وخرجت غصن البان من غرفتها الخصوصية بعد نصف ساعة وقد ارتدت ثوبا من الحرير الرمادي، أنيق الزي، بسيط التخريج، وقبعة مخمل من لونه صغيرة شبيهة بالعمامة في مقدمها ريشة بيضاء تبدو فوق جبينها البراق كطائر من الحمام أسف على الماء. - وما هذه الذخيرة يا غصن البان؟ - ألم ترها قبل اليوم؟ هي سلواي الوحيدة ألبسها في أيامي السوداء فتسليني، تشجعني، تعزيني، امش ولا تحفل بها. - بل شوقتني إلى الاطلاع على سرها. - سرها هنا - وأشارت إلى قلبها - امش يا سر همت ولا تكن ... - فضوليا، ممنون، ممنون، تفضلي.
وخرج وإياها من ذاك البيت الحقير، فوقف محمود عند الباب ويده على رأسه، واجتازا زقاقا لا نور فيه غير أنوار القناديل الضئيلة المعلقة فوق الأبواب، فتري المارين أشباحهم ولا تنير سبيلهم، والرواشن فوق رءوسهم إلى الجانبين تكاد تقع بعضها على بعض، ولما وصلا إلى الشارع العمومي ركبا عربة سارت بهما إلى الكنتينتال.
وبعد العشاء ونزهة في الجيزة شيعها سر همت إلى بيتها قرب نصف الليل وودعها عند الباب، وكان محمود لم يزل جالسا هناك ينتظر سيدته، فلما دخلت باب الرواق استفاقت مرجانة فجاءت تفرك عينيها وتقول: أتريدين حاجة مني؟ - لا يا مرجانة، روحي نامي.
وصعدت غصن البان إلى غرفتها منقبضة النفس مضطربة البال تفكر بسر همت ووعوده، وتقول: ومن يصدق منهم يا ترى؟ خدعوني كلهم خدعوني، ولم يزالوا يحاولون، ولكني لست اليوم تلك الساذجة، بيت على شاطئ النيل، شهرة في لندرا، وكيلي، صديقي، ما شاء الله! أوتلام الراقصة الخاملة المسكينة الضعيفة إذا خدعت وابتذلت وامتهنت؟! يتحجر قلبها وتفسد أخلاقها وتتجعد بشرتها، فتتاجر بجسدها كما يتاجر محيي الدين بمكارمه، وسر همت أيضا، سر همت مثله ولا شك، أتلام تلك المسكينة يا ترى إذا قبلت حب من يخطب ودها كما لو كان حقها دون أن تبادله حبها، يخدعها فتخدعه، يهينها فتهينه، يضحك منها فتضحك منه؟! والناس يحتقرونها ويزدرونها ولا يدركون الأسباب التي شوهت نفسها وقتلت فيها الصدق والطهر والوفاء، ولا يحفلون بتلك الأسباب وإن أدركوها.
خلعت برنيطتها ثم نزعت السلسلة من عنقها فرفعت الذخيرة إلى فمها تقبلها.
وبينا هي واقفة أمام المرآة تناجي تلك الذخيرة، كان رجل قادما في ذاك الزقاق يعد إلى يمينه الأبواب، فوصل إلى المقصود منها وإذا بمحمود جالس على الأسكفة تحت القنديل وقد بدت أسنانه كالعاج المنقى يعد سبحته ويتمتم متغنيا ببعض الأشعار على نغمات عود في الحارة المجاورة. - هذا بيت غصن البان؟ - نعم.
فهم الرجل بالدخول فاستوقفه محمود قائلا: حاجتك إيه؟
فدخل الرجل ولم يحفل به فلحقه العبد وأمسكه بجبته. - تريد إيه يا شيخ؟
فتفلت الرجل منه وضربه على وجهه ضربة أطفأت نور عينيه فوقع إلى الأرض، فتركه يئن ويلهث ويسب، وتقدم مسرعا فإذا هو في رواق صغير فيه نوفرة متهدمة جافة بل نائمة لا صوت لها، وإلى يمينه باب ودرج يوصل إلى الدور الثاني، فنظر الرجل إلى الشبابيك فيه فلم ير نورا إلا في واحد منها، فصعد الدرج ومحمود وراءه ينادي: يا مرجانة، يا مرجانة!
وذهب توا إلى الغرفة المنورة فوجد الباب مفتوحا وغصن البان مدبرة تخلع ثيابها، فلما رأت الخيال الأسود منعكسا أمامها في المرآة ذعرت وصاحت مستجيرة، وسارعت إلى الباب تقفله، ثم نادت من الشباك : يا محمود، يا مرجانة، يا مرجانة، يا محمود!
Página desconocida