يا بدر.. يا بدر.. ما أحلى طلعتك! ما أحبك لنفسي! يا معشوقي العظيم!.. كم رنوت بعينك إلى عشاق عبدوك في وحدتك، وبعثت لهم من خدرك الرفيع قبلات وصلك فباتوا بلذتها سكارى! كم من زروع باتت في لجتك بليل هنيء هادئ، تميل أحيانا مع النسيم فتتضام وتتعانق وأنت عليها رقيب، والماء في الغدير ينساب إلى جانبها ساه عنها بنعمتك التي أسديتها إياه، واللجين مددته على بساطه.
يا بدر..
ها هم أولاء الأغنياء في نومهم، والفقراء في عملهم، وأنا وأنت وحدنا نتناجى وأستمع وحيك. وها أنت ذا مطلع على قلب يحيط به اليأس من كل جانب، ولم يبق في الوجود من يملؤه ويسعده. يا شفيع المحبين، هل لك في الشفاعة لبائس شقي؟!
وأنت يا ليل، بستارك أستتر. في صمتك أعلن وجدي وشكواي فلا يسمعني سميع. هجرني الناس فهل لي في الأشياء من صديق؟!
خفف عنك يا حامد، فالخطب أهون من أن يبلغ بك اليأس.. إن فيما حولك من الجماد ما يعزي عن بني آدم، وهاته الصوامت أحنى من قلوب الناس القاسية.
بقي حامد بعد ذلك محدقا إلى السماء، ثم أمسك بيده قيثارته، وفي نغمة محزونة - انصبت في جوف الليل المهول - قلب عليها أصابعه، ونفسه وكل وجوده يسيل مع الصوت ويهتز بطيئا بطيئا. وعلى هذا النحو قضى ساعة، كل انتباهه تائه هناك في غيابات الوجود المختفي تحت القمر حيث ترن أصداء نغمته أو هو يستعيد في صفيره بعض الأغاني والمواويل يوقعها وهو رائح بكله في تلك الساعة ناسيا كل ما سواها..وأخيرا وضع قيثارته إلى جانبه وحول نظره إلى الماء جنبه يقدر في ما تحت طيات موجاته، أو هو يفكر في تلك القطيعة بينه وبين عزيزة وزينب معا، وما أرادها منهم أحد.
كان هناك في الجهة الثانية، مستندا إلى جذع شجرة، العامل الذي مع حامد، وقد بقي نائما من ساعة ابتدأ حامد تسليمه. فلما انتهى منه وسكت كل شيء، صادف ذلك وقوف الثور في التابوت، فانتبه الولد شأن أكثر الناس يبقون في طمأنينتهم وهدوئهم ما دامت المحيطات بهم على ما هي عليه، فإذا ما تغير شيء من شأنها انزعجوا مبهوتين، ولو كان ذلك التغير في صالحهم. انتبه فقام فذهب إلى جهة الطنبور فوجده دائرا، ووجد حامدا على مقربة منه جالسا، فرجع أدراجه من غير أن يزعج السارح في غيابات أحلامه.
والقمر قد ابتدأ ينحدر نحو مغيبه بمقترب الفجر.
لما طال بحامد الجلوس قام فجلس فوق الطنبور، ومن جديد جعل يقلب على قيثارته أصابعه. ومن جديد رجع إلى سكوته، ثم أسند رأسه إلى عمود الطنبور بجانبه، وفي سويعة مملوءة بالأحلام ذهب إلى سكون النوم.
تقضت بعد ذلك أيام. ففي مثل هذا اليوم من الأسبوع الذي بعده بينا حامد داخل في المضيفة إلى غرفة الكتابة إذا الكاتب مهتم يكتب وواحد يملي عليه، ولما سأله عن ذلك، عرف أنه كشف أنفار القرعة. فأخذه في يده وتصفحه. فوجد عليه اسم إبراهيم، ولكنه منفصل بعض الشيء عن أسماء الآخرين، فاستفهم عن سبب ذلك، فعلم أن إبراهيم ذاهب للقبول واللبس.
Página desconocida