيء الليل معه بأخبار المساء وجرائده، فلا يكاد ينتهي الناس من قصص أمور الزرع والماء وأسعار القطن ومن باع ومن لم يبع حتى تنقلهم الجرائد إلى الأخبار العامة. فبعد أن يقرأ قارئ أسعار الكنتراتات الأخيرة يجيء إلى الحوادث المحلية وأخبار اليوم، ثم تتلى أمامهم مقالات من أقلام كتاب يمجدون، ثم يذهب هو إلى نومه ليقضي الغد كما قضى الأمس. وهكذا جعلت الأيام تمر ولا يزيده مرورها إلا همودا.
يقلب في ضميره عله يجد ما يؤاخذ نفسه به، فلا يجد شيئا، ويعمل ما كان يأنف منه من قبل فلا يجد الأسف إلى نفسه سبيلا، ولو أن الكون دكت قوائمه، والقيامة قامت، وجاء النشور، وتجلى الخالق وعلا حتى بلغ الصراط لهب النار، وأسمعت من قصور الجنة مسمعات الغواني لما كان أمام ذلك كله إلا هازا رأسه مستغربا ما يأخذ الناس من الوجل.
ولقد علاه الدهش لتلك الحال التي هو فيها، دهش ممزوج بشيء من الأسى العذب والحزن الهادئ الذي يصيبنا ساعة لا نفهم أنفسنا أو ما يحيط بنا. فإذا جلس وحده وحدق بعينه إلى الفضاء الهائل أمامه غاب فيه، وعلى ثغره الذاهل معنى الاستسلام المطلق، وكأنه يرى غريبا وجوده على الأرض؛ وإن هو سار ذاهبا إلى المزارع صاحبه ذلك الذهول عينه، فمشى بخطوة بطيئة رتيبة متخذا أكثر الطرق انفرادا ووحدة، وإن صادف وجوده على طريق عامرة راح منها إلى الناحية التي لا يسلكها إنسان. وإذا كلم أحدا كلمة وكله السكينة والهدوء.
ها هو ذا عيشي طيب راض، والحياة أمامي سهلة هينة، ولا أسف عندي على ماض ولا حاضر. ها هي ذي الأيام تنساب أمامي هادئة ساكنة متشابهة، وها هو ذا الوجود من أوله إلى آخره لا يثير مني ذكرا ولا يحي عندي شجنا. اللهم لا أمنية أطلب، ولا ذنب أستغفر عنه، ولا حاجة لي إلا أن تبقى الحال كما هي حتى تجيء الساعة التي أترك فيها الأرض وإني لا أستعجلها ولا أراها تسرع نحوي. هي ككل الساعات التي تمر والتي يموت فيها أناس ويولد آخرون وتملؤها الضجة الدائمة التي تحيط بي.
Página desconocida