وبقيا بعد ذلك يسترقان الساعات فيتحدثان ويتعانقان، وقد أحست أنها ستفارقه عاجلا وإلى الأبد تريد أن تفنى في شخصه قبل أن يغتصبها منه مغتصب. •••
وأسرعت الأيام، وانتهى موسم جمع القطن، وارتفعت الأسعار، فباع خليل من عنده ما حصل به المال. ثم أخذ أصحابه وانحدروا جميعا يريد أن يخطب زينب إلى أبيها زوجا لحسن. انحدروا ثمانية والشمس قد تقلص ظلها، والسماء تلتحف رداء الليل، والنور يهجر الوجود إلى وجود آخر بعيد، والأصوات تخرس ليحل محلها السكوت والصمت، وبلغوا الدار الحقيرة، والرجل كأنه على موعد منهم، أو كأنه جاءه الوحي بخبرهم، فلم يكادوا يطرقون بابه حتى فرشت لهم امرأته الحصير، وأعدت لهم القهوة، أو هي تلك العادة قد خالطت نفس هؤلاء الريفيين من إكرام كل وافد والترحيب بكل من يحل ناديهم وإحسان لقياه يجعلهم دون تكلف ولا عناء يبالغون ما استطاعوا في تحية من ينزل بهم.
وجلس الرجل من بينهم محتفيا بهم مظهرا مقدار سروره بتشريفهم ومؤانستهم وأنهم نوروا داره، وظلوا يتهادون التحيات حتى دارت عليهم القهوة، وصاروا جميعاوكأن بينهم رابطة ود وإخلاص. هنالك قال خليل: والله طالبين القرب منك يا بو محمد. - يا تلتميت مرحبة يا بو حسن.. واحنا قد المقام. - الله يحفظك. - ويعني إحنا حدانا حد يستحق الجواز؟ - والله بدنا زينب لحسن. - إحنا والله ما نعز عليك حاجة يا خليل ... لكن انت عارف البنت صغيرة من ناحية، وهي اللي بتقضيلنا الحاجة من ناحية ... كمان يا خويه سنتين والا ثلاثة لما تكبر هي وتكون أختها بقيت لايجة للشغل.
هنالك انبرى من بين القوم رجل ذو وجاهة، عريض الصدر، عظيم الهيئة، هو شيخ البلد وقال: حاكم انت يا بو محمد! ... صغيرة إيه يا خويه ... عمرنا بنجوز البنات وهم أصغر منها ... والله إني جوزت ديك السنة بنت أبو سميه ده. أبو عامر لعلي أبو إبراهيم وهي أصغر خالص من زينب.. يا راجل بلا كلام.
ثم تلاه آخر يظهر عليه أنه من الأعيان، وقال موجها الكلام لشيخ البلد: ومنتاش فاكر يا مصطفى بنت مسعودة لما جوزناها؟ حقه والله كانت يا عيني قد.. قد إيه.. مافيش خالص، شوية وكبرت وبقت عال.. لكن زينب باسم الله ما شاء الله كبيرة وحلوة ولوحدها تقوم بعيلة (ثم وجه الكلام لأبي الفتاة) صغيرة إيه يا راجل ماتقولش الكلام ده.
وأخذ المأذون الكلام من بعده فقال: المسائل دي بتعاديل الله.. ما دام القسمة تدل وربنا يريد العدل والله ما يبقى أحسن منها. حقه يا خوانا تفتكروش من خمستاشر سنة في عزبة سعد الدين لما جوزنا خضره أم إبراهيم لحسنين مقلد. قعدوا أهلها يقولوا معرف إيه ومدري إيه، وكانت يام رايحة تقوم ليلتها قتله، وكتبنا الكتاب والذي منه، وجابوا أولاد.. ربنا يكتر بسم الله ما شاء الله أحسن من كده مايبقاش.
وتكلم من بعده آخر وخامس وسادس وأبو محمد قد علته سحابة الهم، وعاودت نفسه الإحساسات المختلفة. لا يعرف ما هي ولا يقدر على فهمها، كلا، ولا يعلم سببا لذلك الذي داخله من الأسى ... وعلاه صمت عميق بين محادثات هؤلاء المترافعين أمامه، فهو يسمعهم ولا يقدر ما يقولون.. والليل جن أو كاد، والمصباح الذي يضيء لهم يلعب به الهواء الساكن الهادئ، وزينب تسمعهم من أعلى السطح ويكاد يتوه رشدها ويضيع صوابها، وأمها إلى جانبها قلقة تنتظر آخر هذا الحديث الذي طالما حادثت زوجها في أمره من قبل، وكانت قد عرفت أنه يود تحقيقه. لكن الساعة التي يجد الإنسان نفسه فيها مقدما على اقتحام خطوة يفتح بها السبيل لإتمام ما تمنى من زمان بعيد، لها من الرهبة والمهابة ما يبعث إلى النفس الهم والحيرة، فإذا هو اقتحمها وأصبح في طريقه لم يعد يبالي إلا بأن يصل إلى غايته.
هي تلك الساعة بعثت إلى العائلة السعيدة في فقرها ما أرسل إلى نفوسهم جميعا ذلك الصمت الذي علاهم، ولم يبق من متكلم من بينهم. وظلمة الليل تهبط فتزيد صمت الكون ويمسي الوجود كله تائها في آماله ومخاوفه.
وزينب كاد يتيه رشدها؛ تفكر في إبراهيم الذي كانت معه من ساعة من الزمان، وفي الأيام المقبلة ما عساه يكون أمرها فيها. هل في هاته الليلة يقضى على سعادتها، ويرجع إليها الشقاء الدائم الذي كانت تتوقع من قبل؟ وهل هؤلاء الذين حضروا يريدون جميعا - وليس منهم من يحس بجريمته - أن يقضوا على حظها في الوجود ويجعلوا بقية أيامها آلاما وأحزانا؟
وإبراهيم في بيته، عرف ما يدور الساعة في دار صاحبته، فأخذه الضيق، وركبه الهم، واستولى عليه اليأس، وتولاه الأسى، وبقي محزونا مكمودا ينعي في نفسه نفسه.
Página desconocida