فهاجت هذه الكلمة الشيخ الذي أخذ يدافع عن النشوق بكل قواه، وأطلق لبلاغته العنان، فلم يترك تشبيها يصح أن يشبه به هذا المسحوق الأسود حتى جاء به، ولا مجازا ولا استعارة ولا كناية حتى استعملها.. وليبرهن لهم بعمله على صدق قوله ضرب بيده في جيبه وأخرج علبة صغيرة سوداء دق على غطائها بسبابته ثلاثا، ثم فتحها بتؤدة وسكينة، وأخذ قليلا بين أصبعيه، ثم أمال رأسه قليلا، وبوسطى أصابعه أقفل إحدى طاقتي أنفه واستنشق بالأخرى، فشد النشوق إلى خياشيمه. وبعد أن أعطى الطاقة الثانية حظها رد العلبة إلى مكمنها، ثم استخرج منديلا أزرق أمسكه بين يديه وأعده ليستعمله عند الحاجة إليه.
ولقد كان حامد ساكتا تلك المدة ملقيا ببصره للأرض، فلما أحس بالسكينة ترجع إلى القوم، لم يستطع إلا تكرار تلك الفكرة التي ملأت رأسه: إذن سيتزوج صديقنا أسعد غدا.. مسكين..
فقاطعه علي أفندي قائلا: وأي سبب يجعلك تعده مسكينا؟
وتنحنح الشيخ خليل ثم قال: قال عليه الصلاة والسلام: «تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة»..
هنالك كأنما أطلق حامد من عقال. قال: لماذا يتزوج الناس؟ لأنهم يبتغون السعادة في الزواج.. يجدون حياة الوحدة ثقيلة على نفوسهم، فيريدون أن يستبدلوا بها حياة أخرى، ويظنون أن حياتهم الجديدة ستكون خيرا لهم . فإذا مضت الأيام الأولى حين يكونون تحت تأثير الوهم، وتجلت حقيقة ما صنعوا ندموا ولات ساعة مندم.
لقد فتشت فلم أجد فيمن أعرف من نال من الزواج ما كان يحلم به من سعادة. وكل ما يعمل الشريكان إهباط السعداء من ملكوت سعادتهم إلى شقاء لا محيص منه.. لو رأيت الأبناء وهم يعانون أنواع الآلام من يوم يولدون أفلا ترحمهم وتنعي مولدهم؟! ثم هم ليسوا بعد ذلك أقل شقاء.. يخبرنا آباؤنا والمسنون أن أيامنا خير الأيام، وأن الشباب ربيع الحياة. فإذا كنت أنا في ربيع الحياة، وفي عيشي من المرارة ما أقاسي، فبالله كم أكون تعسا في أيامي المقبلة؟ وإذا كان يأتي على الشباب ساعات يتمنى فيها الفناء أفلا تكون أيام الكبير ولياليه مملوءة كلها بهاته الأمنية؟ أم هم يقولون لنا هذا لنعترف لهم بالشجاعة ونحمدهم عليها؟
قال حامد ذلك بنغمة محزونة تفيض أسى وألما. فكان أسرع الحاضرين إجابة حسنين. قال: يظهر لي يا صديقي أننا نحن الذين أفسدنا على أنفسنا طعم العيش، وقلبنا كل السعادات التي على الأرض شقاء وبؤسا، بل إني لأحسب أنك تستطيع أن تكون سعيدا من أول أيامك إلى آخرها إذا كنت في قوم لهم من الإحساس ويدينون بعادات غير ما يدين به قومنا من التخلي عن الوجود وإهمال كل شيء والنظر إلى ما حولنا بعين جامدة لا تتأثر، وبقلب بارد لا يأخذه الجمال أيا كان إلى الهيام به. نعيش بعيدين عن كل شيء ونخشى كل شيء فننكمش عن اجتلاء ما يحيط بنا وتبقى نفوسنا تتآكل أجزاؤها ويرسم ذلك على وجوهنا البائسة علامات الحزن والشقاء. ثم نحن مع ذلك نرى فيما سوى هذا خروجا إلى دائرة الغي والضلال.
قد أكون معك في أن الزواج عندنا غير منتج سعادة نحلم بها. ولكن لكل على ما أعتقد أن ينزع إلى غير ما يراه قومه متى ثبت عنده أنه على الحق. ولو كان الناس يبقون على سنة من قبلهم، فهل ترى العالم يتقدم خطوة إلى الأمام؟
على أن ذلك لا يمنعني أن أقول لك إني على غير رأيك، وأحسب صحيحا ما يعتقده الناس في الزواج من أنه عماد السعادة، وأحسن ما أنتجت عقولنا لحفظ النوع في أضمن ما نرجو له من الهناءة.
تصور تلك الحال التي تريد أن ترى الناس فيها! تصور أبناء ضعافا لا يعرفون آباءهم، ونساء لا يجدن من يعولهن أيام ضعفهن المطلق وسط مدنيتنا الحاضرة الكثيرة الحاجات والمطالب! تصور كذلك الرجل اللاهث راجعا من عمله يريد عزاء في كلمة صديق أو محب فلا يجد إلا أمثاله المكدودين اللاغبين والنسوة في الجانب الآخر من الجمعية مشغولات بالعمل لعيشهن ولعيش أبنائهن! وإني لأحسبك بعد ذلك قائلا معي أن لا سعادة للرجل من غير امرأة تحبه وتكون إلى جانبه، ولا سعادة لها هي الأخرى إلا في جوار رجل يحبها ويصطفيها.
Página desconocida