فلما كان في بعض تلك الليالى، والقمر قد صار في ربعه الأخير وهو يحدق إليه، ويرى ذلك النير البديع ذاهبا إلى فنائه، ثم ينتظر من بعده هلالا جديدا، إذا نغمة عذبة تشق الهواء لتطرب أذنه، رنة محزونة تسري على موجات النسيم إلى مسمعه، صوت رخيم يمتد فيملأ الخليقة النائمة أحلاما: إذا «سلامية»
2
يقلب عليها إبراهيم أصابعه هناك عند التابوت البعيد، وكأنه يشكو للقمر وجده.
كم في تلك النغمة المحزونة من المعنى! وكم تكن من الجوى والشكوى!.. إن في رأس صاحبها تلك اللحظة لعالما كبيرا أجمل كثيرا من عالمنا ينادي إليه صاحبته، عالما طاهرا تطير فيه الأرواح أزواجا يتضام كل اثنين منها بعضهما إلى بعض ويتعانقان؛ عالما فيه تلك اللذة الملائكية السامية نصل إليها حين نرقى إلى علو، كما نجيء بها إلى جانب اللذائذ الأرضية الأخرى حين نريد أن نستكمل كل الشهوات.. لذة القبلات.
نعم هي القبلة، علم الإخلاص ودليل الود.. معها تسيل الروح تنضم للروح ، هي صوت القلب والنغمة الثائرة من بين أوتاره؛ هي تلك اللحظة التي ننسى فيها أنفسنا من أجل محبوب جميل. بالله أي شيء ذلك الإحساس الذي يعرونا حين يصعد الدم إلى خدود الحسناء التي نحب ساعة نقبلها، وكأنها تقول في استسلامها بين أيدينا: أنا لك.. ألا أكون أنا الآخر لها؟ ألا أسجد أمامها؟ ألا أموت من أجلها؟.. قبلة الحب هي اللذة.. هي السعادة.. هي الحياة!..
لما سمع حامد هاته النغمة أنصت طويلا، وقد تاه عن وجوده، وغابت عنه أحلامه، وراح يهتز تحت أثرها، وتلعب نفسه فتنقلها من الأسى إلى الاستسلام إلى اليأس، ثم إلى الأمل الطويل العريض.. وبقي هكذا حتى بدت تباشير النهار.
وبعد أيام أصبح الماء بالراحة، وامتلأ به الرز وترعرع واخضر وتكاثر وصار من اللازم خفه.
جاءت البنات والأولاد للخف، جاءوا جميعا مع وابور الصبح ومع كل شرشرته، فكشفوا عن سوقهم، ونزلوا هم الآخرون بين البنات، وابتدأوا عملهم سكوتا، وحامد يتبعهم بعينه أو يذهب سائرا وراءهم فرحا بتلك الخضرة الجميلة العزيزة عنده وقد سهر عليها ليالي تباعا، ثم تقدم الوقت قليلا، وقد ابتدأوا يتكلمون، واستحث العامل المكلف بهم إحدى البنات فنظرت إليه متعجبة منكرة قوله وأجابت: «هو أنا ساكتة».
ومرة أخرى استحث غيرها، وابتدأ بعد ذلك يضحك منهم ومعهم، وهكذا جاءهم السرور الذي يلازم هاته الجماعات دائما عند العمل. وحامد - وإن لم يوغل معهم فيه - لم يكن على الحياد تماما، بل كان يجيء مع أحد الطرفين فيعينه على صاحبه. وكم كان يحس ذلك المنصور في نفسه من الفرح لا لأنه انتصر على صاحبه - وذلك في الواقع لا قيمة له عنده - ولكن لأن «سي حامد» جاء في جانبه! وتقضى أول يوم على هذا، ولم يكن فيه ما يستحق الذكر، إلا أنهم ساعة المقيل جعلوا إحدى البنات ترقص أمامهم.
وفي اليوم الثاني كانوا أصرح في حديثهم وأقرب لما تمليه عليهم إحساساتهم، يضحكون عن قلب طيب ونفس خالصة. بل لم تكن إحدى البنات - وقد أحست في نفسها أنها أجملهن لتدع حامدا يضحك منها من غير أن تجيبه بشيء أو ببعض شيء. فلما كانوا في ظهر اليوم الثالث وقد جلسوا بعد طعامهم وجلس حامد مرتكنا في الطوالة يحدثهم، قام بعض الفتيات وجلسن في الجانب الآخر من ذلك المكان الظليل. وقامت تلك الفتاة فجلست إلى جانب حامد كتفا لكتف، وجعلت تكلمه وتضاحكه والبنات يرمقنها شزرا ويتهامسن. فلاحظهن حامد في همسهن، وقدر ما دار في نفوسهن، فمال إلى جارته وقبلها، فنظرت إليه مختلطة كأنما تسأله ما هذا؟.. والبنات كلهن حدقن إلى الاثنين وقد علاهن الاستغراب.. فلم يمهلها هو في تلفتها حتى قبلها في خدها الثاني.. فدفعت به بعيدا منكرة عليه عمله، وضحك كل من حولهما. فلما رجع إلى مكانه وعاوده سكونه ارتمت هي عليه مدعية أنها تجازيه فضمها إليه وقبلها ثالثة.. وكلما تركها جاءت نحوه تجره بيديها وتميل عليه تريد أن تناله بجزائها، وقد علا الدم إلى خدودها فأعطى سمرتها القمحية ذلك اللون الوردي العاشق المعشوق.. وحامد مثلها قد تغير لونه لا يني حين ميلها عليه عن تقبيلها أو ضمها لصدره.. ثم البنت يكاد يضيع رشدها في يده قد استسلمت له وإن ادعت أنها تدفعه.
Página desconocida