ثم طرقت أذنه أصوات الفجر وقد خرجت من سكينة الليل تشاطر الجبال والمروج أفراحها، في طيقان القناطر فوقه وتحت القرميد يعشش الحسون والسنونو، فسمع حفيف الأجنحة وزقزقة الصغار في أوكارها، خرجت الأم تسعى لصغارها وهي تسبح جذلة طربة، وقرع جرس إحدى الكنائس التي يقدس كاهنها باكرا من أجل الفعلة فيصلون قبل أن يسيروا إلى أشغالهم في الحقول، وفي حارة الإسلام رفع المؤذن صوته الرنان وهو يدور في مأذنته كالشمس في فلكها فتردد الجبال شرقا وغربا صدى كلماته، هيوا على الفلاح، هيوا على الصلاة، وهناك على ذاك السطح رأى شيخا يفرش سجادته ليصلي صلاة الفجر: بسم الله الرحمن الرحيم ... مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم. رآه يسجد سجداته فشاركه القس جبرائيل بصلاته، وعلى سطح آخر أحيطت به مصاطب الحبق والرياحين أناس يشربون القهوة ويدخنون الأركيلة وهم يمزحون ويضحكون، وفي الطريق خارج الناصرة تسمع أصوات القافلة فيردد المكارون الأدوار على رنات أجراس البغال ويضحكون ضحك أبناء الفلوات، وقد خلت قلوبهم من الهموم وملأ نسيم الصباح أنفسهم فزادها سرورا ونشاطا. وفي طريق العين رأى القس جبرائيل امرأة تحمل الجرة على رأسها والسبحة في يدها، خرجت من بيتها باكرة، كما خرجت الحسونة من وكرها؛ تسعى لصغارها.
توهج الفجر فأيقظ الأرض وبنيها، فرددت القوافل والأجراس والمؤذنون والأطيار صدى أصوات التسبيح، بل صدى أصوات تلك النفوس البسيطة الخاشعة الصافية، فهتف الراهب قائلا: ما أجمل هذه الساعة، وما أقدسها! هنيئا لقلوب يسكرها سكوت الفجر وأريجه وأنفاحه وأنواره، ليت الحياة ساعة من ساعات الفجر!
وفي تلك الآونة مرت فتاة تحت رواق الدير مسرعة واجفة، فطرقت أذن الراهب خطواتها ولم يكترث، بل رفع صوته يصلي: «اجعل اللهم حياة البشر هادئة صافية كفجر يومك. ارفع اللهم قلوب البشر إلى جبال قدسك؛ فيجلوها نسيم الحب ويعطرها أريج السلام.»
سمعت الفتاة الصوت فعرفته، فدخلت الدير مسرعة مستبشرة. - «سدد اللهم خطوات المصعدين في جبالك، وطد اللهم مقاصد الشاخصين إلى نجم فجرك، خفف اللهم بؤس البائسين، أنر طريق الضالين، أطلق سراح المأسورين.»
وكانت الفتاة قد صعدت إذ ذاك إلى الرواق، فسارعت إلى القس جبرائيل تقبل يديه وتصرخ: دخيلك، دخيلك، لا ترجعني إلى الدير. - مريم! مريم! ماذا جرى؟ - دخيلك، دخيلك، هربت من الدير، مساء أمس بعد أن تركتني استدعتني الرئيسة إلى غرفتها وضربتني حتى كدت أموت؛ لأنني شكوت مصيبتي إليك. - وكيف خرجت؟ وكيف جئت إلى هنا؟ من دلك؟ - الله خلصني والله دلني، جئت أفتش عنك، فأسمعني الله صوتك ... سمعت صوتك فعرفته، دخيلك ما لي غيرك، لا ترجعني إلى الدير، أموت ولا أرجع. - ليطمئن بالك يا بنتي، سكني روعك، تعالي معي.
ومشى القس جبرائيل قدامها إلى الكنيسة. - ادخلي يا بنتي، صلي ليوفقك الله، وانتظري في الكنيسة إلى أن أعود.
الفصل الثالث
في الحياة قوة خفية تجمع الناس وتفرقهم لغرض غامض قلما يدرك سره، بل في الحياة سحر قد يكون سماويا وقد يكون جهنميا يجذب الأضداد بعضهم إلى بعض ويوقد في قلوبهم شعلة الحب التي توحد بين أكبر القلوب وأصغرها، وأنورها وأظلمها، ليس بين بشرين تناقض أبلغ وأشد مما بين القس جبرائيل وأخيه يوسف أفندي مبارك؛ العضو المسيحي في محكمة الناصرة، والوجيه المقدم في قومه، وهذا التناقض الروحي والعقلي يزول دائما عند المصافحة.
يوسف أفندي في العقد الرابع من العمر طويل القامة قوي الساعد دموي المزاج، جاحظ العين، ضيق الجبين، طلق المحيا، كريم النفس بسيطها، ثلاثة في الحياة تهمه فوق كل شيء وتستهويه، ثلاثة يحذر منها الأنبياء، وينشدها بعض الحكماء، ويتغزل بها الشعراء، ويوسف أفندي لا يحفل كثيرا بما جاء في الكتب المقدسة ولا في دواوين الشعر؛ فهو لا يميل إلى المطالعة ولا يهمه الأدب والأدباء، يشره إلى اللذات لغريزة فيه، ويرغب بطيبات الحياة دون أن يستأثر بها، جليسه أخوه، وضيفه سيده، لطيف المزاج، خفيف الروح، كبير القلب، يقدس الضيافة والألفة ويمجد الوجه الوسيم والمائدة الفخمة، ولا عزيز عنده أعز من قنينة معتقة وصديق «معتق» يشاركه شربها.
على أن انهماكه باللذات واسترساله في الشهوات لا تصده عن القيام بواجباته البيتية والعمومية، فيسعى في سبيل الحق وفي سبيل الناس ما استطاع، وقد امتاز عن زملائه مأموري الحكومة باستقامة ضميره وطهارة ذيله؛ فأحبه الناس لعدله ونزاهته، وأحبه زملاؤه لكرم نفسه وخفة روحه، وما أشبه بيته بناد لإخوانه وأقرانه، بل ما أشبهه بنزل لكل لائذ بعدله وإحسانه، ولا ينكر أن بعض السعاة والوشاة كانوا يقولون: إن بيت يوسف مبارك عش للدسائس وملطأ للمعاثر، على أن المقيم في جواره، النافر من دخان ناره، قد يخطئ الظن إذ يرى الرؤساء؛ دينيين ومدنيين من رهبان وكهان ومأمورين، يؤمون داره؛ حبا بنبيذه المعتق وشغفا بطاولة القمار التي تترأسها زوجته الست هند، أو رغبة في فنجان قهوة فقط من يد إحدى جواريه الرعابيب.
Página desconocida