فقالت مريم وقد لاح الغيظ في جبينها: اعذرني يا مسيو فرنسوى، فقد قلت لك: إنني لا أعلم في الليل. - أهبك، أهبك! أهبك! - ولكني «أهب» أن أنام، اعذرني.
وأقفلت إذ ذاك الباب، فنقم فرنسوى لامار منها وكمن لها في قلب حبه البارد شيء من العداء، على أنه كان يسألها دائما أن ترقص فتفعل؛ لأن مريم وقد شغفت بالرقص استمرت تمارسه في غرفتها أمام المرآة فتخترع من الحركات والإشارات والسكتات والوقفات فوق ما كانت تشاهده على مسارح باريس، فازداد جسمها مرونة وازداد سيدها هياما بها، وبدأت تشعر بوحدة في باريس شبيهة بوحدتها على شاطئ البحيرة. - ما بالك اليوم كئيبة؟ هل حفظت أمثولتك؟ عليك أن تطلبي العشاء الليلة حسب وعدك. - لم أحفظ من تلك اللائحة شيئا، كنت مشغولة عنها بالرقص، وبالتعليم، وبالضجر. - أبدأت تضجرين في باريس؟ هذه خطيئة مميتة. - لا أعرف ما هي الخطيئة المميتة، ولكني عرفت الضجر، والقرف، والسأم، فاعلم يا نور العيون أن سيدي وتلميذي يريد أن يكون سيدي وزوجي، ثروة طائلة وعينان «بائختان».
قصر فخم، ووجه لحيم، كن دافئ، ويد باردة، أفلا تهنئني، أولست ممن يغبطن من النساء؟ - ويشقين في غبطتهن، نعم. - لله من عاشق، يجثو أمامي على ركبتيه ويبسط ذراعيه، ويحني رأسه ويشخص بعينيه، ثم يلطم صدره بيده البيضاء الباردة ويتلو أمثولته علي - أهبك! أهبك! أهبك! ثم يأخذ يدي فيقبل رءوس أناملي قبلات «نار الجحيم أبردها».
الله، الله! أهكذا يحب الإفرنج؟ أهبك! أهبك! أهبك! قرف قرف قرف! - لا تشرب زجاجة الشمبانيا وحدك. - لا تؤاخذيني، فقد شغلت عنك بلذيذ حديثك. - هذا سر بلادي، لم أزل أذكر بيتا من الشعر:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة - ومن هو الحبيب؟ - أترى أغني في الطاحون؟ سيدي وتلميذي المسيو فرنسوى لامار. - أرفع كأسي على صحة المسيو فرنسوى وصحتك. - أف عليك!
ورمته مريم بشيء من لب الخبز كانت تعجنه ناقمة بين أناملها.
فرفع نجيب يده إلى شفتيه وأشار بها إليها شاكرا. - قل للخادم أن يعجل بالقهوة، هذه الأنغام تحزنني جدا. - إذن لا تريدين أن نقضي السهرة في ال «أبرا». - بلى، أحب أن أرى ما تسميه «باله» فأحتمل الموسيقى والغناء أو بالحري الضجيج والصياح من أجل الرقص؛ رقص «الباله».
ولكنها لم تعجب بهذا النوع من الرقص كثيرا، فقالت وهي خارجة من ال «أبرا»: يقدر الإنسان أن يعلم الدب والسعدان الرقص، رقص هؤلاء البنات علمه أكبر من فنه، أما رقص تلك الراقصة المشهورة فالفن فيه أكبر من العلم، فيه حركة خصوصية وما يدعوه الشعراء ارتجالا، ابتكارا. - سنزور الآن أكبر قاعة عمومية للرقص في باريس فتشاهدين فيها ما لم تشاهديه بعد من أنواع هذا الفن، وركب وإياها سيارة سارت بها إلى ناحية ال «أبزرفاتور» ووقفت أمام صرح كبير فخم كأنه من صروح الحكومة أو من قصور الملوك الأقدمين، فقالت مريم وهي داخلة: يظهر أن لا شغل لهؤلاء الإفرنج غير الأكل والشرب والرقص. - وتوابعها، لا تنسي توابعها. - السكر والموت؟ - بين الاثنين فترة لا يزدري نعيمها بشر، إنما هي الحياة. - لا أعرفها. - ستعرفينها، ما قولك بهذا النوع من الرقص؟ - مليح، ولكن في رقص العرب رجالا ونساء أدب، ولا أدب في هذه الست من رأيي؟ بلى، الرجل الذي يخاصر امرأة في قاعة عمومية على هذا الشكل مثلا، وذاك - وأشارت إلى بعض الرجال الذين لا يكتفون بالمخاصرة على ما يظهر - هذا حيوان لا بشر، قم بنا، مثل ذي المشاهد تغيظني، تزعجني.
وخرجت مريم من تلك القاعة وقد ضاقت فيها صدرا.
فشيعها نجيب إلى البيت وودعها حسب عادته عند الباب، وكانت إذ ذاك الساعة الثالثة بعد نصف الليل.
Página desconocida