فخرج وإياها إلى غرفة الانتظار بعد أن كبس الزر فدخلت الخادمة من باب خفي تلبي الدعوة فرتبت الردهة وعادت من حيث أتت، فأغلقت الباب فأقفل من الداخل. - أين المائدة الآن؟ قلت لي أن لا جن في البيت؟
فأطلعها نجيب على السر في هذه الحركات الخفية كلها. - لو كنت قيصرة روسيا وكنت أنا عاهل الألمان وجئنا هذا المنزل السلطاني، بل الجني نقضي به شهرا كاملا نأكل ونشرب وننام محفوفين بخدم لا نراهم ولا يروننا مثل آلهة الحب التي تحرسنا فأكدي أن لا أحد في العالم يدري بوجودنا هنا إلا صاحب البيت، نعم، ولكن صاحب البيت يعرف أن بيته مأجور، ولا يعرف لمن من الناس.
فقالت مريم وصوتها يرتجف: وهل تنوي أن نقيم هنا شهرا. - ليكن ذلك إذا شئت، فنقول بعدئذ: «على ثروة مراد السلام!» - لا، لا، سيدتي توبخني إن لم أعد الليلة، ولا أطيق توبيخها، وقد تطردني من البيت. - ستعودين إن شاء الله.
وفي تلك الليلة أكثرت مريم من الشمبانيا وأغراها نجيب فوق ذلك بسيكارة من الحشيش فنست الفتاة سيدتها ونست حالها، فرقصت رقصة بنات الهيكل وقدمت نفسها على مذبحه ضحية ذكية.
وفي صباح اليوم الثاني قال لها نجيب: «أنت الآن ضيفتي ونحن عرب تقاليدنا عزيزة عندنا مقدسة، وحق الضيافة ثلاثة أيام.» ومريم وقد تخدرت مفاصلها ولم تعد تملك إرادتها أحنت رأسها ساكتة.
ثلاثة أيام أقاما في ذلك المنزل الجني لا يريان من النور غير نور الكهرباء، ولا يسمعان من الأصوات غير أصوات الغرام.
ولما خرجا أصيل يوم الاثنين ركبا سيارة إلى الحرج. - ساعة في الهواء النقي قبل أن تعودي إلى البيت. - ويلي وماذا أقول لمدام لامار. - قولي لها: إنك التقيت بسيدة سورية تعرفينها فعزمتك إلى بيتها خارج باريس تقضين عندها بضعة أيام. - ولا تنس أن تقابل مدير ال «التياترو». - سأقابله غدا وستظفرين بما تريدين إن شاء الله. - ومتى أراك؟ - الأسبوع القادم حسب العادة.
أما مدام لامار فقلقت جدا لتغيب مريم وبعثت إلى إدارة الشحنة باسمها تسألهم التفتيش عنها، وعولت إذا عادت الفتاة أن تسفرها إلى بلادها حالا، فلما دخلت مريم مساء ذاك اليوم بهتت مدام لامار لرؤيتها على تلك الحال، مشحوبة الوجه، غائرة العين، خامدة الذهن، بطيئة الحركة. - ماذا دهاك يا مريم، هل أنت مريضة؟ هل تشكين ألما ما؟ - لا مدام. - وأين كنت؟ أشغلت بالي جدا، أين كنت متغيبة؟ فسكتت مريم. فأعادت عليها مدام لامار السؤال فأجابتها بصوت شجي خافت: ليس أمري في يدي مدام، لم أعد أليق أن أكون خادمة لك ولا أن أقيم في بيتك.
فأظلم وجه السيدة الإفرنسية، فقالت مناعمة: حسن يا بنتي، فقد عولت أن أعيدك إلى وطنك. - لا أعود إلى وطني، لا أعود إلى فلسطين.
فأطرقت مدام لامار مفكرة وتركتها تلك الليلة وشأنها، وفي صباح اليوم الثاني جاءت تقول لها: تعرفين يا مريم أنني أريد صلاحك، وأظن أن مصر توافقك ويكون لك فيها مستقبل حسن، وسأعطيك كتاب توصية إلى أحد أصدقائي هناك، فينبغي أن تسافري حالا، الباخرة الإفرنسية تبحر من مرسيليا بعد يومين، اجمعي ثيابك وأغراضك، وسأبعث إلى الشركة أبتاع لك تذكرة السفر.
Página desconocida