وبعد طويل البحث والتفتيش فوضت سارة أمرها إلى الله، وأقامت في بيروت تخدم في أحد البيوت، ثم نقلت إلى الشام ثم إلى بلد في لبنان ولم تثبت طويلا في مكان، ظلت عشر سنوات في سوريا والشقاء ملازمها والبؤس حليفها، وقد جفت من تصاريف الدهر طباعها وخمدت نفسها وخشنت أخلاقها، فكانت تدخل البيت ضارعة وتخرج منه ناقمة، ولم تثبت إلا في بيت لبناني سنتين متواليتين؛ لأن الامرأة اللبنانية تتحمل من الخدم أكثر من سواها.
ولا شك أن سارة عربية في أنها تكمن العداء طويلا ولا تنفك أن تطالب بالثأر، فلما سمعت مرة وهي في لبنان أن الراهب الذي تبحث عنه هو في الناصرة، حملت رزمة ثيابها وسارعت إلى تلك المدينة، وكانت تعلل النفس أيضا بلقاء ابنتها واسترجاعها من الدير، ولكنها لم تفز بواحدة من رغبتيها؛ لأن الابنة التي جاءت بها طفلا رضيعا إلى الدير ضاعت بين المئات من مثلها في معاهد الأيتام المتعددة بالناصرة، وتوارى الأخ إيلياس البلان مصعدا في مدارج النسك والتقوى.
وبين هي واقفة ذات يوم في باب الدير الذي كانت تخدم فيه منذ عشر سنوات رآها القس جبرائيل مبارك، فاعترته رعشة مزعجة وعلا وجهه الاصفرار، عرفها ولم تعرفه، فسألها متلطفا حاجتها، فحاولت أن تكشف له سرها فاضطرب عليها، فقالت: أريد أن أخدم في الدير. فأحسن القس جبرائيل إليها وجعلها من أجراء الدير ترعى المواشي.
العشر سنوات التي ولت والثوب الأسود واللحية غيرت من ظاهر الراهب فلم تعرفه سارة، ولا أدركت اضطرابه عندما شاهدها ولا السبب في جميل إحسانه إليها، فالقس جبرائيل مبارك من أسرة كريمة في جنين أمرها في الناس مطاع وكلمتها في الحكومة نافذة، على أنه لم ينبغ فيها إلا من تولى الوظائف فكان ظالما، أو تولى أمر أرزاقهم الواسعة الأرجاء فكان مستأثرا أثيما يعامل الفلاحين كما تشاء أطماعه، ويتصرف بنسائهم وبناتهم كما تشاء شهواته، وكان والد سارة الجمال من عمال بيت مبارك، يجيئهم بأحمال القمح والحبوب والحطب وغيرها من حاجات العيش، وكانت سارة كما ذكر ترافق أبيها في سفراته وتساعده في أشغاله، فتقيم وأباها أياما في بيت أسيادهم في جنين.
وفي تلك الأيام كان جرجي مبارك (القس جبرائيل الآن) في العشرين من عمره، شابا غريبا في بيته لا يشابه خلقا وطبعا أحدا من أهله وطباعه، عصبي المزاج، شديد النزعة إلى الوحدة، غريب الأطوار، كثير الهواجس سريع الغضب سريع الرضى، في نفسه شعلة دخانها أكثر من لهيبها تزيد بكآبته واضطرابه، يظهر له الحق في كل الأشياء في شكل مشوش فلا يصبر عليه إلى أن ينجلي؛ يضرب الخادم مثلا لإهمال بدا منه، ويدخل غرفته فيؤنب نفسه على ما فعل، وقد رأته مرة أمه في ساعة ملكته نوبة عصبية شديدة يدق برأسه على الحائط كالمجنون، فراعها ذلك وأخذت تناعمه وتسكن من روعه، فسألها قائلا: متى يرجع أبو سارة من المرج؟ فقالت الأم: غدا، فسكنت إذ ذاك جوارحه وهدأ اضطرابه، ولما جاء الجمال تصحبه ابنته، وهم عند المساء بالرجوع سأله جرجي أن يظل عندهم إلى الغد، فامتثل الجمال أمره، فبعثه في اليوم الثاني بكتاب إلى أحد عمالهم في حيفا، وتخلفت سارة في بيت سيدها الشاب، وكانت قد شعرت بشيء وحشي في حركاته ونظراته، وأدركت اضطرابه حين شاهدها مع والدها، ولكنها لم تخشه ولم تنفر منه، بل استسلمت إليه راغبة تلك الليلة؛ ليلة كان والدها في حيفا وأحبته حبا شديدا، ولكن جرجي نفر مما اقترف ولام نفسه، ولم يكلم الفتاة بعدئذ وما نظر قط إليها، فشق ذلك على سارة وراحت تكظم غمها وتستر بليتها، ولما عاد أبوها من حيفا قال له جرجي: لتبق ابنتك في البيت ذلك خير لك ولها، فقبل الجمال نصيحة سيده دون أن يدرك السر فيها، وامتثلت الفتاة أمر أبيها إلى حين، ثم هجرت البيت تهرب من ظل خالتها إلى ظل أشد منه ظلمة وبلاء.
وبعد سنتين هجر جرجي مبارك بيته وآله أيضا، فبينا كان سائرا إلى الناصرة ليزور أخاه الأكبر يوسف أفندي مبارك هناك خطر له في الطريق أن يدخل الدير، وكذلك كان، دخل الدير في السنة التي سافرت سارة إلى سوريا لتبحث عن إيلياس البلان، وفطم جوارحه عن الشهوات، وتاب توبة دينية حقيقية.
ولم تمض عليه سنتان في ذلك الدير حتى أصبح من أسياده المقدمين يهابه إخوانه الرهبان ويكرهونه، كيف لا وهو لا يبالي عند الحقيقة بشعورهم ولا يراعي خواطرهم بشيء؟! نفر مما كان يشاهده في بيته فنفض عنه غباره ودخل الدير، دخل الدير فكشفت له أمور ثارت عليها نفسه وهاجت لها ضغائنه، والقس جبرائيل يأله من يحب ولا يرى فضيلة في من يكره، على أنه كان يبذل الجهد ليكون سيد نفسه قبل أن يصير سيد الناس، وطالما عذبه هذا النزاع بين الشعائر المتناقضة فيه، بل بين معقوله وهواجسه، فقد كان يحب سارة ويكرهها، نسيها بعد أن جنى عليها ولكن أثر الجناية ظل حيا يضرم فيه أحيانا تلك الشعلة الحمراء القديمة، وساعة شاهد الفتاة التي جنى عليها منذ عشر سنوات هم لأول وهلة أن يطردها، ثم حن إليها فؤاده وأدخلها تخدم الدير. وكان يناصرها ويدافع عنها في كل أمر يحدث بينها وبين العمال، وكثيرا ما كانوا ينمون عليها ويغتابونها لأخلاق فيها عالية سودتها عليهم، فنقم الرهبان على سارة وكان القس جبرائيل نصيرها الوحيد بينهم، ولقد حير أمرها كل من عرفها سواه، فمن كان يراها في الفلاة ترعى المواشي كان يشاهد في وجهها كآبة لا تظهر لمن عرفها في الدير وفي المدينة، امرأة منوعة صبورة قنوعة تهضم بؤسها وتكظم أشجانها، وتكلف نفسها البشاشة فتقص القصص العجيبة على رفاقها الفلاحين. هذه سارة بنت الدير، أخت الرهبان، امرأة كئيبة حزينة، في صدرها سر كاد يخنقها وحسرة كادت تودي بها، تجلس على صخرة في الفلاة أو في ظل صفصافة في المرج، فتلقي خدها على يمناها وتتغنى بأهازيج البدو المحزنة. هذه سارة الراعية بنت المروج والجبال.
شكت أمرها إلى الناس فوقعت شكواها على آذان صماء وصادفت قلوبا مستحجرة، فلبست لبؤسها درعا من الصبر براقة، وضحكت مع الضاحكين كي لا يشمتوا بها.
وظلت على هذه الحال سنين، لا يسمع غير الله شكوى قلبها ساعة تختلي بنفسها في الفلاة، قريبة من الدير الذي دفنت فيه سرها الحي، بل من البحر الهادئ - بحر الشفقة والإحسان - الذي غرقت فيه ابنتها. ولطالما وقفت عند شاطئ هذا البحر تسائل الأمواج عن لؤلؤة قلبها فتضحك الأمواج لسؤالها.
على أنها تعرفت يوما بفتاة تخدم في أحد أديرة الأيتام، اسمها مريم، فحن إليها فؤادها وأخذت تتردد إلى ذاك الدير، فتجتمع بها وتحدثها وتمازحها وتقص عليها بعض القصص المضحكة وفيها شيء من سيرة حياتها، ومرة سألتها اسم أبيها فهزت مريم كتفها، وقالت باسمة: تقول الرئيسة إن القديس يوسف أبي، ولي في الدير أخوات كثيرات، وكانت مريم تستأنس بسارة وتحن إليها وتود لو كانت مقيمة معها، وقد قالت لها مرة: «هنيئا لك! تروحين وتجيئين حرة كما تريدين، وأنا محبوسة في هذا الدير.» وسألتها باكية أن تخلصها منه، فاغرورقت عين سارة وراحت تفكر في رفع شكوى مريم إلى القس جبرائيل عله يستطيع أن ينقلها إلى ديره.
Página desconocida