آه يا حامد! لو تعرف الوحدة التي نشعر بها ونحن بين أهلنا وحيطان دارنا وقلوبنا تتأجج بالنار في صدورنا ونضطر لكتمها وإخمادها حتى تموت، وقد تأكل من وجودنا أعزه وأحلاه!
تعال سريعا، أو فاكتب لي، فكلماتك الدواء لابنة عم إن أنت تركتها تولاها اليأس.
عزيزة
عزيزتي
بالله لا يدخلن لنفسك شيء من الحزن فذلك يحزنني. كوني سعيدة مقدار ما تشائين. وإني لك الدائم العهد ومن أجلك أعمل المحال لتنفيذ ما تريدين. وأجرؤ هاته المرة فأضع قبلة على ثغرك الجميل.
حامد
أحست عزيزة بتلك القبلة اللذيذة وعراها الذهول، وخيل إليها أن حامدا أمامها ممسك بيديه يديها ويقبلها. ما أحلى ذلك الحلم الذي حلمته من قبل مرات لأشخاص محبين لا تعرف لهم أسماء ولا أين هم! ذلك الحلم الذي يشغل كل فتاة في وحدتها حين ترى أنها منفردة مهمومة وتريد أن تضم إلى قلبها ولو من الخيال قلبا يسليه ويعزيه.
ولما فاتت ساعة الظهيرة ذهب حامد إلى حيث صاحبته وسلم. وجلس فأخبره بعض السيدات بفسحتهم التي يريدونها ودعونه أن يكون معهم، فقبل الدعوة متهللا.
خرجوا جميعا بعد الغد، حامد وعمه والسيدات، وسار هو إلى جانب جماعة منهن، وعمه إلى جانب، والكل سكوت أو يهمسون بين شفاههم ببعض الكلمات، ويخبرون عزيزة ببعض مساكن البلد وأصحابها. فلما صاروا بعيدا عن جدران القرية ابتدأوا يتكلمون بحرية! وصغيرة من بينهم تسير مع كل من الجماعتين قليلا. والقمر يخطر في السماء كأنه عروس تجلى، ويرسل وسط هواء الليل الساكن الحلو بلجة النور العظيمة يغرق فيها كل موجود. وعلى مقربة تبين الأشجار تحت ضوئه مخوفة قد مدت ظلها الهائل على الأرض فغطت به قطعة ليست قليلة من شجر القطن تحسبه سكران بلذة هاته الساعة البديعة خائرا تحت سلطان جمالها. والسكة عن جانبيها المصرفان تذهب ممتدة مع البصر حتى يقصر دونها.
ثم افترقوا جماعات فسار عمه مع سيدتين من أخواته، وسيدتان أخريان سارتا وحدهما، وحامد وعزيزة وخالته والبنت الصغيرة معا. أما عمه فجعل يرى من معه حدود الغيطان وأسماء الملاك والمستأجرين منه. وهما فرحتان جدا كلما رأت عيناهما زروع أخيهما وإيجاراته. أما السيدتان الأخريان فكانتا تتحدثان في حديث طويل: - قال وأم السعد جايه النهاردة تقول إن جوزها كان بيقاتل حسنين أبو مخيمر، قام حسنين ضربه لما طفحه الدم، وعايز حبة مورد علشان يطيب. ياخويه الناس دول حايفضله عبط لإمته! وهو المورد بيطيب الجروح؟ - والنبي يا زمزم يا أختي الناس دول مساكين. ربنا ما يفرجش عليهم بحاجة يكلوها وإلا يشربوها إلا لما يطفحوها دم صبيب لقدام. بالك يا أم أحمد اللي زي ده لو ما كنش ينضرب عمره ما يعرف المورد ده يتاكل والا ينشرب!
Página desconocida