أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
نبذة طريفة تتضمن وصفا دقيقا وشرحا تحليليا عن أهم أشخاص الرواية
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
نبذة طريفة تتضمن وصفا دقيقا وشرحا تحليليا عن أهم أشخاص الرواية
يوليوس قيصر
يوليوس قيصر
تأليف
ويليام شكسبير
ترجمة
محمد السباعي
أشخاص الرواية
يوليوس قيصر، أوكتافيوس قيصر، مارك أنطانيوس، إيملياس ليبداس:
الحكام الثلاثة بعد مقتل يوليوس قيصر.
شيشيرون، بوبليوس، بوبلياس لينا:
من أعضاء مجلس الشيوخ.
مارك بروتاس، كاسياس، كاسكا، تريبونياس، ليجارياس، ديسياس بروتاس، ميتيلياس سمبار، سينا:
متآمرون ضد يوليوس قيصر.
فلافياس وماريوس.
أرتيميدوراس:
مدرس بلاغة.
عراف.
سينا:
شاعر، شاعر آخر.
لوسيلياس، تيتينياس، ميسالا، كاتو الصغير، فوليو ميناس:
أصدقاء بروتاس وكاسياس.
فيرو، كليتاس، كلودياس، ستراتو، لوسياس، داردانياس:
خدام بروتاس.
بنداراس:
خادم كاسياس.
كالبورنيا:
زوجة قيصر.
بورشيا:
زوجة بروتاس.
المشهد: روما، ضاحية سارويس وضاحية فيليبي.
الفصل الأول
المشهد الأول (روما: شارع دمارولاس) (يدخل فلافياس ورهط من العامة.)
فلافياس :
اذهبوا إلى بيوتكم أيها الكسالى!
أهذا يوم بطالة؟! ألا تعلمون أنه لكونكم من طائفة العمال يجب عليكم أن لا تسيروا في يوم عمل خالين من شعار مهنتكم؟ تكلم! ما صناعتك؟
الرجل الأول :
نجار يا مولاي.
مارولاس :
أين مبذلتك الأدمية
1
ومسطرتك؟ ماذا تبغي بارتداء أحسن ثيابك؟ وأنت يا هذا، ما حرفتك؟
الرجل الثاني :
حقا يا مولاي إني بالقياس إلى مهرة الصناع وحذاقهم أخرق الكف عاجز (مرقع) .
مارولاس :
ولكن ما حرفتك؟ أجبني بصراحة.
الرجل الثاني :
حرفة أحسب أني أستطيع أداءها وأنا مستريح الضمير، بريء الذمة، وهي يا مولاي إصلاح النعال الفاسدة.
2
مارولاس :
ما حرفتك أيها الوغد؟ ما صناعتك أيها النكس الخسيس؟
الرجل الثاني :
ناشدتك الله يا مولاي لا تتمزق علي غضبا، ولئن تمزقت غضبا لأصلحنك.
مارولاس :
ماذا تعني بذلك؟ أنت تصلحني يا وقح!
الرجل الثاني :
أجل يا مولاي، أرقعك.
مارولاس :
أنت إسكاف إذن؟
الرجل الثاني :
هذه هي الحقيقة يا مولاي، فكل ما أعيش به هو مخصفي.
3
أنا لا أعنى بشأن رجل ولا امرأة، ولكن بالمخصف. وإني في الواقع طبيب النعال القديمة، فإذا أشرفت على الخطر الجسيم، فإني أظاهرها، وما زال الرجل المتجمل المحتذي أجود الأدم يلبس من صنع يدي.
فلافياس :
ولم لم تلزم حانوتك اليوم؟
لماذا تطوف بأولئك الرجال في الطرقات؟
الرجل الثاني :
لأبلي نعالهم فأستفيد من وراء ذلك. ولكن الواقع يا مولاي أننا تعطلنا اليوم لنرى قيصر، ونقضي اليوم ابتهاجا بانتصاره.
مارولاس :
فيم الابتهاج؟ وأي فتح أفاءه قيصر على بلاده؟ وأي أسرى وسبايا وأي غنائم وأسلاب عاد بها إلى روما تتحلى بحلقات أصفادها عجلات مركبته؟
أيها الخشب المسندة والجمادات العديمة الحس والإدراك، يا أهل روما، يا قساة القلوب، ويا غلاظ الأكباد، أنسيتم «بومبي»؟ أنسيتم إذ كنتم تتسلقون الأسوار والمعاقل والأبراج والنوافذ ورءوس المداخن، تحملون أطفالكم بين ذراعكم، وهنالكم تلبثون اليوم الطويل ترتقبون بفارغ الصبر مقدم «بومبي» العظيم لتروه مارا في طرقات روما، فإذا ما لاحت لكم مركبته أرسلتم ضجة عامة ارتج التيبر تحت ضفتيه، وخفق فؤاده بين دفتيه؛ لهول دويها الطنان في حنايا سواحله الجوفاء، أفبعد كل هذا ترتدون اليوم أبهى ثيابكم، وتقتطفون من بين أشواك العمل زهرة يوم رفاهة وبطالة؟! أتنثرون اليوم الرياحين في طريق الذي قد جاءكم منتصرا على أولاد «بومبي» وأفلاذ كبده، اذهبوا إلى بيوتكم، فخروا سجدا وابتهلوا إلى الآلهة أن يرجئوا من النقمة والعذاب ما لا بد أن يحل بكم جزاء هذا الجحود والكفران.
فلافياس :
اذهبوا أيها المواطنون واستغفروا لذنبكم هذا، فاجمعوا المساكين من أهل طبقتكم وامضوا بهم إلى ضفاف التيبر، فاسفحوا به مدامعكم حتى تفعم بها أضحاله
4
وأوشاله
5
فتفهق بزواخرها حفافيه ويعب بها عبابه (تخرج العامة) .
ترى قد رقت لهذا الكلام طباعهم الجامدة، ورفت له نفوسهم الراكدة، لقد انقشعوا مغلولي الألسن في سلاسل جريمتهم، انحدر أنت في هذا الطريق إلى «الكابيتول»، فإني سالك ذلك المنهج، جرد التماثيل إن وجدتها مزدانة بالحلي.
مارولاس :
ألنا أن نفعل ذلك؟ أنت تعلم أنه عيد لوبركال.
فلافياس :
لا بأس من ذلك، لا تدع أي هذه التماثيل يتوج بالأكاليل الدالة على انتصارات قيصر، سأجول هنا وهنالك لأطرد الغوغاء من الشوارع، وكذلك فلتفعلن حيث تراهم يحتشدون، هذه الصدمة ستهيض من جناح قيصر، فتهبط به إلى مستواه، وتقف به عند حده، ولولاها سما صعدا حتى غاب عن أبصار العالم وأذاقنا جميعا لباس الذل والرهبة.
المشهد الثاني
المنظر الأول (مكان عمومي) (الموسيقي: يدخل قيصر وأنطانيوس للسباق: كالبورنيا، بورشيا، ديسياس، شيشرون، بروتاس، كاسياس، كاسكا، يتبعهم جمع كثير بينهم عراف.)
قيصر :
كالبورنيا.
كاسكا :
صه! قيصر يتكلم. (تسكت الموسيقى.)
قيصر :
كالبورنيا.
كالبورنيا :
ها أنا ذا مولاي.
قيصر :
قفي في طريق أنطانيوس حينما يجري شأوه، أنطانيوس!
أنطانيوس :
مولاي قيصر!
قيصر :
لا تنس أثناء شدك أن تلمس كالبورنيا، فلقد قال أشياخنا: إن العاقر إذا لمست أثناء هذا السباق المقدس سقطت عنها آفة العقم.
أنطانيوس :
سأذكر ذلك، متى قال قيصر: «افعل ذلك»، فكأنما قد فعل.
قيصر :
امض قدما. (الموسيقى)
العراف :
قيصر!
قيصر :
من ذا ينادي؟
كاسكا :
ليخفت كل صوت، عاودوا الصمت والسكينة!
قيصر :
من ذا يناديني من بين هذا الزحام؟ إني أسمع لسانا أعلى ضجة من رنة الموسيقى، يصيح: «قيصر»، تكلم إن قيصر ملتفت فمنصت.
العراف :
احذر منتصف مارس!
قيصر :
أي رجل هذا؟
بروتاس :
عراف يحذرك منتصف مارس.
قيصر :
أحضره بين يدي، أرني وجهه.
كاسكا :
أيها الرجل! اخرج من غمار القوم ثم واجه قيصر.
قيصر :
ماذا قلت لي آنفا؟ أعد قولك.
العراف :
احذر منتصف مارس.
قيصر :
أحلام حالم، امضوا بنا عنه. (أصوات أبواق، يخرجون جميعا ما عدا بروتاس وكاسياس.)
كاسياس :
أتذهب لرؤية السباق؟
بروتاس :
ما كان مثلي ليذهب.
كاسياس :
أرجوك أن تذهب.
بروتاس :
لست إلى الألعاب ميالا، إني ليعوزني بعض تلك الميعة والمرح الذي تفيض به نفس أنطانيوس، ولن أكون عقبة في سبيل رغباتك، لذلك أدعك الآن.
كاسياس :
أي بروتاس، إني أتأملك اليوم كثيرا، فأراك قد تنكرت، وأراني فقدت منك ذلك العطف والتودد، ومن عينيك تلك اللحظات اللينة الرفيقة، والنظرات الغضة الرقيقة؛ دليل الحب وعنوان الحنان. ولقد أصبحت اليوم تشتد على أخيك المحب الودود، وتقسو عليه قسوة عنيفة منكرة.
بروتاس :
لا تخطئ يا كاسياس.
ولتعلمن أنه إن كانت حالتي تغيرت وتنكرت بشاشتي، فعلى نفسي لا سواي ذلك التنكر، لقد تكدر صفوي آنفا، وأصابتني لواعج هم شتى وهواجس أفكار لا تخص غيري، ولعل هذه قد غيرت قليلا من مظاهري نحو الخلان، ولكن إخواني - وأنت أحدهم - لا يجدر بهم أن يتأذوا من ذلك، ولا أن يؤولوا تفريطي في واجباتهم بأكثر من أن بروتاس التعس لاستيائه من حالته، وثورانه ضد نفسه، قد أهمل أن يتحلى لإخوانه باللائق من مظاهر الحب والمودة.
كاسياس :
أراني إذن أسأت فهم شعورك الحقيقي يا بروتاس، ومن ثم ما جال في ضميري من تلك الفكر الخطيرة الجديرة بالتأمل والتدبر، خبرني يا بروتاس ألا تستطيع رؤية وجهك؟
بروتاس :
كلا يا كاسياس؛ لأن العين لا ترى نفسها إلا بانعكاس صورتها، أي بواسطة وسائل أخرى.
كاسياس :
هذا هو الواقع، ومن أكبر دواعي الأسف يا بروتاس أنك لا تملك المرآة التي تستطيع أن تعرض على عينك فضائلك المكنونة كيما ترى خيال نفسك. لقد بلغني أن كثيرا من وجوه روما وأعيانها «خلاف قيصر الخالد» كلما ذكروا بروتاس، وأخذوا يتوجعون من مظالم هذا العصر ودوا لو أن الهمام بروتاس أتيح له أن يفقه حقيقة نفسه، ويدرك ما له من جليل الفضائل والمناقب.
بروتاس :
إلى أي أخطار تريد أن تسوقني يا بروتاس بحملك إياي على أن أبتغي عند نفسي ما ليس فيها؟
كاسياس :
إذن فاسمع مني يا بروتاس! أما وقد علمت أنك لا تستطيع أن تعرف من صورة نفسك إلا ما ينعكس منها على نحو ما تنعكس الشخوص والأشباح؛ فسأكون لك كالمرآة أريك بمزيد الخشوع والتواضع من شئون نفسك ما لم تعرفه حتى الآن، ثم لا يخالجنك في أدنى ارتياب يا بروتاس، فلو كنت ماجنا هزالا أو كنت مبتذلا لمودتي مرتخصا لها أكيلها جزافا مزجاة بأغلظ الأيمان لكل متظاهر بالإخاء مدع للصداقة، أو كنت ممن يتملقون الرجال ويعانقونهم ثم يوسعونهم بعد ذلك سبابا، أو كنت ممن يتزلفون إلى الناس في المآدب ويجاهرون بالمحبة والوداد لكل عربيد صخاب من الطغام والدهماء - إذن لحق لك أن ترهب جانبي وتعدني خطيرا مخوفا. (موسيقي - ضجيج)
بروتاس :
ما معنى هذا الصياح؟
أخشى أن يكون الناس قد هموا أن يختاروا قيصر ملكا عليهم.
كاسياس :
أوتخشى ذلك؟ إذن فلي أن أعتقد أنك لا تود حصوله.
بروتاس :
كلا يا كاسياس لا أود حصوله، على أني أحبه حبا جما.
ولكن فيم تحجزني ها هنا هذه المدة المديدة؟ ماذا تريد أن تفضي به إلي؟ إذا كان من أجل الصالح العام، فاجعل الشرف في كفة والموت في كفة يتعادلا عندي ويتكافأا.
كاسكا :
إني لأعرف من طيب مخبرك مثلما أعرف من حسن منظرك، وألمح من صفاء سريرتك، ما ألمح من ضياء أسرتك.
6
اعلم أن الشرف ديدانك ومذهبك، والشرف هو مغزى قصتي ومرمى حديثي الذي أفضي به إليك، لست أدري ما رأيك أنت وغيرك في هذه الحياة، أما أنا فالموت عندي أروح من الحياة أقضيها على مضض الخوف من مخلوق مثلي، لقد ولدت حرا مثل قيصر، وولدت أنت كذلك، وغذينا بمثل ما غذي مراءة وطيبا، ولنا مثل طاقته على احتمال القر ونفحاته، ولقد أذكر أنه في يوم ريح صرصر عاتية، وقد تمرد «التيبر» وثار يلاطم جنبيه، ويقذف بجرجرة الآذي عبريه،
7
قال لي قيصر: «أتجرأ الآن يا كاسياس أن تثب معي في هذه اللجة الجامحة، والموجة الطامحة، ثم تسبح إلى ذلك الموضع من الساحل؟ فما هو إلا أن فاه بهذا حتى اندفعت وسألته أن يتبعني، ففعل ولليم أيما ضجيج وعجيج، وطفقنا نجالد الغمار بسواعد مفتولة، وأعضاد مدمجة مجدولة، نمزق جحافل التيار، ونقذف بكتائب الموج ذات اليمين وذات اليسار، نصدها بجنان يحن إلى الكفاح، ويخف إلى الجلاد ويراح.
8
ولكن شاءت الأقدار أنه قبل بلوغنا المكان المعين صاح بي قيصر: «أغثني كاسياس وإلا غرقت»، فما كان إينياس جدنا الأعظم يوم ارتث من كبة النيران أنكيسيس الهرم، فاحتمله على عاتقه بأسرع مني غياثا؛ إذ دلفت إلى قيصر فاختطفته من غاشيات اليم. ولقد أصبح هذا الرجل إلها معبودا، وكاسياس إن هو إلا مخلوق ذليل حتم عليه أن ينحني إجلالا لأدنى تسليمة من قيصر، لقد شهدت قيصر في إسبانيا وقد أصابته الحمى، فلما كان في بعض نوباتها رأيته يجف
9
ويرجف، أجل لقد كان ذلك الإله يجف ويرجف، ورأيت شفتيه كشفتي الجبان قد نصلتا من صبغتهما، وعينه التي تروع العالم لمحاتها قد طفئ رونقها وغاض ضياؤها، ولقد سمعته يئن أنينا، ولسانه ذاك الذي أمر الرومان أن يسموا إليه بأبصارهم ويدونوا بسجلاتهم خطبه لقد صاح - وا أسفاه: «اسقني جرعة ياتيتنياس»، كما لو كان صبية عليلة! يا للآلهة، إني لأعجب لهذا الرجل الواهن القوى، كيف أتيح له أن يسبق إلى ذرا السؤدد والعلاء هذا العالم العظيم ويحرز قصب السبق وحده؟! (موسيقى وهتاف)
بروتاس :
صيحة عامة أخرى!
أظن هذا الهتاف لآيات تكريم جديدة تزف إلى قيصر.
كاسياس :
لا جرم، إنه ليذرع رقعة الأرض الضيقة بفسيح خطواته كأنه المارد، ونحن الأقزام الضئال نسعى تحت رجليه العظيمتين ونتلفت حوالينا، نبتغي لأنفسنا قبورا مهينة، إن الرجال ليكونون أحيانا ملاك حظوظهم يكيفونها كما يشتهون، ومسيطرين على الأقدار، قابضين على أزمتها، يصرفونها كما شاءوا. أي عزيزي بروتاس، لا ملام على نجومنا ولا جناح، إنما علينا اللوم والتثريب؛ إذ كنا عبيدا أذلاء.
بروتاس وقيصر، أي شيء في هذا الاسم «قيصر»؟ ولماذا يظل أذيع على الألسن وأكثر ترددا من اسمك؟!
اكتبهما معا تجد اسمك مضاهيا اسمه ملاحة وحسنا، وانطق بهما تجد لاسمك مثلما لاسمه من عذوبة في الفم وحلاوة على اللسان، زنهما في كفتين يتعادلا، استحضر بهما الجن يتكافأا أثرا ومفعولا، فبأسماء الآلهة جميعا، أي شيء يغذي قيصرنا هذا حتى بلغ من العظمة هذا المبلغ؟! أيهذا الجيل لقد جللت خزيا وعارا!
روما! لقد فقدت سلالة الأمجاد أولى الأحساب الوضاءة والأنساب الوضاحة، أي جيل جاء بعد الطوفان لم يحل جيده بأكثر من واحد من النوابغ؟! وفي أي آونة من الدهر قبل الساعة استطاع المتحدثون عن روما أن يقولوا: إنها لم تضم بين أكنافها الفيحاء إلا رجلا واحدا؟ فلتفخر
10
الآن روما وليهنها أنها لا تحرز بين أرجائها الرحاب إلا رجلا واحدا! لقد سمعنا آباءنا يقولون: إنه كان مرة في روما رجل يدعى بروتاس، كان يحتفظ بكرامته وعزته كما لو كان ملكا مهيبا، ولو ألجأه ذلك إلى مطاوعة الشيطان اللعين.
بروتاس :
لا شك عندي في حبك وولائك.
ولكني أفطن لما تريد أن تصل بي إليه، وسأحدثك فيما بعد بما خالج نفسي عن هذا الأمر وهذه الأوقات، أما الآن فأسألك بما بيننا من أواصر المودة أن تكف عن إثارة مكامن أشجاني، وحسبك أني سأجعل مقالتك موضع تأملي وتفكيري، وما سوف تنبئنيه أتلقه منك بصبر وأناة، وأجعل من بين أوقاتي مجالا أسمع فيه منك تلك المسائل الخطيرة وأجيبك عليها، أما قبل ذلك فقمين بك أن تطيل الفكرة في هذا المعنى؛ وهو أن بروتاس يؤثر أن يكون قرويا من السوقة عن أن يعد نفسه من أبناء روما، ثم يحتمل من المكاره ما يتوقع أن يصيبه من مساوئ هذا العصر.
كاسياس :
يسرني أن أرى كلماتي الضعيفة قد اقتدحت من لهيب الحمية ما لاح لي منك الآن.
بروتاس :
لقد انتهت الألعاب وعاد قيصر.
كاسياس :
إذا رأيتهم مارين، فاجذب بكم كاسكا يحدثك بلهجته التهكمية عما يستحق الذكر من حوادث هذا اليوم (يدخل قيصر وحاشيته) .
سأفعل، ولكن تأمل يا كاسياس، كيف يتوقد الغضب على جبين قيصر؟ وعلى الحاشية أمارات الاستخذاء والخنوع وبوجنة كالبورنيا اصفرار، وشيشرون ينظر بعيني ابن عرس محتدمتين كما أبصرناه مرة بالكابتيول حينما انبرى له بالمعارضة بعض الشيوخ في حومة الجدال.
كاسياسا :
سينبئنا كاسكا بما كان.
قيصر :
أنطانيوس!
أنطانيوس :
قيصر!
قيصر :
ابغني من الرجال كل شحيم، مبدان، لين الجمجمة، نوام الليل، فإن كاسياس ذاك شره العين منهوم النظرات، إنه لمطراق، كثير الهواجس، وإن مثله حري أن يكون خطرا مخوف الجانب.
أنطانيوس :
لا تخفه يا قيصر إنه ليس بالخطر المخوف الجانب، إنه روماني شريف حسن النية.
قيصر :
ليته كان أكثر سمنا! لست أخشاه، ولكني أقول: لو كان لقيصر أن يخاف مخلوقا لما رأى في الناس من هو أولى بالمجانبة من كاسياس؛ ذاك الناحل المعروق.
11
إنه كثير الاطلاع، دقيق النظر يستشف بنافذ بصيرته كنه الأمور ومراميها، ثم هو لا يحب الألعاب مثلك يا أنطانيوس ولا يسمع الموسيقى، وقلما يبتسم، فإذا فعل كان كأنما يبتسم احتقارا لنفسه وسخرية منها؛ إذ رأت في هذا العالم ما هو خليق أن يبعث منها ابتسامة. مثل هذا الرجل لا ينعم البتة براحة بال مادام يبصر في العالم من هو أسمى درجة منه وأرفع مكانا، ومن ثم كان خطرا مخوفا. هذا، وإنما أحدثك بما ينبغي أن يحذر ويخاف لا بما أخافه وأحذره؛ لأني ما زلت قيصر. تحرك إلى يميني فإن أذني هذه صماء، وأبد لي صريح رأيك عن هذا الرجل. (يخرج قيصر وجميع الحاشية إلا كاسكا.)
كاسكا :
لقد جذبت بقبائي، أتريد محادثتي؟
بروتاس :
أجل يا كاسياس، نبئنا ماذا جرى اليوم فاهتم وأطرق من أجله قيصر؟
كاسكا :
ألم تصحباه اليوم؟
بروتاس :
لو كان ذلك لما سألت كاسكا عما جرى.
كاسكا :
لقد أهدي إليه تاج ولكنه نحاه بظاهر كفه هكذا، وحينئذ صاح الناس.
بروتاس :
ولماذا كانت الصيحة الثانية بعد ذلك؟
كاسكا :
من أجل هذا أيضا.
كاسياس :
لقد صاحوا ثلاثا، فلم كانت الثالثة؟
كاسكا :
من أجل هذا أيضا.
كاسياس :
أوقد عرض عليه التاج ثلاثا؟
كاسكا :
أجل، وقد رفضه ثلاثا، ولكن كل رفضة كانت ألين وأرفق مما قبلها، وعند كل رفضة جعل جيراننا الفضلاء
12
يصيحون.
كاسياس :
ومن أهداه التاج؟
كاسكا :
أنطانيوس بلا نزاع.
بروتاس :
صف لنا ما كان من أمر ذلك، وبأي أسلوب جرى يا كاسكا؟
كاسكا :
القتل أهون علي من محاولتي وصف ذلك الأسلوب، لقد كان الحمق والسخف بعينه، لم أدقق النظر ولكنى رأيت مارك أنطانيوس يقدم تاجا، على أنه ليس بتاج ولكن إحدى هذه التويجات، فنحاه قيصر جانبا كما أخبرتكما، ولكنه كان يود فيما أظن أن يناله ثم قدمه إليه ثانية، فنحاه ثانية، ولكنه كان يشتهي فيما أظن أن يتناوله بأصابعه، ثم قدمه الثالثة فرفضه الثالثة، وجعل الطغام يصيحون عند رفضه، ويصفقون بأكفهم المشققة، ويقذفون بقلانسهم المبتلة بالعرق، وتوالت بالصياح أنفاسهم النتنة الخبيثة «لرفض قيصر التاج» حتى كادت تخمد أنفاسه، فلقد خر مغشيا عليه من نتن أنفاسهم، ولم أجرأ على الضحك مع غلبته علي؛ مخافة أن أفتح فمي فتنسرب فيه الريح الخبيثة.
كاسياس :
على رسلك وخبرني، هل أغمي على قيصر؟
كاسكا :
لقد خر مغشيا عليه في السوق، وطفق يرغي ويزبد وقد احتبس منطقه.
بروتاس :
هذا محتمل جدا، فإن به داء الصرع.
كاسياس :
كلا ليس به ذلك، وإنما بي وبك وبالأمين كاسكا ما تذكر من داء الصرع.
كاسكا :
لست أفهم ما تعني بقولك هذا، ولكني على يقين من أن قيصر قد خر مغشيا عليه، وإني لكاذب أفاك إن لم يكن الغوغاء قد جعلوا يمجدونه تارة، ويحقرونه أخرى حسبما كان يسرهم أو يسوءهم كما هو شأنهم مع ممثلي المسارح.
بروتاس :
وماذا قال عند ما رجعت إليه نفسه؟
كاسكا :
إنه قبل سقوطه لما أبصر الغوغاء سروا برفضه التاج حسر عن نحره، وسألهم أن يقطعوا رأسه، فأصليت وهج الجحيم مع زمرة الطغام لو كنت رجلا من العمال ثم ارتبت في صدق مقاله، وعلى أثر ذلك خر مغشيا عليه، فلما ثابت إليه نفسه استماح معذرة حضراتهم، وسألهم إن كان قد بدرت منه هفوة أو سقطة أن يعزوها إلى علته، وكان إلى جانبي ثلاث فتيات، فسمعتهن يقلن: «يا لله! ما أبره، وما أكرمه!» ثم عفون عنه، ولكن هؤلاء لا يعبأ بهن ولا يحفل بمقالهن، فلو أن قيصر طعن أمهاتهن لما صنعن معه سوى ذلك.
بروتاس :
وبعد ذلك عاد مطرقا مفكرا؟
كاسكا :
أجل.
كاسياس :
ألم يقل شيشيرون شيئا؟
كاسكا :
تكلم باليونانية.
كاسياس :
ماذا قال؟
كاسكا :
لو كان لا بد لي من إنبائك بذلك لما نظرت بعد اليوم قط في وجهك، ولكن الذين فهموا قوله تضاحكوا وهزوا رءوسهم، أما أنا فكان كلامه رطانة في أذني. ولتعلمن أيضا أن مارولاس وفلافياس قد عوقبا على تجريدهما تماثيل قيصر من أوشحتها بالحرمان من امتياز النيابة الشعبية. وبعد، فسلام عليكما لقد كان ثمت من السخافات فوق ما سردت لو أني أستطيع أن أذكرها.
كاسياس :
أتتعشى معي الليلة يا كاسكا؟
كاسكا :
كلا، فلقد سبقت إلى الدعوة من بعض الخلان.
كاسياس :
أتتغدى معي غدا؟
كاسكا :
أجل، إن عشت وبقيت أنت على عزمك وكان طعامك مما يستساغ
13
ويستمرأ.
14
كاسياس :
سأنتظرك.
كاسكا :
فليكن ذلك، وسلام عليكما. (يخرج)
بروتاس :
لشد ما تبلد هذا الرجل وخبا زناده وعهدي به أول دخوله المدرسة أروع ذكي القلب ألمعيا.
كاسياس :
وإنه لكذلك إلى اليوم لركوب الهول وإنفاذ الخطر النبيل من المقاصد، ليس هو بالغبي ولا البليد ولكنه يتغابى ويتبالد، وهذا الجفاء منه يكون لذكائه وفطنته بمثابة التوابل المشهية، يستخف الناس إلى استماع كلماته فتكون أسوغ في الآذان وأنفذ إلى الضمائر.
بروتاس :
وإنه لكذلك. ثم إني منصرف عنك الساعة، وإن رمت محادثتي غدا آتك في دارك، وإلا وافني بمنزلي أكن في انتظارك.
كاسياس :
سأفعل، وإلى حلول موعدنا أجل فكرتك في شئون هذا العالم. (ويخرج بروتاس.)
أي بروتاس! إنك لنبيل! ولكن شيمتك النبيلة قد تحول فيما أراه عن مبدئها ومنهاجها، ومن ثم يجدر بالنفوس الشريفة أن تألف أمثالها أبدا، وأي امرئ ثابت المبدأ راسخ القدم لا يستمال ولا يستهوى، إن قيصر موغر الصدر علي ولكنه يحب بروتاس، ولو كنت بروتاس وكان بروتاس كاسياس لما حالاني
15
قيصر ولا طايبني. وبعد، فسأعمد الليلة إلى نافذة بروتاس فأقذف خلالها برسائل شتى الخطوط، كأنها مرسلة من أناس شتى، وكلها يرمي إلى عظيم إعجاب روما به وإجلالها لاسمه، وسيكون بها إشارة خفية إلى مطامع قيصر، وبعد ذلك فليتماسك قيصر وليثبت قدمه، فإنا - وايم الحق - لمزعزعوه فمزلزلون به زلزالا، وإلا استحالت الحال إلى ما هو أمر وأدهى. (يخرج)
المنظر الثاني (المكان بعينه: شارع) (رعد وبرق - يدخل من بابين متقابلين كاسكا مسلول السيف وشيشيرون.)
شيشيرون :
عم مساء كاسكا، هل شيعتم قيصر إلى داره؟ لم أراك مقطوع النفس مبهورا؟
16
وفيم تحميجك
17
وحملقتك؟
كاسكا :
أفلا يحركك أن ترى الأرض ذات الحركة المتئدة
18
المنتظمة ترتجف كالشيء المزعزع المضطرب؟! أي شيشيرون! لقد شهدت العواصف فأبصرت هوج الرياح تمزق صلاب الدوح، ورأيت البحر الطموح يعب عبابه
19
ويطمو
20
ويطغو
21
ويرغي ويزبد، ويحاول أن يساور
22
الرواعد سرفا ويطاول البوارق زهوا وصلفا، ولكني إلى الليلة والساعة لم أخض عاصفة تمطر نارا، وترسل من اللهب ديمة مدرارا، فإما أن تكون بالسماء حرب عوان، وإما أن يكون أهل الأرض قد أحفظوا الآلهة، واستثاروا نقمتها، واستمطروا من سجال عذابها وابل التلف والدمار.
شيشيرون :
أرأيت ما هو أعجب من ذلك؟
كاسكا :
رأيت عبدا عموميا - تعرفه أنت لرؤيته - يرفع يسراه وكانت تلتهب التهابا وتتأجج ببريق عشرين شعلة، وهي مع ذلك لقلة تأثرها بالنار لم تحترق ولا أصابها أذى.
ولقيت أيضا - ومذ ذاك لم أغمد حسامي - أسدا بالسوق فحملق إلي ثم مضى ولم يمسني بأذى، ورأيت مائة امرأة محتشدات متكاثفات قد أشحب الرعب وجوههن، ونكر الفزع صورهن يحلفن أنهن أبصرن رجالا قد استطارت النيران في أشخاصهم، وارتدوا من وهج الحريق معصفرات الوشح والمجاسد، غادين رائحين في الشوارع، وبالأمس جثم طائر الليل «البومة» بالسوق إبان الظهيرة يصيح ويصرخ، ومتى اجتمعت نذر السوء هكذا فلا يقولن الناس: إنها فعلت ذلك لأسباب طبيعية، أما أنا فأعتقد أنها فأل نحس وشؤم على المكان الذي إليه عمدت ونحوه أشارت.
شيشيرون :
حقا إن هذه لأوقاتا منكرة، ولكن الناس قد يؤولون مظاهر الأشياء كما يبدو لهم على خلاف ما ترمي إليه الأشياء ذاتها وتقصد، هل قادم قيصر إلى السوق غدا؟
كاسكا :
سيفعل، فلقد أمر أنطانيوس ينبئك أنه سيكون هنالك غدا.
شيشيرون :
عم مساء يا كاسكا، إن هذا الجو المضطرب لا ينبغي أن يسلك.
كاسكا :
سلاما يا شيشيرون. (يخرج شيشيرون.) (يدخل كاسياس.)
كاسياس :
من هنا؟
كاسكا :
رجل روماني.
كاسياس :
كاسكا من صوتك.
كاسكا :
إن أذنك لمرهفة حديدة، ما أهول هذه الليلة يا كاسياس!
كاسياس :
ليلة بهجة لذوي البر والتقوى.
كاسكا :
من ذا الذي عهد السماء تتوعد وتتهدد كما تفعل الآن؟
كاسياس :
الذين عهدوا الأرض مفعمة بالذنوب، مملوءة بالخطايا. أما أنا فلقد جبت الطرقات مستسلما إلى هذه الليلة الروعاء وأخطارها، ولقد كشفت صدري أتلقى به الصاعقة، ولما لمعت أسنة البرق وتألقت زرق نصاله كأنما تهم أن تمزق صدر السماء عرضت لها واعترضت سبيلها ومنحاها أواجه وميضها المستطير وبريقها الخاطف.
كاسكا :
ولكن لماذا بالغت إلى هذا الحد في إغراء السماء بك واستثارتها عليك؟ إنه لمن واجب الناس أن يفزعوا ويرتعدوا كلما أرسلت الآلهة العظام بالآيات البينات أمثال هذه النذر المرهوبة لتروعنا وتدهشنا.
كاسياس :
إنك بليد الفهم يا كاسكا، وإن جذوات الحياة وجمرات الحدة والذكاء التي يجب أن تكون في كل روماني ليست فيك أو أنك لا تستعملها، إنك ليعلوك الشحوب ويمتقع لونك، ويشخص بصرك ويسهو طرفك وتكتسي ثياب الفزع والرعب، وتسلم نفسك لعوامل الحيرة والدهشة حينما تبصر غضب السموات وحنقها، أما إذا بحثت عن كنه علة هذه النيران وهذه الخيالات السانحة وهذه الطيور والبهائم المتنكرة الأشكال، المستحيلة عن نوعها وجنسها، وسألت نفسك ما معنى ذلك الحمق والسخف من الرجال، وذلك التشاؤم والتطير من الأطفال، ولم هذه الأشياء قد طفقت تحول عن حالها وتستبدل بعتيد صفاتها وطباعها حالات منكرة غير مألوفة ولا معهودة - علمت أن السموات قد بثت فيها هذه الأرواح والمعاني لتجعلها أداة رهبة، ووعيد تنذر بأمور منكرة خارقة للعادة. وبعد، فقد أستطيع أن أسمي لك رجلا جد شبيه بهذه الليلة المخوفة التي ترعد وتبرق وتفتح القبور وتزأر زئير الأسد الرابض بالسوق، رجلا ليس بأجل فعالا ولا أعظم أثرا منك ولا مني، ولكنه قد أصبح اليوم هائل الخطر مخشي العواقب يصرف بكفه أعنة القدر، مخوفا مرهوبا كهذه الزعازع الكونية والاضطرابات العالمية التي ترى الآن.
كاسكا :
أنت تعني قيصر، أليس كذلك يا كاسياس؟
كاسياس :
فليكن أيا كان، لست اسميه، إن للرومان الآن عضلا وأوصالا، ولكن بؤسا لهذا الجيل، لقد فقدنا ألباب آبائنا وحجاهم، وأصبحنا الآن نعيش ونفكر بعقول ربات الحجال، وتدبر أمورنا فطن
23
أمهاتنا وعزائمهن، فإن ذلتنا وهواننا واحتمالنا الضيم وإقامتنا على الخسف تنم عن غلبة الأنوثة علينا، وإننا بمخضوبات البنان وبمن ينشأ في الحلية
24
أشبه وأشكل.
كاسكا :
لقد زعموا أن مجلس الشيوخ يريد أن يتوج قيصر غدا ملكا، وسيلبس التاج برا وبحرا وفي كل مكان سوى هنا بإيطاليا .
كاسياس :
سأعرف إذن أين ألبس
25
خنجري هذا؟ إن كاسياس سيخلص كاسياس من ربقة الرق والعبودية. أيتها الآلهة، إنكم بمنحكم كل امرئ القدرة على الانتحار تكسبون الضعيف قوة، وتخذلون الطغاة، وتفتون في أعضاد الجبابرة. فلا الأبراج المشيدة، ولا أسوار الفولاذ، ولا السلاسل والأغلال، ولا السجون المطبقة تستطيع أن تفل العزائم الماضية، أو تشل حركة الروح القوية. ولكن الحياة متى سئمت هذه القيود الدنيوية لم تعدم في نفسها القوة على صدعها والخلاص منها. وإذا كنت أعلم ذلك من نفسي، فليعلم الناس طرا أن ما أحتمله الآن من مكاره الجبروت والطغيان، أنا قادر على إطراحه ونبذه متى شئت. (قصف الرعد.)
كاسكا :
وأنا أيضا على ذلك قدير، وكذلك كل من كان أسيرا في وطنه يملك القدرة على فك أساره وإعتاق نفسه.
كاسياس :
فيم إذن طغيانه وجبروته؟ ضلة له! أنا أعلم أنه ما كان ليستحيل ذئبا لو لم ير الرومان حوله نعاجا، وما كان ليبدو أسدا لو لم يجد من الرومان ظباء. إن الذين يريدون أن يعجلوا بإشعال نار عظيمة يبدءون بدقيق الحطب وخواره. أي حثالة ونفاية وأي أقذار وأرواث، أنتم أبناء روما؛ إذ تكونون الحطب الخبيث الذي يسبغ ضياء باهرا، ويفيض رونقا زاهرا على من هو مثل قيصر خسة وخبثا، أيها القلب الحزين لقد تجاوزت مقدارك، إلى أي حد ذهبت بي؟! فلعلي أخاطب الآن رجلا راضيا بأسره مستكينا إلى عبوديته ورقه، وإذن أكون مسئولا عن مقالتي، ولكني مسلح ولست بالأخطار حافلا، ولا للأهوال مكترثا.
كاسكا :
إنك تتحدث إلى كاسكا، وليس إلى صاحب وشاية ونميمة، أعطني يدك ولك العهد والميثاق على الوفاء مني والحفاظ الدائم، وتحفز وشمر عن ساعد الجد لرفع هذه المظالم برمتها، تجدني إلى الغاية المقصودة والبغية المنشودة أسبق الناس قدما وأبعدهم شأوا.
كاسياس :
هذه منك معاهدة وبيعة، فلتعلمن الآن يا كاسكا أني قد أغريت فئة من أشرف الرومان وأرجحهم لبا وأسماهم همة، بأن يحاولوا معي أمرا له ما بعده، شريف المغبة مرهوب العافية، واعلم أنهم ينتظرونني الآن عند باب بومبي.
وهذه الليلة الهائلة الروعاء قد حبست الناس عن المرور والحركة، ومشهد الجو يشبه ما نهم به من هذا الأمر الجلل؛ كلاهما ناري دموي رائع هائل.
كاسكا :
تلبث قليلا واتئد؛ لأني أرى شخصا يعدو مسرعا.
كاسياس :
هذا سينا، إني أعرفه بمشيته، إنه صديق وصاحب (يدخل سينا) .
إلى أين تسرع يا سينا؟
سينا :
أبتغيك وألتمسك، من هذا؟ ميتالاس سمبار؟
كاسياس :
كلا، هذا كاسكا، رجل متكاتف معنا على تنفيذ نياتنا مؤازر لنا على تحقيق بغياتنا، أليس القوم في انتظاري يا سينا؟ خبرني.
سينا :
بلى، إنك لمنتظر، أي رجل أنت يا كاسياس لو استطعت أن تستميل إلينا النبيل بروتاس فتضمه إلى حزبنا!
كاسياس :
اطمئن من هذه الناحية وأرح نفسك يا سينا، وخذ هذه الرقعة فضعها على كرسي القضاء، فإنها واقعة لا محالة في يد بروتاس، ثم اقذف بهذه خلال نافذته، وألصق هذه بالشمع على تمثال سلفه «يونيوس بروتاس»، فإذا ما فرغت من كل هذا فعد إلى باب بومبي تجدنا به، أهنالك ديسياس بروتاس وتريبونياس؟
سينا :
كلهم ما عدا ميتيلاس سمبار، فلقد ذهب يلتمسك في دارك، وبعد فإني مسرع فواضع هذه الأوراق حيث أمرتني.
كاسياس :
متى ما صنعت ذلك فارجع إلى مكان بومبي. (يخرج سينا) .
هلم بنا يا كاسكا، سنتمكن على أي حال من لقاء بروتاس قبل الشروق في داره، لقد استحوذنا الآن على ثلاثة أرباع نفسه وفي المقابلة الآتية نتملكه بأسره.
كاسكا :
إن له في صدور القوم المكانة العليا، وما يرونه الناس إثما منا وجناية فتحبيذ بروتاس يحيله في رأيهم فضيلة ومحمدة كالكيميائي يرد المعدن الخبيث ذهبا إبريزا.
كاسياس :
لقد أحطت علما بكنه هذا الرجل وبفضله وفرط حاجتنا إليه، فلنوقظنه قبل الشروق ثم لنضمنه إلينا. (يخرجان)
الفصل الثاني
المنظر الأول (روما: بستان بروتاس) (يدخل بروتاس)
بروتاس :
لوسياس! إنه ليتعذر علي أن أتعرف من مسرى الكواكب أين نحن الآن من مطلع الشمس؟ أي لوسياس، ليتني مثلك نومة، متى يا لوسياس! انتبه! ويحك يا لوسياس! (يدخل لوسياس.)
لوسياس :
أناديتني يا مولاي؟
بروتاس :
أحضرني شمعة بمكتبتي يا لوسياس، ومتى أشعلتها فوافني ها هنا.
لوسياس :
سأفعل يا مولاي.
بروتاس :
ذلك لا يكون إلا بموته، على أني لا أعرف من نفسي دافعا شخصيا يدفعني إلى نبذه واحتقاره، وإنما من أجل الصالح العام، إنه يريد أن يتوج، فإلى أي حد سيغير هذا الأمر طباعه وينكر خلاله؟ هذا هو المشكل، إن ضوء النهار المشرق هو الذي يستخرج الأفعوان
1
من مكمنه، وعندئذ يحسن بكل امرئ أن يتصون ويتحرز.
2
أتبغون تتويجه؟ لئن فعلتم ذلك لقد زودتموه بمثل إبرة العقرب يصول بها أذى ونكاية متى شاء، إن آفة السيطرة تكون حينما تفرق بين الرحمة والسلطة وتجرد المقدرة من الرأفة. والحق أقول عن قيصر، إني ما عهدته قط قد غلب هواه عقله أو رجحت بحجاه شهواته، ولكن التجارب دلت على أن التواضع هو سبيل المطامع في عهدها الأول والسلم المعرج بالصاعد الطموح إلى ذرا العلماء، فإليه يلجأ المتسلق وإليه يرفع وجهه ويسمو ببصره، حتى إذا ما تسنم عليا درجاته وتذرى ذؤابته ولاه دبره وأقبل يرمق السحاب مستهينا بالسلم الذي بلغ به ما بلغ. وكذلك قد يقع من قيصر؛ فمحاذرة لوقوع ذلك ينبغي المبادرة إلى منعه والحيلولة دونه. وإذ كنا لا حق لنا في شن الغارة على قيصر ما دام على حاله الراهنة، فلننظر إلى الأمر من الوجهة الآتية: إنه إذا تجاوز قدره الحالي رفعة وعلاء أمعن في الغلواء والطغيان إلى كيت وكيت، فهبه بيضة الأفعى متى فقست، فهي لا محالة صائرة إلى طبيعة بنات جنسها نكرا وخبثا، فاقتلها في البيضة. (يعود لوسياس.)
لوسياس :
الشمعة موقدة في حجرتك يا مولاي، وبينما كنت أتلمس ثقابا بالنافذة عثرت على هذه الرقعة (يعطيه رسالة)
مختومة كما ترى، واعتقادي أنها لم تكن بذلك الموضع حينما ذهبت إلى مضجعي.
بروتاس :
انقلب إلى مضجعك، فلما يطلع النهار.
3
أليس غدا منتصف مارس يا غلام؟
لوسياس :
لا أدري يا مولاي.
بروتاس :
انظر في التقويم ونبئني.
لوسياس :
سأفعل يا مولاي. (ينصرف)
بروتاس :
إن الشهب
4
والنيازك
5
ذات الحفيف
6
والدوي
7
لتبعث من الضياء ما يمكنني من قراءة الرسالة (يفض الرسالة ويقرأ) .
بروتاس: إنك لفي رقدة، انتبه وانظر إلى نفسك، أيليق أن تظل روما ... إلخ إلخ؟! تكلم، اضرب، أنقذ! بروتاس، إنك لفي رقدة، تيقظ!
لقد كثر ما ألقيت علي أمثال هذه المحرضات، فأصغيت إليها ووعيتها: «أيليق أن روما ... إلخ إلخ؟!» هذه إشارات مقتضبة ولمحات دالة وكلمات مبتورة، وعلي أن أصل مقاطعها وأملأ فراغها؛ ليطرد سياقها وينجلي معناها هكذا: أيليق أن تظل روما على رهبة من رجل فرد؟ ما خطبك يا روما؟ وماذا دهاك؟ إن أسلافي هم
8
طردوا من أكناف روما «طرقوين» حينما لقب ملكا. «تكلم، اضرب، أنقذ؟» أيرجونني أن أتكلم فأضرب؟ أي روما، إني أعدك إذا كانت العاقبة إنقاذك ورفع مظالمك لا يحزن كل ما تطلبينه. (يرجع لوسياس.)
لوسياس :
مولاي، قد خلا من مارس أربعة عشر يوما. (نقر من الداخل.)
بروتاس (إلى الباب) :
طارق يقرع (يخرج لوسياس) .
لم أذق نوما منذ بدأ كاسياس يحرضني على قيصر، إن فترة ما بين الشروع في عمل مرهوب، وبين أول دافع نفساني إليه وباعث وجداني عليه لأشبه شيء بالحلم المفزع المزعج، وإذ ذاك تظل القوى الفكرية والجثمانية في مؤامرة ومشاورة، ويروح الإنسان وكأنه دولة مصغرة تكابد من حاله تلك الثورة والفتنة. (يرجع لوسياس.)
لوسياس :
مولاي، إن صهرك كاسياس بالباب يبغي لقاءك.
بروتاس :
هل هو وحده؟
لوسياس :
كلا يا مولاي، بل معه آخرون.
بروتاس :
أتعرفهم؟
لوسياس :
كلا يا مولاي، إن قلانسهم مسدلة على آذانهم، ووجوههم إلى الأنصاف مكفورة
9
تحت برانسهم، ومن ثم أعيي علي أن أستبين ملامحهم لأتعرف صورهم.
بروتاس :
دعهم يدخلوا (يخرج لوسياس) .
أولئك هم المتآمرون، أيتها المؤامرة أتخجلين أن تبرزي جبهتك الربداء
10
في غياهب الليل عند منبث عوامل السوء، وتفشي كل آفة منكرة وسوءة خبيثة؟ فليت شعري إذا طلع عليك النهار وسطع على عوراتك ضياؤه، أين تجدين من الغيران والكهوف ما يستطيع أن يخفي صورتك الشنعاء بظلمته، ويخبئ طلعتك النكراء في غيابته؟
11
لا تبتغن مخبأ أيتها المؤامرة ولا تلتمسن مستترا، ولكن احجبي وجهك البشع المخوف بخمار البشر والبشاشة؛ لأنك إن برزت في سحنتك الحقيقية فلن يسترك عن مستشف النظرات الثقابة قعر الجحيم بحالك ظلماته. (يدخل كاسياس وكاسكا وديسياس وسينا وميتالاس سمبار وتريبونياس.)
كاسياس :
لشد ما اجترأنا على إقلاق راحتك، عم صباحا بروتاس، أترانا كدرنا صفوك؟
بروتاس :
لقد ثرت من الفراش منذ ساعة وأمضيت الليل كله سهرا.
أأعرف من معك الآن من هؤلاء الرجال؟
كاسياس :
تعرفهم جميعا، وليس فيهم إلا من يكبرك ويجلك، وكلهم يود لو عرفت من رفعة قدرك وعظم خطرك ما يعرفه عنك كل شريف من أبناء روما، هذا تريبونياس.
بروتاس :
مرحبا به.
كاسياس :
وهذا ديسياس بروتاس.
بروتاس :
مرحبا به أيضا.
كاسياس :
وهذا كاسكا وهذا سينا وهذا ميتلاس سمبار.
بروتاس :
مرحبا بهم أجمعين.
أي هموم وأكدار تجافت بجنوبكم عن وثير المضاجع، ونفرت عن عيونكم سرح الكرى؟
12
كاسياس :
أتأذن لي أن أبثك كلمة على انفراد؟ (بروتاس وكاسياس يتهامسان ناحية.)
ديسياس :
هذا هو الشرق، أليس من ها هنا يلوح الفجر؟
كاسكا :
كلا.
سينا :
معذرة سيدي، إنه لكذلك، وهذه الخطوط الشهباء
13
المشتبكة على حواشي السحاب، هي تباشير الصباح.
كاسكا :
ستقران بأنكما خدعتما جميعا، فهنالك حيث أشير بصارمي تشرق الشمس؛ أي تلقاء الجنوب، وهذا لحداثة عهد العام، وبعد شهرين من الآن يذر قرن الشمس من تلقاء الشمال، أما الشرق فها هو أمامكم عند الكابيتول.
بروتاس :
أعطوني أيديكم فردا فردا.
كاسياس :
ولنقسم على صدق إنجاز مهمتنا.
بروتاس :
لا حاجة بنا إلى القسم إذا كانت آيات الحزن البادية على وجوه مواطنينا، وما يحز في صدورنا من لذعات الكمد والجوى وما نراه حولنا من مساوئ هذا العصر وآفاته لا يكفي لاستنارتنا واستنفارنا ...
إذا كانت كل هذه العوامل ضعيفة الأثر في نفوسنا، فانصرفوا لتوكم وساعتكم وليهرع كل امرئ إلى فراش الكسل ووثار الدعة والراحة، ودعوا الجبروت المشرئب الجيد الطامح البصر يمشي في الأرض مرحا، ويعيث في أنحائها فسادا حتى يهوي كل إلى مصرعه كما شاء القدر.
أما إذا كانت هذه العوامل - كما أثق وأعتقد - خليقة لفرط شدتها أن تشعل الحمية في صدور الجبناء، وتبعث الجرأة والحماسة في منخوب أفئدة النساء ،
14
فأي دافع خلاف قضيتنا نحتاج ليحفزنا إلى كشف ظلاماتنا والانتصاف لأنفسنا؟ أي عهد وميثاق أوكد وأمتن من أننا عصبة من الرومان، كتامون للأمور، حصرون
15
بالأسرار أشحاء، قد لفظنا بكلمة لا مناص منها، ولا محيد، ولا متنكب، وأي قسم خلاف الوعد الشريف تزلفه الأمانة للأمانة والمروءة للمروءة. إن هذا الأمر لا بد أن ينفذ أو لنهلكن في سبيله. دع الحلف والقسم للقساوسة والجبناء والمكرة الخداعين، ومن لا خير فيهم ولا غناء عندهم من الخورة الضعاف المتحطمين هرما والأوغاد
16
الأنكاس
17
والخشع
18
الأذلاء: الراغمي الأنوف، حملة الضيم ورهائن الخسف. دع الحلف والقسم لذوي الريبة المتهمين في كرامتهم، المشكوك في صحة مروءتهم الذين لا يمتون إلى الحق بسبب، ولا يعتصمون منه بعروة، ولا تزرين بجلال مشروعنا، ولا تلوثن نقاء صفحته، كلا، ولا تغضن من وهج حماستنا المتقدة. بحسبانك أن مهمتنا أو صدق إنجازها في حاجة إلى مقسم - وأنت تعلم أن كل قطرة دم زكي تتدفق في شرايين كل روماني، ستناقض كرم عنصرها، وتبوء بالخسة والصغار إذا نقض صاحبها مثقال ذرة من وعد وعده.
كاسياس :
ولكن ما بال شيشيرون وماذا نصنع معه؟ أنسبر غوره؟ لعله سيتمسك بسببنا ويبالغ في تأييدنا.
كاسكا :
أولى لنا ألا نهمله.
سينا :
كلا، لن يكون ذلك أبدا.
ميتالاس :
حبذا لو نضمه إلينا، إن لمته البيضاء لتكسبنا جميل الذكر وحسن السمعة، وتحمل الناس على تزكية فعالنا، واستحسان أعمالنا؛ إذ يقولون: إن حكمته وفطنته قد عصمتنا من الزلل، وأنارت لنا سبل الهداية، وسددت أعمالنا إلى وجوه الصواب، وهيأت لنا من أمرنا رشدا، إن ما بنا من نزق الصبا ورعونة الشباب سيخفى عن الأبصار متى استتر تحت حواشي رزانته وحلمه.
بروتاس :
ألا لا تذكروه ولا تدعونا نبوح له بما هنالك؛ لأنه لن يتبع قط ما يقترحه غيره ولا يركب خطة سنها سواه.
كاسياس :
أهملوه إذن.
كاسكا :
الواقع أنه لا يصلح.
ديسياس :
أفلا يمس إنسان ما سوى قيصر؟
كاسياس :
قول محكم يا ديسياس، ورأيي أن مارك أنطانيوس أحب امرئ إلى قيصر لا يصح أن يعيش بعده، فسنصادف فيه داهية عظيم الكيد، لطيف التدبير، خبيث الحيلة، وأنتم تعلمون أن له همما، إن بذل أقصاها كانت خليقة أن تؤذينا جميعا؛ فاتقاء لذلك يجب أن يهلك قيصر وأنطانيوس معا.
بروتاس :
سيرانا الناس سفاكين سفاحين إذا نحن حززنا الرأس ثم أتبعناه الذراع، كمن يظهر عند القتل حنقا وغيظا، ثم يبدي إثر ذلك حقدا وغلا؛ لأن أنطانيوس إن هو إلا إحدى جوارح قيصر، فلنكن مضحين لا قصابين يا كاسياس، إنما نثور جميعا على روح قيصر، وروح الإنسان لا دم فيها، فيا ليت في استطاعتنا أن نستحوذ على روح قيصر دون أن نضطر إلى تمزيق أشلائه! ولكن قيصر - وا أسفاه - لا بد أن يدمى جراء ذلك، فيا إخواني النبلاء أحرى بنا أن نستشعر في قتله الجرأة والمضاء لا الغيظ والحنق، دعنا نفتلذه كأنه طعمة تزلف للآلهة لا رمة تلقى للكلاب الصائدة، ولتكن قلوبنا كالمكرة من الزعماء تستثير خدامها
19
للعمل العنيف المفظع، ثم ترى بعد ذلك كأنها تلومها وتعنفها، هذه الطريقة ستبرئ عملنا من تهمة الإجرام، وتثبت للملأ أننا مدفوعون بعامل الاضطرار لا عامل الغل والضغينة، وإذ ذاك نعد في رأي الجمهور مطهرين «ننقي أديم الأرض من وصمة الاستبداد» لا قتلة سفاحين. أما من جهة مارك أنطانيوس، فلا تبالوا به ولا تحسبوا له حسابا، فسوف لا يكون له من الحول والقوة إلا كما يكون لذراع قيصر بعد حز رأسه.
كاسياس :
على أني أخافه وأخشاه؛ لأن الراسخ المتأصل في قلبه من محبة قيصر ...
بروتاس :
وا رحمتاه! لا تشغل به بالك يا كاسياس، فلئن كان يحب قيصر فقصاراه أن يأسى عليه فيموت كمدا، وبحسبه أن يصنع ذلك؛ فإنه أخو لهو ولعب، مولع بمجالس الشراب والقصف.
تريبونياس :
إنه لا خوف منه ولا خشية فلا تقتلوه، فلسوف يبقى ثم يضحك من هذه الحوادث فيما بعد. (تدق الساعة.)
بروتاس :
صه! عد الساعة.
20
كاسياس :
لقد دقت الساعة ثلاثا.
تريبونياس :
لقد آن أن ننصرف.
كاسياس :
ولكننا لا ندري أيخرج قيصر اليوم أم لا؟ فلقد آض منذ قريب يعتقد بالخرافات على خلاف رأيه الثابت القديم في الخيالات والأحلام والفأل، فلعل هذه الآيات البينات من أهوال هذه الليلة الخارقة، وأقاويل أتباعه من العرافين
21
والمنجمين وأصحاب الزجر
22
والكهانة
23
والعيافة
24
ستقعده اليوم عن شهود الكابيتول.
ديسياس :
لا تخش هذا، ولئن عزم عليه قيصر لأحولنه عن عزيمته، إن قيصر لمولع بتحديثك إياه عن سهولة انخداع الناس، وغرورهم بزخرف القول، وزبرجه حتى لقد يسهل عليك خدعه بهذه الحيلة؛ إذ تشغله بمثل هذه الأحاديث عن أن يأخذ منك الحذر، فتبدو لك مقاتله، وتصيب منك الغرة فتخدعه، إنه ليحب أن تحدثه كيف تتخذ الأشجار حبائل
25
لثيران الوحش، والمرايا أشراكا
26
للذباب، والزبى
27
للفيلة والشباك للأسود والملق للرجال، ولكني إذا حدثته عن فرط كراهته للملق وأربابه، فأجابني أن هذا طبه
28
ومذهبه، كنت في الحقيقة والواقع أتملقه، وكان هو يغتر بملقي وينخدع بزخارفه، فدعني أعالج لكم قيصر وأمارسه، وأنا الكفيل بخديعته؛ لأني قدير على تصريف أعنة ميوله وأهوائه وتوجيهها كيف أشاء، ولسوف أحدوه إلى الكابيتول.
كاسياس :
سنكون كلنا هنالك للقائه.
بروتاس :
الساعة الثامنة، أهذا أقصى مدى؟
سينا :
ليكن ذلك أقصى مدى فلا تقصرن دونه.
ميتيلياس سمبار :
إن كاياس ليجارياس لحاقد على قيصر مذ عنفه على تقريظه بومبي، فوا عجبا كيف أغفلتم ذكره؟!
بروتالباس :
اسمع يا ميتلياس، اذهب فمر بداره، إنه ليحبني كثيرا بما سبق مني إليه من أسباب العطف ودواعي المودة، فابعثه إلي، وأنا الضمين أن أستدرجه لحزبنا وأهيئه لقبول مشروعنا.
كاسياس :
لقد تنفس علينا الصباح، فسندعك الآن يا بروتاس، وأنتم معشر الخلان تفرقوا، ولكن اذكروا ما قلتم، واصنعوا صنيع أشراف الرومان وأحرارهم.
بروتاس :
تظاهروا بالنشاط والسرور ولا تدعوا هيئتكم وسيماكم تنمان عن نوايانا وأغراضنا، ولكن اظهروا بمظهر الممثلين الرومانيين، وتشكلوا أشكالهم، ومثلوا دوركم بجأش رابط، وعزم ثابت، وأتم رزانة ووقار، وعموا صباحا أجمعين. (يخرجون كلهم ما عدا بروتاس.)
لوسياس :
يا غلام! تغط في نومك! لا بأس عليك، تلذذ بحلو مذاق النعاس، ومعسول طله الغزير، وأندائه الثرة المتحلبة؛ فلأنت خلو من التصورات، وطمحات الخيال الثائر مما يبتلى به الرجال جراء الهموم الناصبة والكرب الكاربة، ومن ثم نومك الهادئ العميق. (تدخل بورشيا.)
بورشيا :
بروتاس، سيدي!
بروتاس :
ماذا تريدين؟ وفيم قيامك الساعة؟ لقد يؤذي بدنك الموهون الأسر الواهي القوى أن تستهدفي لنفحات الصباح القارسة.
بورشيا :
وقد يؤذي ذلك بدنك أيضا، لقد تسللت من فراشي بلا رفق ولا حنان، وأمس ونحن على مائدة العشاء ثرت من مجلسك بغتة، وطفقت تجوب أنحاء الحجرة مطرقا مفكرا، تتنفس الصعداء مضموم الذراعين إلى صدرك، ولما سألتك ما خطبك؟ رميتني بنظرات حداد، وألحاظ خشنة قاسية، فألححت عليك، فحككت رأسك، وضربت بقدمك الأرض ضربة القلق المتضجر، ثم لججت عليك تسآلا، فلججت أنت صمتا وحصرا، ولكنك أومأت إلي بيدك إيماء الحنق الغضوب أن أدعك وشأنك، فانصرفت عنك خيفة أن أستزيد غضبك الذي كان يأتج ويتوهج ورجوت أن تكون إحدى سورات النفس وثورات الخاطر التي لا يخلو امرؤ قط من نوباتها في الأحايين، ثم لا تلبث أن تزول. ولقد منعتك الأكل والكلام واللوم، ولو أثرت في صورتك مثلما أثرت في مزاجك لما استطعت أن أعرفك يا بروتاس، سيدي العزيز أطلعني على سبب همك وحزنك.
بروتاس :
ليس بي سوى اعتلال في صحتي، ذلك كل ما بي.
بورشيا :
إن بروتاس لا ريب عاقل، فلو كان خطبه العلة لبادر إلى أسباب شفائها.
بروتاس :
وكذلك أفعل، اذهبي إلى فراشك يا بورشيا الكريمة البارة.
بورشيا :
إذا كان بروتاس عليلا، فهل من وسائل البرء والشفاء أن يسير مفكوك الأزرة، عاري الصدر، يتشرب بلل الصباح المطلول ورطوبته؟! عجبا! أيكون بروتاس عليلا، ثم أراه ينسل من فراشه الوثير ليكافح أوبئة الليل الخبيثة، ويتصدى للهواء الملوث الوخيم المغبة ليزيد علته ويضاعف مرضه؟ كلا يا بروتاس، إن في ذهنك لعلة قد حق لي أن أعرفها بحرمة مكانتي منك ومنزلتي، وإني أركع بين يديك أستحلفك بما كان لي مرة من الحسن والملاحة وبعهود حبك ومواثيق ودادك، وبتلك اليمين العظمى والعروة الوثقى
29
التي كانت قد مزجتنا معا وصيرتنا فردا واحدا - أن تبوح لي أنا ذاتك بل نصفك
30
بدواعي همك وغمك وإطراقك، وما قد فدحك من أعباء الشجن والشجا، وبأسماء من ألم بك الليلة من الرجال؛ لأني رأيت الليلة هنا ستة رجال أو سبعة قد التثموا يخبئون وجوههم من ظلمة الليل ذاته.
بروتاس :
لا تركعي يا بورشيا البرة الكريمة.
بورشيا :
ما كان بي إلى الركوع من حاجة لو كنت بروتاس البر الكريم.
خبرني بروتاس، ترى عقد الزواج يقضي بأن لا أطلع قط على سر من أسرارك، أأنا نفسك وذاتك ولكن إلى حد ما وبقدر ما، وجل عملي عندك أن أكون أنس مائدتك، ومتعة فراشك، وسمر خلوتك أحيانا؟! أفلا أنزل منك إلا بالأطراف والحواف والحواشي كما تشاء وتشتهي؟! إذا كان هذا كل حظي منك ونصيبي من عشرتك، فأنا أحرى أن أسمى مومس بروتاس لا زوجته.
بروتاس :
لأنت زوجتي الحرة الصادقة الكريمة، ولأنت أعز علي من روحي الذي بين جنبي، ومن القطرات القانية الموردة
31
التي تتدفق في قلبي الحزين.
بورشيا :
إذا كان ذلك حقا لقد وجب أن أعرف هذا السر، أنا أسلم بأني امرأة، ولكن امرأة اختارها السيد الجليل بروتاس زوجة.
أنا أسلم بأني امرأة، ولكن امرأة طيبة الذكر والسمعة، وابنة «كاتو»، أتراني - وأبي من ذكرت وزوجي أنت - لا أفوق سائر النساء قوة وبأسا؟ أطلعني على مكنون أمرك ومخبوء سرك، فما كنت قط لأفشيه، ولقد رضت نفسي على احتمال المكاره والصبر على الشدائد، فجرحت نفسي جرحا في فخذي هذه، أفأصبر على احتمال هذا ثم أضيق ذرعا بأسرار زوجي؟!
بروتاس :
أيتها الآلهة اجعليني أهلا لهذه الزوجة الكريمة؟ (دق من الداخل) .
اسمعي! اسمعي! قارع بالباب، البثي قليلا داخل البيت يا بورشيا، وبعد برهة أجعل صدرك وعاء لسري، وأطلعك على جميع أمري، وعلى كل ما هو مسطور على جبيني الشاحب أسى وحزنا، اتركيني على عجل (تخرج بورشيا) (يدخل لوسياس وليجارياس) .
من ذا الذي يقرع يا لوسياس؟
لوسياس :
هذا رجل مريض يود لو يحادثك.
بروتاس :
كاياس ليجارياس الذي حدثنا عنه ميتالاس! انتبذ منا ناحية
32
يا غلام. كاياس ليجارياس كيف كان هذا؟
ليجارياس :
تقبل التحية من لسان كليل.
بروتاس :
أي وقت قد اخترت؟ وأي فرصة انتهزت؟ لقد وافيتنا في أشد حاجتنا إليك يا ليجارياس الباسل المقدام.
إن من البلية أن تعصب رأسك بمنديل
33
ليتك لم تكن مريضا!
ليجارياس :
ما بي قط من مرض ولا علة إذا كان بروتاس يهم بأمر جلل نبيل ويروم خطة حميدة مجيدة.
بروتاس :
بمثل هذا الأمر والخطة أهم اليوم يا ليجارياس، لو أن لك أذنا صحيحة سليمة تأذن إلي وتصغي.
ليجارياس :
بحق من تسجد له روما من الآلهة والأرباب، لأطرحن مرضتي ولأنبذن علتي، أي بروتاس! يا روح روما، ويا دم شريانها، ويا منبع حياتها وقوتها، ومصدر مضائها وهمتها، يا نجلها الأروع الشجاع، ويا فتاها الشهم الجريء، سلالة الأسد الغضافرة، والليوث القساورة، لأنت كالراقي
34
المعوذ، قد سللت دائي وجددت عزمتي ومضائي وأمت علتي وأحييت همتي، فمرني الآن أن أعدو فسأساور القحم والأهوال، وسأحاول المتعذر والمحال، بل لأستعلين عليه وأتغلب. ما الذي يرام ويبتغى؟
بروتاس :
عمل يترك المرضى أصحاء.
ليجارياس :
ولكن أليس ثمت من بين الأصحاء من يجب علينا إمراضهم؟
35
بروتاس :
هذا واجب، سأنبئك بالأمر المراد أثناء مسيرنا إلى من نريده به ونتوخاه.
ليجارياس :
هلم بنا فإني تابعك ومشايعك بقلب قد أشعلت فيه جذوة الحمية؛ لأصنع أقصى ما يحاول من المشاق والمصاعب، فحسبي أن بروتاس رائدي وقائدي.
بروتاس :
اتبعني إذن.
المنظر الثاني (روما: غرفة في قصر قيصر) (رعد وبرق، يدخل قيصر في رداء النوم.)
قيصر :
لم ير الليلة هدوء ولا سكينة لا في الأرض ولا في السماء، ولقد صاحت كالبورنيا في نومها ثلاثا: «الغياث والمدد إنهم يقتلون قيصر!» من في الداخل؟ (يدخل خادم.)
الخادم :
مولاي.
قيصر :
اذهب فمر الكهنة أن يقدموا في الحال قربانا للآلهة، ثم آتني برأيهم عن نجاح المسعى.
الخادم :
سأفعل يا مولاي. (يخرج) (تدخل كالبورنيا.)
كالبورنيا :
ماذا تبغي يا قيصر؟ أتريد أن تخرج اليوم؟! لن تبرح اليوم منزلك.
قيصر :
سيبرح قيصر داره، إن ما تهددني من أمارات النحس والشؤم، ومن نذر الشر والنكال، لم يبصر مني سوى قفاي، فإذا ما أبصرت وجهي تلك النذر المتوعدة والأفؤل
36
المتهددة ريعت مهابة فتولت فرارا، وطاحت جبارا.
كالبورنيا :
أي قيصر، ما كنت قط ممن يأبه للفأل والطيرة، ولكني أصبحت اليوم أتشاءم وأتطير وتروغني وتفزعني أمارات النحس ودلائله. إن بداخل القصر لامرأ يحدثنا - خلاف ما سمعناه وشاهدناه الليلة - بأمور منكرة ومشاهد رائعة مفزعة أبصرها الحارس: لبؤة نتجت أشبالا بالشوارع، وقبور تفتحت ولفظت رفاتها ورممها، وجنود ثائرة محتدمة تتكافح على السحاب وتتذابح صفوفا، وفيالق على أساليب الحروب ونظمها، وتقطر دما على «الكابيتول»، ورحى القتال دائرة، وللوغى ضجيج وجلجلة بين أنين جريح محتضر، وصهيل سابح طمر،
37
وبين هذا وذاك عزيف الجان ودويها في ثنايا الطرق.
أي قيصر! كل هذه الأشياء خارقة للعادة، وأراني بمخافتها وخشيتها جديرة.
قيصر :
لا مناص مما جرت به الأقدار من أحكام الآلهة، وعلى الرغم من ذلك فسيخرج قيصر؛ لأن هذه الأفؤل والنذر ليست موجهة إلى قيصر وحده بل إلى العالم أجمع.
كالبورنيا :
إذا حانت آجال الصعاليك، وحم
38
حمامهم لم تظهر الكواكب المذنبة نذيرا بذلك، فإذا حان هلك السادة والأمراء أبرقت بذلك السموات إيذانا وإعلانا.
قيصر :
إن الجبناء ليموتون مرارا قبل آجالهم، أما الشجعان فلا يذوقون الموت إلا مرة واحدة، إن من بين ما سمعت به من العجائب لم أر قط أعجب ولا أغرب من استيلاء الخوف على الرجال، فإن الممات وهو الغاية المحتومة والنهاية المقدرة المحمومة لا بد متى آن أن يأتي (يعود الخادم) .
ماذا يقول المنجمون والعرافون؟
الخادم :
إنهم لا يشيرون بخروجك اليوم، لقد انتزعوا أحشاء ذبيحة فلم يجدوا بجوفها فؤادا.
قيصر :
إنما فعلت الآلهة ذلك لتخجل الجبناء. لقد كان قيصر حيوانا بلا فؤاد لو أقام في داره اليوم رهبة وخوفا. كلا ما كان قيصر ليفعل ذلك، إن الروع ليعلم يقينا أن قيصر منه أروع، ويعلم الخطر أن قيصر منه أخطر، والهول أن قيصر منه أهول، فأنا والخطر صنوان وتوءمان، رضيعا لبان، وشريكا عنان، وإني وإياه ولدنا في ساعة واحدة، وأنا أسن الشبلين وأشنعهما، فقيصر من أجل ذلك منطلق.
كالبورنيا :
وا حسرتاه يا سيدي! إن ثقتك بحصانة نفسك ، وفرط يقينك بمناعة مقاتلك من بغتات الخطر وهجماته، قد ذهبت بحكمتك وطاحت بفطنتك، لا تخرج اليوم وقل بعد ذلك أن الذي حجزك وأقعدك هو خشيتي لا خشيتك، ولنبعث بأنطانيوس إلى دار الشيوخ ينبئ بأنك اليوم منحرف المزاج.
إني لأضرع إليك جاثية أن تجيبني إلى هذا؟ وتغلب فيه مشيئتي على مشيئتك.
قيصر :
فليقولن أنطانيوس إني منحرف المزاج، وإني مجاراة لك ومتابعة لرغبتك، سأظل اليوم بالمنزل (يدخل ديسياس) .
هاك ديسياس بروتاس، فليكن هو مبلغ القوم ذلك.
ديسياس :
حيتك الآلهة يا قيصر! عم صباحا أيها الأمين قيصر! لقد جئتك لأمضي بك إلى دار الشيوخ.
قيصر :
وقد جئت في الحين المناسب لتحمل إلى الشيوخ تحيتي وتخبرهم أني لن آتيهم اليوم، أنبئهم بذلك يا ديسياس.
كالبورنيا :
قل: إنه مريض.
قيصر :
أو يبعث إليهم قيصر بأكذوبة؟ أفبعد إمعاني في الغزو، وإيغالي في أقاصي الأرض فتحا وامتلاكا، وسعة باعي، وطول ذراعي في الحروب والوقائع - أخاف أن أنطق بالحق لفئة من الشيوخ الشيب. ديسياس، اذهب إليهم وخبرهم أن قيصر لن يحضر.
ديسياس :
أي قيصر الأجل الأعظم! أبن لي علة وسببا لئلا يضحكون مني هزأ وسخرية حين أبلغهم مقالك هذا؟
قيصر :
لا سبب ولا علة سوى مشيئتي ألا أحضر، وفي هذا مقنع لمجلس الشيوخ وعلة شافية، ولكني مراعاة لإقناعك أنت، وإرضائك لحبي إياك، ومكانتك عندي أعلمك الحقيقة، إن زوجتي هذه كالبورنيا هي التي تحجزني بالمنزل، لقد أريت فيما يرى النائم أنها أبصرت تمثالي يتفجر دما قانيا كأنه فوارة ذات مائة فوهة، وأبصرت فئة من أقوياء الرومان وصلابهم قد أقبلوا باسمين، فغمسوا في تلك الدماء أيديهم، وهي ترى في هذا فأل نحس وشؤم ونذير محنة وبلاء، ولقد جثت بين يدي، فتضرعت إلي أن أثوي اليوم بالمنزل.
ديسياس :
لقد أساءت تأويل هذه الرؤيا، وإنه لحلم سعيد ميمون العواقب، إن تمثالك المنبجس بالدم من فوهات عدة حوله فتية عدة من الرومان باسمة ثغورهم، بارقة أسرتهم، يغمسون في ذلك الدم المهراق أكفهم - كل ذلك يدل على أن روما المجيدة ستستمد منك دم الحياة المجدد لنشاطها المنعش لقوتها، وإن عظماء الرجال سيتهافتون على دمك، فيغمسون فيه مناديلهم ليتخذوا منها - مصبوغة بحمرته - آثارا قيمة، ومخلفات نفيسة، وشعار شرف، ورموز رفعة وجلال يحتفظون بها ويفاخرون آخر الأبد، هذا تأويل حلم كالبورنيا.
قيصر :
وما أحسن ما أولته وفسرته!
ديسياس :
سيتبين لك حسن تأويلي وصدق تفسيري متى سمعت ما جئتك به الساعة من النبأ.
لقد أجمع اليوم مجلس الشيوخ على أن يهب قيصر العظيم تاجا، فإذا أبلغتهم أنك غير قادم فقد يعدلون عن هذه النية، ولرب معترض يقول منددا: «فضوا مجلس الشيوخ إلى حين، ثم لا تعقدوه حتى يتاح لامرأة قيصر أحلام أسعد وأيمن»، أإذا اختبأ قيصر أما كان للقوم أن يتهامسوا قائلين: ويح قيصر لقد جبن فزعا، ونكل رهبة وهلعا، معذرة قيصر، إن فرط عنايتي بكل ما يهمك من شئونك هو الباعثي على خطابك بمثل هذا المقال، وذهني بإبداء النصيحة مؤتمر بوحي محبتي وولائي.
قيصر :
لشد ما ظهر الآن بطلان مخاوفك يا كالبورنيا! ليخجلني - والآلهة - أني أذعنت بسببها إليك، أحضريني طيلساني فإني ذاهب (يدخل بوبلياس وبروتاس وليجارياس وميتالاس وكاسكا وتريبونياس وسينا) .
وانظري إلى بوبلياس إذ جاء يبغيني.
بوبلياس :
عم صباحا قيصر.
قيصر :
مرحبا بك يا بوبلياس.
وأنت يا بروتاس ما أسرع ما بكرت أيضا! عم صباحا يا كاسكا، اصغ إلي يا كياس ليجارياس، إنك ما لقيت قط من قيصر عدوا هو ألد وأنكى مما أصابك من تلك الرعدة
39
التي أنحلتك وأبدت هزالك ... كم الساعة؟
بروتاس :
لقد دقت ثماني يا قيصر.
قيصر :
إني أشكر لك عنايتك وحفاوتك (يدخل أنطانيوس) .
انظروا إلى أنطانيوس كيف يبكر بعد سهره طوال الليل لهوا وقصفا! عم صباحا أنطانيوس.
أنطانيوس :
عم صباحا قيصر.
قيصر :
مرهم يهيئوا مجلس الشراب داخل القصر ويعدوا آلاته، لقد أسأت بإطالتي انتظاركم إياي، سينا، ميتالاس! اسمع يا تريبونياس، أريد أن أحادثك ساعة من الزمن، فلا تنس أن تلقاني اليوم وكن مني على مقربة حتى لا أنساك.
تريبونياس :
سأفعل يا قيصر، (على انفراد)
سأدنو منك دنوا يذم عقباه صفوة خلانك؛ إذ يتمنون لو أني كنت أبعد منك منزلة وأنأى مكانا.
قيصر :
ادخلوا معي أيها الخلان الكرام نرتشف حسوات من نبيذي، ثم نمض جميعا سوم
40
خلان الوفا وإخوان الصفا.
بروتاس (على انفراد) :
إن ما يخيل إليك كالأشباه والنظائر يا قيصر ربما كان في الحقيقة متناقضا مختلفا، وقد يكون المحالف في الظاهر مخالفا في الباطن، وقد تتنكر الكراهة في زي المودة، ويظهر العدو المبين في صورة الخل الأمين. (يخرجون)
المنظر الثالث (شارع على مقربة من الكابيتول) (يدخل أرتميدوراس - يقرأ رقعة.)
قيصر! حاذر بروتاس، اتق كاسياس، لا تدن من كاسكا، راقب سمبار، لا تأمن تريبونياس، لا تغفل عن ميتالاس سمبار، إن ديسياس بروتاس لا يحبك، واذكر أنك قد وترت كاياس ليجارياس، أولئك الرجال متحدون قلبا وقالبا، وكلهم على رأي واحد وعزم واحد؛ مناوأة قيصر، فما دمت تعلم أنك إنسان هالك فان غير باق ولا خالد، فتلفت حواليك وكن على حذر دائم، إن فرط الثقة تفسح المجال للمكيدة، وتخلي السبيل للدسيسة. كلأتك الآلهة بأعين الرعاية، ونشرت عليك أجنحة الحماية والوقاية.
لأقفن ها هنا حتى يمر بي قيصر، ثم لأقدمن هذه إليه كما يفعل ذوو الحاجات والمطالب، لشد ما يحزنني، ويدمي فؤادي أن أرى الفضيلة لا تسلم من شبا أنياب الحسد والمنافسة. أي قيصر! لئن قرأت هذا لجاز أن تنجو، وإلا فالأقدار مصطلحة مع الخونة متواطئة مع الغدرة.
أرتميدوراس (يخرج)
المنظر الرابع (روما) (موضع آخر من الشارع بعينه إزاء منزل بروتاس.) (تدخل بورشيا ولوسياس.)
بورشيا :
اسرع يا غلام إلى دار الشيوخ، لا تتريث لتجيبني، ولكن امض مسرعا.
فيم تلبثك؟
لوسياس :
لا أعرف مهمتي يا سيدتي.
بورشيا :
أحب أن تذهب إلى هنالك أولا ثم تعود قبل أن أنبئك بما يجب عليك أن تصنع هنالك، أيتها التؤدة والرزانة! الثبات، أيديني بقوة من لدنك، وآزريني بروح من عندك، وثبتي قدمي في هذه الزحلوقة الزل، وحصني جانبي في هذا الموقف الحرج، وحولي بين قلبي ولساني بمثل الشاهقة الشماء، وأقيمي بينهما شبه الهضبة الصماء، فلئن كان لي عقل الرجال فقوتي قوة النساء، ما أصعب كتمان السر على ربات الحجال؟! لا تزال ها هنا؟
لوسياس :
سيدتي ماذا تودين أن أصنع؟ أعدو إلى الكابيتول دون أن أعمل شيئا ما؟ ثم أرجع عودا على بدء وما عملت شيئا ما.
بروشيا :
آتني بنبأ عن حالة سيدي، أبخير هو؟ فلقد خرج منحرف الصحة، وانظر ما سوف يصنع قيصر، ومن سوف يعتريه من ذوي الحاجات.
صه يا غلام! ما هذه الضوضاء؟
لوسياس :
لا أسمع شيئا يا سيدتي.
بورشيا :
أرهف أذنك، لقد سمعت جلبة ولجبا كضوضاء معركة تحملها إلينا الريح من الكابيتول.
لوسياس :
حقا يا سيدتي، أنا لا أسمع شيئا البتة. (يدخل العراف.)
بورشيا :
تقدم يا هذا، أين كنت؟
العراف :
بمنزلي أيتها السيدة الكريمة.
بورشيا :
كم الساعة؟
العراف :
نحو التاسعة أيتها السيدة.
بورشيا :
ألما يمض قيصر إلى الكابيتول؟
العراف :
لم يمض بعد يا سيدتي، وإني لذاهب الساعة لأتخذ لي موقبا أشرف منه عليه أثناء مجازه إلى الكابيتول.
بورشيا :
إن لك لحاجة وبغية لدي قيصر، أليس كذلك؟
العراف :
بلى، إن لي لديه لحاجة يا سيدتي، إذا كان يسر قيصر أن يكون من البر بقيصر والحنان على قيصر بحيث يصغي إلى نصيحتي، فإني أبتهل إليه وأتضرع، أن يؤاخي قيصر ويؤازر قيصر.
بورشيا :
ولم ذاك؟
أتعلم أنه أصبح مستهدفا لأضرار ومخاطر؟
العراف :
لا أعلم عن شيء مؤكد، إنما عن أشياء جمة قد تحصل. وبعد، فعمي صباحا، أرى الطريق هنا ضيقة، وأحسب أن الجم الغفير والجمع المحتشد الذي سيغدو على عقب قيصر من الشيوخ والقضاء وذوي الحاجات، خليق أن يسحق ضعيفا مثلي سحقا، سألتمس مرقبا أوسع مجالا وأفسح كنفا أخاطب منه قيصر العظيم عند قدومه. (يخرج)
بورشيا :
لأدخلن خدري، ويلي ثم ويلي! ما أضعف قلب المرأة! أنجحت السموات مسعاك، وبلغتك مناك، لقد سمعني الغلام لا مشاحة، إن لبروتاس لدى قيصر لطلبة قد أبى قضاءها، إن نفسي لتتساقط وقد خارت
41
قواي، اعدون يا لوسياس فأقرأن
42
على بعلي السلام، وقل له: إني فرحة مسرورة ثم عد إلي فبلغني ما يقوله. (يخرجان كل على حدة .)
الفصل الثالث
المنظر الأول (روما: الكابيتول) (الشيوخ جالسين من فوق.) (جم غفير متكاثف من الناس في الشارع المؤدي إلى الكابيتول، من بينهم أرتيميدوراس والعراف. موسيقى، يدخل قيصر وبروتاس وكاسياس وكاسكا وديسياس وميتيلاس وتريبونياس وسينا وأنطانيوس وليبيداس وبوبيلياس وبابيلياس وغيرهم.)
قيصر (إلى العراف) :
لقد جاء منتصف مارس!
العراف :
أجل يا قيصر، ولكنه لم ينصرم بعد.
أرتيميدوراس :
سلام الآلهة وريحانها عليك يا قيصر، اقرأن هذه الصحيفة.
ديسياس :
إن تريبونياس يرغب إليك أن ترجئ قراءة رقعته هذه إلى وقت فراغك.
أرتيميدوراس :
أي قيصر، اقرأن صحيفتي أولا؛ لأنها أشد بك مساسا وأقرب سببا، اقرأنها يا قيصر الأجل الأعظم.
قيصر :
إن أولى بالإرجاء وأحق بالمهلة ما كان بنا أمس وإلينا أدنى.
أرتيميدوراس :
لا تتمهل يا قيصر، اقرأها لتوك وساعتك.
قيصر :
أبالرجل جنة؟!
بابلياس :
أخل السبيل وانتبذ جانبا يا رجل!
كاسياس :
ويحك، أتلح بعرائضك في الطرقات؟ انطلق بها إلى الكابيتول. (قيصر يصعد إلى دار الشيوخ، يتبعه سائر الجماعة.) (أعضاء المجلس يقفون كلهم إجلالا.)
بوبلياس :
وددت لو ينجح اليوم مسعاكم.
كاسياس :
أي مسعى يا بوبلياس؟
بوبلياس :
إلى الملتقى (يتقدم إلى قيصر) .
بروتاس :
ماذا قال بوبلياس لينا؟
كاسياس :
دعا لنا بنجاح مسعانا اليوم، أخشى أن يكون سرنا قد افتضح.
بروتاس :
انظر كيف يندفع نحو قيصر! راقب حركاته.
كاسياس :
كاسكا السرعة، السرعة! إنا لنخشى حبوط مسعانا، ماذا نصنع وكيف نسير يا بروتاس؟
إن هذا الأمر إن انكشف وظهر فلا بد أن يموت هنا فلا يرجع إلى داره أحد اثنين، أنا أو قيصر؛ لأني عزمت على الانتحار إن وقع هذا.
بروتاس :
تثبت واتئد يا كاسياس، إن بوبيلياس لينا لا يتكلم عن مشروعنا ومقصدنا، انظر إليه تجده يبتسم، ولا تجد أدنى تغير بوجه قيصر.
كاسياس :
إن تريبونياس ليعرف موعده وساعة عمله، ألا ترى إليه كيف يستدرج أنطانيوس ليخلي منه المجال؟ (يخرج أنطانيوس وتريبونياس ويأخذ قيصر والشيوخ مجالسهم.)
ديسياس :
أين ميتالاس سمبار؟ دعه يتقدم اللحظة إلى قيصر فيرفع إليه طلبه.
بروتاس :
إنه متأهب لذلك، تقدم فساعده.
سينا :
كاسكا! أنت أول من يرفع يده.
كاسياس :
أكلنا على تمام استعداد؟ ماذا هنالك من المساوئ يريد اليوم قيصر ومجلسه إصلاحه؟
ميتالاس :
قيصر يا ذا القوة والبطش والعظمة والجلال، إن ميتالاس سمبار ليطرح على سدة عرشك الرفيع قلبا خاضعا، وجنانا خاشعا.
قيصر :
إني أقاطعك يا سمبار، هذا الركوع والخشوع ربما استجاش الماديين من الناس واستخفهم، واستثار عواطفهم وحرك نفوسهم، فألغى الأحكام السابق نفاذها، ونسخ ما أبرمه القضاء والقانون فأحاله هراء ولغوا، لا تكن من الحماقة بحيث تحسب أن نفس قيصر المنيعة العصية، العاتية الأبية، التي لا تحتمل العصيان والتمرد، ترق وتلين وتحول عن طبيعتها من الشدة والصلابة، بما تتأثر به وتذوب له نفوس السفهاء والحمقى من حلو الكلام، ومن الملق والركوع والتخشع، إن أخاك قد نفي بحكم القانون، فإذا تضرعت وابتهلت وتخاشعت من أجله، فإني أرمحك من طريقي كما أرمح الكلب. ولتعلمن أن قيصر لا يظلم، كما أنه لا يقتنع إلا بالسبب الوجيه والحجة الناصعة.
ميتالاس :
ألا صوت أجل من صوتي وأكرم يكون أعذب نغمة في أذن قيصر، فيشفع لديه في أخي المنفي، ويستميحه في رده إلى وطنه؟
بروتاس :
إني أقبل يدك - لا تزلفا ولا ملفا - يا قيصر، أسألك أن تأمر برد بابلياس سمبار وإطلاق حريته للتو واللحظة.
قيصر :
ما هذا يا بروتاس؟
كاسياس :
معذرة قيصر، يا قيصر عفوا ومعذرة، إن كاسياس ليخر راكعا بين قدميك، يبتهل إليك أن تطلق سراح بابلياس سمبار.
قيصر :
لقد كنت أتأثر وأتحرك لو كنت مثلكم. ولو كنت أطيق أن أستعطف الناس بالملق وأستلينهم بالرجاء والتضرع، لكنت خليقا أن أستعطف وأستلان بمثل ذلك، ولكني ثبت المقام كالكوكب الشمالي الذي ليس له بين أجرام الفلك ند ولا ضريب رسوا أو رسوخا. إن أديم السماء لموشى بما لا يعد ولا يحصى من الجذوات، وكلها من نار مؤججة، وكلها مؤتلق مشرق، ولكن الثابت مكانه من بينها جميعا فرد أحد. وهكذا الدنيا بالرجال مملوءة، والرجال من دم ولحم وإدراك وحس، ولكني لا أعرف من بينهم جميعا سوى فرد واحد قد عز شرفا، وتعالى رفعة، وتأبي حصانة ومنعة، واستقر مكانه لا ينحى ولا يزحزح، متواقرا رزينا لا يحرك ولا يزعزع؛ وذلك الفرد الأحد هو أنا بالذات، فدعوني أبدي طرفا من شيمتي هذه بما قد عزمت عليه في هذه القضية، وهو أني أوجبت نفي سمبار في ثبات وإصرار، وقضيت بدوام منفاه في ثبات وإصرار.
سينا :
حنانيك يا قيصر!
قيصر :
إليك عني، أتحاول انتزاع أوليمب من مرساه ورفعه من مستقره؟!
ديسياس :
يا قيصر الأعز الأجل الأكبر!
قيصر :
أولم تروا بروتاس قد ركع عبثا؟!
1
كاسكا :
تكلمي نيابة عني يا يدي. (كاسكا يطعن قيصر في عنقه، قيصر يمسك بذراع كاسكا، يعتوره بالطعن آخرون من المتآمرين - آخرهم بروتاس.)
قيصر :
وأنت أيضا يا بروتاس! إذن، فاهو إلى مصرعك يا قيصر. (يموت)
سينا :
الحرية! الاستقلال! لقد مات الاستبداد، اعدوا سراعا فأذيعوا النبأ العظيم، واملئوا به أنحاء المدينة.
كاسياس :
ليهرع بعضكم إلى المنابر العمومية، فليناد بملء فيه، وبأرفع صوته: «الحرية، الاستقلال، الطلاقة من كل ربقة وقيد».
بروتاس :
أيها الناس والمشايخ النواب، لا تراعوا ولا تذعروا، لا تفروا واثبتوا، لقد قضى الطمع دينه.
كاسكا :
ارق المنبر يا بروتاس.
ديسياس :
وكاسياس أيضا.
بروتاس :
أين بوبلياس؟
سينا :
ها هنا، وهو حائر دهش من هول هذه الثائرة.
ميتالاس :
تكاتفوا وتساندوا فلعل أحد أصدقاء قيصر ...
بروتاس :
دعك من هذا، طب نفسا يا بولياس، إنه لا بأس عليك ولا ضير، إنك من كل شر بمعتصم ومنجى، وكذلك كل روماني غيرك، بلغهم هذا يا بوبلياس كاسياس، واتركنا يا بابلياس لئلا يتدفع علينا الناس فيصيبك منهم أذى.
بروتاس :
افعلن ذلك، إن هذا العمل لن تقع تبعته إلا علينا نحن الفاعلين. (يرجع تريبونياس.)
كاسكا :
أين أنطانيوس؟
تريبونياس :
ذهب إلى داره في حيرة.
أيها الرجال والنساء والصبية، انظروا بأبصار شاخصة، وصيحوا، واصرخوا، واعدوا سراعا، كما لو كان هذا اليوم يوم القيامة.
بروتاس :
أيتها الأقدار، إنا لحكمك لمنتظرون، وبقضائك لراضون، وبلقاء المنون لموقنون، وإنما جل ما يهمنا ويعنينا ويشغل بالنا ويقلقنا هو توقع المنون، ويومه الموعود، وتتابع الساعات، وتعاقب الآناء إلى ذلك الحين.
كاسياس :
إن الذي يجتاز عشرين عاما إلى الأجل إنما يجتاز عشرين عاما على رهبة من الموت.
بروتاس :
إذا سلمنا بذلك فلقد سلمنا بأن الممات ربح ومغنم.
فنحن لقيصر أصدقاء أوفياء، إذ اختصرنا مدة مخافته من الموت. هلموا معشر الرومان فانحنوا، ودعونا نغمس في دم قيصر أذرعنا إلى المرافق، ونخضب أسيافنا؛ لنسر بعد ذلك إلى مكان السوق فنهز نصالنا الحمراء فوق رءوسنا، ثم لنصح جميعا: «مرحبا بالسلام والعزة والحرية».
كاسياس :
تحانوا
2
إذن واغسلوا أيديكم.
هذا المشهد الجليل الذي مثلناه اليوم، كم سيعاد تمثيله على كر العصور ومر الدهور في شعوب ودول لم تخلق بعد، وبلغات وألسن لم تظهر في عالم الوجود بعد ولم تعرف.
بروتاس :
وكم وكم سترى الأجيال المتعاقبة من شتى الأمم والشعوب قيصر صريعا على المسارح، وكم وكم ستبصر الدماء تتدفق على الملاعب من جراح قيصر؛ هذا الذي ترونه الآن مجندلا تحت تمثال «بومبي» لا يفضل التراب قيمة.
كاسياس :
وكلما جرى ذلك ذكرنا الناس بخير، فقالوا: «طوبى لأولئك! هم الذين فكوا ربقة الذل عن رقاب أمتهم ومنحوها نعمة الحرية.»
ديسياس :
أنذهب الآن؟
كاسياس :
أجل، كل واحد منا سيقودنا بروتاس. ثم يتلو منا أشرف الرومان جميعا وأسماهم نفوسا وأجرؤهم قلوبا. (يدخل الخادم.)
بروتاس :
صه، من القادم؟ صديق لأنطانيوس؟
الخادم :
هكذا أمرني مولاي أن أخر إلى الركبتين جاثيا.
ثم أمرني - وأنا على هذه الحال من الركوع والخشوع - أن أبلغك عنه هذه الرسالة.
إن بروتاس لكريم عاقل جريء أمين. وإن قيصر لقد كان عظيما باسلا وفخما ودودا.
إني لأحب بروتاس وأجله. وقيصر لقد كنت أخشاه وأجله وأحبه.
فإذا شاء بروتاس أن يأذن لأنطانيوس في القدوم عليه مطمئنا، فيبين له مع الإقناع كيف استحق قيصر أن يسفك دمه، فسيغدو أنطانيوس وهو أشد محبة لبروتاس حيا منه لقيصر ميتا، ثم يتابع بروتاس الكريم في مجرى شئونه وحظوظه ومقاصده وأغراضه، مقتحما صعاب هذه الخطة الجديدة
3
خائضا أهوال هذه السبيل الأنف العذراء غير المطروقة. مستشعرا خلال ذلك أقصى منتهى الوفاء والأمانة.
هذه مألكة
4
مولاي أنطانيوس
بروتاس :
إن مولاك أنطانيوس لا ريب شهم الجنان، وإنه - والآلهة - ما عدا
5
حسن ظني به وجميل رأيي. فقل له: إذا شاء أن يأتي ها هنا؛ فإني مدل إليه بالحجة المقنعة. وليرجعن بعد ذلك - وشرفي - سالما لم يمسه أذى.
الخادم :
سأدعوه للتو والساعة. (يخرج)
بروتاس :
لقد علمت أننا سنصادف فيه صديقا صدوقا وخلا وفيا.
كاسياس :
ليت ذلك كائن، فإن قلبي ليحدثني أن أنطانيوس جدير منا بالخشية والمخافة.
وما زالت العواقب تأتي بمصداق هواجس ريبتي ووساوس ظنوني. (يعود أنطانيوس.)
بروتاس :
هاكم أنطانيوس! مرحبا بك مارك أنطانيوس.
أنطانيوس :
قيصر أيها الأجل الأعظم، أكذا تظل منبوذا بأسفل مطرح لقى
6
صريعا بأدنى مرقد ومضطجع؟! أكذا تقلصت فتوحاتك وانتصاراتك ومغانمك ومساعيك ومعاليك وجليل مآثرك وجسيم مفاخرك، فاضمحلت وتضاءلت إلى هذا القدر اليسير والكم الزهيد؟! في ذمة الآلهة وضمانها.
لست أدري أيها السادة ماذا تبتغون، ومن بعد تريدون أن يسفك دمه، ومن بعد ترونه قد فسد مزاجه، فأصبح بحاجة إلى الفصد والإدماء، وامتد واستطالت فروعه فاستوجب الحذف والإقصاء؟ إذا كنت أنا ذاك الرجل، فالآن الآن؛ فما ساعة أليق ولا أنسب من ساعة هلاك قيصر، ولا سلاح أنفس قيمة وأجل قدرا من سيوفكم تلك التي زانها وحلاها أزكى دم في هذا العالم بأسره، فلئن كان بصدوركم على حرد أو في قلوبكم إحنة، فالآن الآن، ولظى المنون تحتدم بين أكفكم المخضوبة، وشرر الحمام يستطير من راحكم المحمرة القانية - أسألكم أن تقضوا حاجتكم مني وتشفوا نفوسكم، فلو أني عشت ألف حجة، لما صادفت آونة تكون أوفق لمماتي من هذه الآونة، فلا مكان أحب إلي من ها هنا، ولا أداة لمقتلي هي أروح لنفسي من جماعتكم، يا صفوة هذا العصر ولبابه وعصارته، ويا فحول هذا الزمن وسادته وقادته!
بروتاس :
أي أنطانيوس! لا تسألنا قتلك، إنا وإن بدت علينا الآن أمارات الفتك والقسوة لحمرة أيدينا، وما ترانا أنفذناه الساعة من هذا العمل، فإنك لا تبصر سوى أيدينا وما صنعت من هذه الفعلة الدموية، أما قلوبنا فلست تبصرها، وإنها لرحيمة، وكما أن النار تطرد النار
7
فكذلك الرحمة تطرد الرحمة؛ ولهذا فإن رحمتنا لمظالم روما عموما قد نفت رحمتنا لقيصر، ودفعتنا إلى أن نصنع به ما صنعنا. أما من ناحيتك أنت فسيوفنا مثلمة مفلولة يا مارك أنطانيوس، وأذرعنا ليس يغريها بك، ولا يسلطها عليك غل ولا ضغينة، وصدورنا النقية الخالصة مرحبة بك تفسح لك كنفها وتفرشك خوانها
8
مع مزيد المحبة وحسن الظن والإكبار والتجلة.
كاسياس :
سيكون صوتك كأرفع صوت في توزيع المناصب الجديدة.
بروتاس :
كل ما نطلبه إليك الآن أن تصبر حتى نهدئ روع الجماهير، فلقد أطاش الذعر ألبابهم، وأطار الهلع أفئدتهم، وبعد ذلك نعلمك السبب الذي حدا بي إلى قتل قيصر، مع أني كنت حين أضربه أحبه.
أنطانيوس :
أنا لا أشك في حصافتك وإربتك.
9
ليمدد إلي كل رجل منكم كفه المخضوبة المدماة
10
سأبدأ بك أولا يا ماركاس بروتاس، إني أصافحك، ثم أثني بمصافحتك يا كاسياس، وبعد فلتمدد إلي يدك يا ديسياس بروتاس، وأنت أعطني يدك يا ميتالاس، وأنت يا سينا ناولني يدك، ثم يدك يا أخي كاسكا أيها الشجاع الباسل، وآخرهم عدا، وإن لم تكن آخرهم منزلة مني، ونصيبا من مودتي. أنت يا تريبونياس البر الكريم أعطني كفك. يا زمرة السادة، واحر قلباه! ماذا أقول؟ وبماذا أنطق؟ لقد أصبحت اليوم متهم المروءة، مستراب الكرامة، متعثر الجاه، قد نصب هذا النحس سمعتي وذكري بشر مزلقة ومزلة، فأنا في رأيكم ونظركم لا أعدو أن أكون أحد رجلين؛ إما جبانا أو متملقا. أي قيصر! لقد كنت حقا أصفيك الوداد، وأخلص لك المحبة، فإذا كانت روحك تطل علي الآن وترفرف، ألا يكون أوجع لك من موتك، وأمض وأنكى أن تظل تبصر أنطانيوسك يسالم أعداءك الأماجد الأراوع، ويصافح بيده بنانهم المخضبة بدمائك إزاء جثتك الهامدة؟ أما لو كان لي من الأعين عدد ما بك من جراح، وكنت أسفح بها الدموع بأسرع مما تسفح جراحك الدم، لكان ذلك أليق بي وأخلق من أن أصير في النهاية إلى مصافحة أعدائك، ألا عفوا يا يوليوس وغفرانا! أيها الأعصم
11
الجريء الجنان! ها هنا خوتلت وادريت
12
فهوجمت، وأحدق بك، وأخذت عليك المسالك، وسدت في وجهك المنافذ. وها هنا لقيت مصرعك وحتفك. وها هنا يقف صيادوك يتحلون من خضاب دمك بما يجعلونه عنوان مجدهم ودليل فخارهم! ها هنا يقف قناصوك مضرجين بدمائك يلبسون منها أحمر الوشي وأرجواني المجاسد! أيتها الدنيا، لقد كنت لهذا الأعصم أجمة كثيفة، وكان لك هذا الأعصم فؤادا. قيصر، ما أشبهك في مصرعك هذا ومطرحك بالوعل رماه فأصماه
13
زمرة السادة الأمراء!
كاسياس :
مارك أنطانيوس!
أنطانيوس :
معذرة يا كاياس كاسياس، إن ما قلته أنا الآن سيقوله أعداء قيصر أنفسهم، فهو إذن من الصديق جدير أن يعد اقتصادا في المقال.
كاسياس :
أنا لا ألومك على إطرائك قيصر، وتأبينه على نحو ما صنعت، ولكن خبرني على ماذا تريد أن تعاقدنا؟ أتدخل في زمرة أصدقائنا وتندمج في سلكهم؟ أم نمضي على عزمنا غير معتمدين عليك البتة؟
أنطانيوس :
إنما على هذا
14
صافحتكم وبايعتكم، ثم صرفني عن مواصلة القول في ذلك الصدد نظري إلى قيصر صريعا مجندلا. إني صديق لكم جميعا، أصفيكم محبتي وودادي، ولي الأمل بعد أن تبينوا لي بالحجة القاطعة ماذا كان وجه الخوف من قيصر وأين كانت ناحية الخطر؟
بروتاس :
وإلا كان عملنا هذا عملا شنيعا مفظعا. إن لدينا من الأسباب ما هو جدير بإقناعك، حتى ولو كنت ابنا لقيصر.
أنطانيوس :
هذا كل ما أبغي، وأستميحكم أيضا الإذن في نقل جثته إلى مكان السوق، ثم في تأبينه على المنبر أثناء الجنازة، قضاء لواجب الإخاء ومراعاة لحرمة الصداقة.
بروتاس :
سيكون ذلك يا مارك أنطانيوس.
كاسياس :
لي معك كلمة يا بروتاس (مع بروتاس على انفراد) .
أنت لا تفقه ما تصنع. لا ترخص لأنطانيوس بالخطابة أثناء الجنازة؛ فلست تدري ماذا عسى أن يكون لخطابه من شدة الوقع في نفوس الشعب، ولا إلى أي حد من الهياج سيدفعهم مقاله.
بروتاس :
إنه لا بأس من ذلك.
سأرقى المنبر أولا. فأشرح للملأ ما دعا إلى قتل قيصرنا، وسأعلم القوم أن ما سيقوله أنطانيوس إنما يقوله بإذن منا وترخيص، وإننا لن نستريح حتى يستوفي قيصر كامل حقه من الرسوم والشعائر؛ فإن ذلك بالمنفعة أعود علينا منه بالمضرة.
كاسياس :
لا أدري ما لعله أن يحدث، على أني لست إلى ذلك بمرتاح.
بروتاس :
مارك أنطانيوس، خذ جثة قيصر، لا تنحين علينا باللائمة في خطبة تأبينك. ولتطرين قيصر بأقصى ما يمليه عليك وجدانك، ويصوغه بيانك من آيات الحمد والثناء. ولكن خبرهم أنك بإذننا وترخيصنا تفعل ذلك، وإلا فضضنا يدك من كل ما يتعلق بأمر هذه الجنازة. وستخطب من المنبر الذي سوف أرقاه بعد انتهاء خطبتي.
أنطانيوس :
فليكن ذلك، فلست إلى سواه بطامح.
بروتاس :
جهز الجثة إذن ثم اتبعنا. (يخرجون جميعا ما عدا مارك أنطانيوس.)
أنطانيوس :
معذرة وغفرانا يا كتلة التراب الدامية - لما أبديت لأولئك السفاحين من التواضع والتخاضع - إني لأبصر فيك الآن أطلال أسمى رجل وأنقاض أشرف إنسان عاش في مجرى الزمان ومكر الدهور والآباد. شلت
15
يد سفكت ذلك الدم الزكي.
إني حيال جراحك النجلاء
16
الفاغرة شفاهها الحمراء، كأفواه الخرس تستدر لساني وتستجيش بياني لأتنبأ وأتكهن.
لسوف يبتلى الناس بأخبث العاهات والآفات في جوارحهم وأوصالهم، ولسوف تستفحل العداوة بين الناس والشحناء، وتتسلط الضغائن والأحقاد على الصلات والأواصر، ولسوف تفتك الترات والأذحال بشوابك الأرحام، وتمزق الإحن روابط الإخاء وعرى القرابة حتى تتنافر الأسر وتتكافح وتتناحر الفرق والأحزاب وتتذابح؛ فتعم الفتنة أنحاء إيطاليا وتثقل كواهلها بأفدح الأعباء. ولسوف تكثر المذابح وتتوالى حوادث التخريب والتدمير، وتتتابع المشاهد المستنكرة والمناظر الشنعاء، ويألف الناس رؤية الدماء المهرقة والأشلاء الممزقة، حتى ترى الأمهات إذا أبصرن أطفالهن تقطع أرباعا بمخالب الحروب الضروس، وأنياب الوقائع الحمس لم يزدن على أن يبتسمن لكثرة ألفتهن هذه الحوادث، وطول اعتيادهن هاتيك الكوارث؛ مما هو جدير لفرط كثرته وثقل وطأته، أن يخنق الرحمة ويبهرها، فيشل حركتها ويسد منافذها في الجوانح والصدور.
وروح قيصر مطل من فوق ذلك طواف في أرجاء البلاد، مطالب بالثأر تسعى إلى جانبه شيطانة الانتقام والعذاب، منبعثة من أعماق جهنم تلتهب التهابا، يصيح: ويل لكم ثم ويل لكم! لا هوادة ولا هدنة، ولا موئل ولا معاذ ولا عاصم اليوم من أمر الله.
17
ثم يرسل على البلاد ذئاب الحرب العادية، وسباعها الفراسة الضارية؛ السيف والقحط والنار. حتى تتصاعد فوق أديم الأرض روائح الجيف العفنة المنتنة، وينبعث من هامها الصدى ينادي: ألا دافن يحثو علي التراب؟! (يدخل الخادم) .
أنت خادم لأوكتافيوس قيصر، ألست كذلك؟
الخادم :
بلى يا مارك أنطانيوس.
أنطانيوس :
لقد كان قيصر كتب إليه بالقدوم إلى روما.
الخادم :
لقد تسلم رسائله وإنه لقادم. ولقد أمرني أن أخبرك مشافهة. (تحين منه التفاتة إلى جثة قيصر) .
وا حسرتاه يا قيصر!
أنطانيوس :
إن قلبك لمفعم، تنح جانبا فابك، إن الحزن ليعدي، ألم تر إلى عيني كيف شرقتا واغرورقتا؛ إذ أبصرتا فرائد
18
اللوعة تجول في عينيك وتتحير؟ أقادم مولاك؟
الخادم :
إنه يبيت الليلة على سبعة فراسخ من روما.
أنطانيوس :
انقلب إليه مسرعا فنبئه بما جرى، إن روما اليوم لمفجوعة ثكلى، إن روما اليوم لخطرة مرهوبة، ما روما بمباءة الأمن والسلام لأوكتافيوس، انطلق من ها هنا فأعلمه ذلك، كلا بل خير لك أن تلبث برهة فلا تعود حتى أحمل هذه الجثة إلى مكان السوق؛ حيث أنوي أن أخطب في الناس لأستبين كيف يكون مبلغ تأثرهم بجناية أولئك الفتاك السفاكين، وماذا يكون موقعها في نفوسهم؟ وعلى حسب تأثرهم بذاك وكيفية استقبالهم إياه يكون حديثك إلى أوكتافيوس عن الأحوال الراهنة، أعرني يديك. (يخرجان بجثة قيصر.)
المنظر الثاني (روما: مكان السوق) (يدخل بروتاس وكاسياس وطائفة من الأهالي.)
الأهالي :
لا بد لنا من الوقوف على جلية هذا الأمر ومعرفة أسبابه.
بروتاس :
إذن فاتبعوني أيها الصحاب وأعيروني أذنا صاغية وأفئدة واعية، اذهب أنت يا كاسياس إلى الطريق الآخر فاقسم الجمهور شطرين، فمن كان يحب أن يسمع خطابتي فليبق هنالك، ومن شاء أن يتبع كاسياس فليمض معه، ولسوف تعلمن الأسباب التي دعت إلى مقتل قيصر.
واحد من الأهالي :
سأسمع خطابة بروتاس.
ثان من الأهالي :
سأسمع خطابة كاسياس. ولنقارن بين ما يدليان به من الأسباب والعلل. (يخرج كاسياس بنفر من الأهالي، ثم يصعد بروتاس المنبر.)
ثالث من الأهالي :
لقد صعد المنبر بروتاس النبيل، أنصتوا!
بروتاس :
الزموا الرزانة والوقار واستشعروا الصبر والأناة والصمت حتى أتم خطابتي.
معشر الرومان والمواطنين والخلان، أنصتوا إلى ما أنا قائل تأييدا لخطتي ودفاعا عن قضيتي، واصمتوا لتسمعوا فتعوا، صدقوني لمنزلتي من المروءة والشرف، واحترموا شرفي ومروءتي، كيما يتسنى لكم أن تصدقوني، حكموا في أمري حصافتكم وفطنتكم ونبهوا ألبابكم واشحذوا حد ذكائكم؛ ليكون أصح لحكمكم وأعدل لقضائكم، وإن يكن بينكم صديق حميم لقيصر فله أقول: إن قيصر لم يكن أحب إليه منه إلي، ولا أعز عليه منه علي، ولا أسمى مكانة في نفسه منه في نفسي، فإذا انبرى لي مثل هذا الصديق يسألني: لماذا ثار بروتاس على قيصر؟ أجبته قائلا:
إن خروجي وثورتي لم يكن لأن محبتي لقيصر كانت أقل مما ينبغي؛ بل لأن محبتي لروما هي أكثر وأعظم، وهل كنتم تؤثرون أن يبقى قيصر وتموتون كلكم عبيدا، على أن يموت قيصر لتعيشوا أحرارا؟ إنني إذا ذكرت محبة قيصر لي بكيته ورثيته، وإذا ذكرت علاء نجمه وسمو جده
19
سررت وطربت، وإذا ذكرت جرأته وإقدامه؛ أكبرته وأجللته. ولأنني آنست منه الطمع والشراهة قتلته. فلحبه مني المدامع، ولسعده مني الغبطة، ولبسالته التمجيد، ولمطامعه القتل، فأيكم بلغ من الإسفاف والدناءة أنه يظل بالرق راضيا وللعبودية مختارا؟
إن كان فيكم من شأنه هذا فليتكلم؟
فإلى مثل هذا أكون حقا قد أسأت وأذنبت.
وأيكم قد بلغ من الهمجية أنه لا يود أن يكون رومانيا؟
إن كان فيكم من هذا طبه ومذهبه فليتكلم؟
فإلى مثله أكون قد أسأت وأذنبت. وأيكم بلغ من ضئولته وخسته ودقته أنه لا يحب بلاده؟ إن كان فيكم مثل هذا فليتكلم.
فإلى مثله أقر أني أسأت وأذنبت، إني أقف ها هنا انتظار الجواب.
الجميع :
لا أحد يا بروتاس لا أحد.
بروتاس :
إذن فأنا لم أسئ إلى أحد ما ولم أذنب، إني لم أفعل بقيصر أكثر مما قد تفعلون ببروتاس. إن حادث قتله مسجل بالكابيتول، وإن مفاخره التي أكسبته الحمد والثناء لم تبخس ولم تنتقص. ومساويه التي أوردته حتفه لم تجسم ولم تهول (يدخل أنطانيوس وآخرون بجثة قيصر) .
هاك جثته قادمة يبكي عليها مارك أنطانيوس. وإن أنطانيوس وإن لم يشترك في قتل قيصر؛ ليجنين من وراء قتله ثمرة وفائدة؛ منصبا في الجمهورية. ومن منكم سيغدو بلا فائدة؟ والآن أنصرف عنكم قائلا: إني مثلما قتلت أصدق خلاني من أجل صالح روما؛ فقد أعددت ذلك الخنجر بعينه لإعدام نفسي متى رأت بلادي أنها بحاجة إلى قتلي.
الجميع :
فليعش بروتاس! فليعش فليعش!
واحد من الأهالي :
شيعوه إلى داره بمزيد الإجلال والإكبار.
ثان من الأهالي :
انصبوا له تمثالا كأجداده وأسلافه.
ثالث من الأهالي :
اجعلوه قيصرا.
رابع من الأهالي :
إن مناقب قيصر ومكارمه ستبلغ أقصى غايتها وأسمى قمتها في بروتاس.
الرجل الأول :
سنشيعه إلى داره بالهتاف والتصفيق.
بروتاس :
أبناء وطني ...
الرجل الثاني :
سكوتا! سكوتا! إن بروتاس يتكلم.
الرجل الأول :
سكينة وصمتا!
بروتاس :
أبناء وطني البررة الأخيار.
دعوني أنصرف وحيدا منفردا، وامكثوا ها هنا مع أنطانيوس كرامة لي، ولتؤدوا واجب التكريم لرفات قيصر، وواجب الإجلال لخطابة أنطانيوس التي سيلقيها بإذن منا وترخيص في تأبين قيصر، والتنويه بمعاليه ومآثره، إني أرجوكم أن لا يبرح إنسان سواي حتى يتم أنطانيوس خطابته. (يخرج بروتاس.)
الرجل الأول :
البثوا نسمع خطابة مارك أنطانيوس.
الرجل الثاني :
ليصعد المنبر العمومي، سنسمع مقاله، ارق المنبر أيها النبيل أنطانيوس.
أنطانيوس :
إني إكراما لبروتاس، أرى لكم علي حقا واجبا. (يرقى المنبر)
رجل رابع :
ماذا يقول عن بروتاس؟
الرجل الثالث :
يقول إنه إكراما لبروتاس يرى لنا جميعا حقا عليه واجبا.
الرجل الرابع :
أولى له أن لا يذكر بروتاس بسوء ها هنا.
الرجل الأول :
إن قيصر هذا قد كان جبارا عنيدا.
الرجل الثالث :
هذا حق صراح إن من أجزل النعم علينا أن تخلصت منه روما.
الرجل الثاني :
سكوتا، ودعونا نسمع ما سيقوله أنطانيوس.
أنطانيوس :
أيها الفضلاء من أبناء روما
20 ...
الأهالي :
سكوتا، ودعونا نسمع مقاله.
أنطانيوس :
أيها الإخوان، أبناء روما، أعيروني مسامعكم! إنما أتيت لدفن قيصر لا لتحميده وتمجيده؛ لأنه ما يأت امرؤ من شر يبق بعده، وما يأت من خير يدفن معه في قبره، فلتكن هذه سبيلنا مع قيصر وخطتنا نحوه. لقد أنبأكم بروتاس السري، أن قيصر كان طماعا.
فلئن صح ذلك؛ لقد كان إثما جللا، وقد لقي عليه قيصر جزاء جللا. إني ها هنا بإذن بروتاس وشيعته، وحبذا بروتاس من شريف ماجد، وأنعم وأكرم بهم جميعا، قد جئت لأخطب في جنازة قيصر، لقد كان لي صديقا وبي بارا وإلي منصفا، ولكن بروتاس يقول: إنه كان طماعا، وبروتاس المرء لا بأس في حسبه ولا غبار على مروءته، إن قيصر قد ساق إلى روما الجم العديد من الأسرى، وقد اجتمع من ديات هؤلاء ما ملأ بيت المال، أفكان ذلك خليقا أن يعد طمعا من قيصر؟ لقد كان قيصر يبكي لبكاء المساكين، وما ذاك من شيمة الطماع، إنما أحسب الطمع قد خلق من طينة أيبس من ذلك، وصيغ من جوهر أخشن وأغلظ، ولكن بروتاس يزعم مع ذلك أن قيصر كان طماعا! وقد رأيتم جميعا إبان عيد لوبركال كيف عرضت على قيصر تاجا ملكيا ثلاثا فرفضه ثلاثا، أكان ذلك على الطمع دليلا؟ ولكن بروتاس على الرغم من ذلك يزعم أن قيصر كان طماعا.
وبروتاس المرء لا مغمز في عرضه ولا مطعن، أنا لا أبغى بمقالي تفنيدا لمقالة بروتاس، إنما أقول ما أعلم. لقد كنتم تحبون قيصر حينا من الدهر، وكان قيصر بهذا الحب منكم جديرا، فما بالكم اليوم لا تأسون عليه ولا ترثونه بما هو أهله؟! أيها التمييز! لقد تحولت عن بني البشر إلى الوحوش والبهائم، فأصبح الناس بلا ألباب ولا عقول! أيها القوم أمهلوني، وصابروني، وأسيغوا غصتي،
21
إن قلبي رهين بهذا النعش مع قيصر، فتمهلوا ريثما يثوب لي قلبي.
الرجل الأول :
إن مقاله ليستند على أمتن أساس من البرهان والحجة.
الرجل الثاني :
من دقق النظر في الأمر تبين له أن قيصر قد ظلم ظلما مبينا.
الرجل الثالث :
أوحقا قد ظلم يا إخواني؟ أخشى أن يخلفه من هو شر منه وأسوأ.
الرجل الرابع :
أوعيتم ما قد قاله مارك أنطونيوس؟ لقد ذكر أن قيصر قد رفض التاج الملكي لما أهدي إليه.
إذن فمن المؤكد أنه لم يكن طماعا.
الرجل الأول :
إذا اتضح وتبين أن ذلك كذلك، فلسوف يلقى أناس على تلك الجناية أنكل الجزاء وأنكى العقوبة.
الرجل الثاني :
وا رحمتا لأنطانيوس! لقد أقرح البكاء عينيه فكأنما تبطنتا جمر الغضى حرقة وحمرة.
الرجل الثالث :
ليس بين أكناف روما من هو أشرف من أنطانيوس حسبا وأكمل مروءة.
الرجل الرابع :
أنصتوا إليه، لقد استأنف الكلام.
أنطانيوس :
بالأمس كانت لفظة «قيصر» تقاوم الدنيا بأسرها وتقف في وجه العالم أجمع، والآن يثوى ها هنا لقى طريحا منبوذا بزاوية الإهمال والهجران، لا يرضى امرؤ أيا كان أن يتواضع لتكريمه أو يتنزل لرثائه وتأبينه. أيها المواطنون، إني إن أعمل الآن على إشعال غضبكم وإلهاب موجدتكم كان ذلك مني إساءة إلى بروتاس أو إلى كاسياس، وكلاهما كما تعلمون ماجد محض
22
وما كنت لأنال أيهما بأدنى أذى، ولخير لي أن أسوء الميت وأسوء نفسي وأسوءكم من أن أسوء أمثال هذين الحرين الشريفين، ولكن هاكم رقعة عليها خاتم قيصر ألفيتها بحجرته وإنها لوصيته، دعوا الجماهير تصغ إلى ما جاء بهذه الوصية - على أني وايم الحق ما قصدت قط ولا أقصد إلى تلاوتها - وأنا الكفيل أنهم متى سمعوها أقبلوا على جثة قيصر، فلثموا جراحه وغمسوا مناديلهم في دمه المقدهم والتمسوا شعرة من بدنه تكون لهم أثرا، وتذكارا يسجلونها ساعة الوفاة في وصاياهم ويورثونها ذرياتهم ذخيرة ثمينة وتراثا نفيسا.
الرجل الرابع :
لنسمعن الوصية، ولتقرأنها يا مارك أنطانيوس.
أنطانيوس :
أناة وصبرا أيها الإخوان الكرام! يجب أن لا أقرأها، ليس من الحكمة ولا من الصواب أن يصل إلى علمكم مبلغ حب قيصر إياكم، فما أنتم بالأخشاب ولا الحجارة وإنما بشر من دم ولحم ولكم قلوب تحس وتشعر، فأنتم لذلك جديرون حين تتلى عليكم وصية قيصر أن يثور ثائركم ويجن جنونكم، وأولى لكم وأمثل أن لا يصل إلى علمكم أنكم ورثة قيصر؛ لأنكم إن علمتم ذاك فوا خطباه ووا نكبتاه ماذا يكون من ورائه!
الرجل الرابع :
اقرأن الوصية، لا مناص من سماعها يا مارك أنطانيوس، إذن فلا بد لك من قراءة الوصية؛ وصية قيصر.
أنطانيوس :
أفلا تصبرون؟ أفلا تتمهلون قليلا؟ ويحي!
لقد تعديت حدي، وتجاوزت مقداري بإطلاعكم على أمر هذه الوصية. إني أخشى أن أكون قد أسأت إلى أولئك النبلاء الأماجد الذين طعنوا قيصر، شد ما أخاف ذلك وأخشاه.
الرجل الرابع :
لقد كانوا غدرة خونة. نبلاء أماجد!
الجميع :
الوصية، الوصية!
الرجل الثاني :
لقد كانوا لئاما أشرارا، وقتلة سفاكين، الوصية! اقرأ الوصية!
أنطانيوس :
ستضطروني إذن وتكرهوني على تلاوة الوصية؟
استديروا حلقة من حول جثة قيصر، ودعوني أركم من وضع هذه الوصية، أفأنزل؟ وهل تسمحون لي بذلك؟
الجميع :
انزل.
الرجل الثالث :
إنا لنسمح لك بذلك. (ينزل أنطانيوس.)
الرجل الرابع :
استديروا حلقة، قفوا حوله.
الرجل الأول :
تنحوا عن النعش، تنحوا عن الجثة.
الرجل الثالث :
أفسحوا مجالا لأنطانيوس، لأشرف الرجال وأنبلهم؛ مارك أنطانيوس.
أنطانيوس :
لا تزحموني ولا تساقطوا علي هكذا، تباعدوا.
الأهالي :
تراجعوا أفسحوا مجالا، تباعدوا.
أنطانيوس :
إذا كان في أوعية دموعكم سجال، فتهيئوا الآن لأن تسفحوها، كلكم يعرف هذا الطيلسان
23
وإني لأذكر أول عهد قيصر باكتسائه، لقد كان ذلك في أصيل يوم صائف بسرادقه، في ذلك اليوم هزم قيصر البلجيك وبدد شملهم.
فانظروا تروا بهذا الموضع من الطيلسان منفذ خنجر كاسياس. ثم انظروا بموضع آخر ها هنا، فتأملوا أي خرق أحدثه كاسكا الحقود الدغل! ومن هذا الخرق نفذ خنجر الصفي المختار بروتاس، ألا تأملوا كيف لما انتزع بروتاس الصفيح المشئوم
24
اسبطر
25
الدم، كأنما خرج من مكمنه ليتبين أكان بروتاس ذاك الذي دق عليه تلك الدقة النكراء أم كان أحد خلافه؟ لأن بروتاس قد كان كما تعلمون توءم نفس قيصر وشقيق روحه، أيتها الآلهة، إنك أنت العليمة بمبلغ مودة قيصر لبروتاس، والشهيدة على فرط حبه إياه، لقد كان بروتاس أعق الجميع وأقساهم، وذلك أن قيصر النبيل لما رآه يطعنه كان الجحود والكفران أشد عليه وأوجع له من طعنات الغادرين، فقهره وصرعه، وعندئذ تفطر قلبه العظيم وتفتت فاختمر
26
بردائه وتلثم، ثم عمد إلى تمثال بومبي الذي كان يتحدر منه الدم ويتحلب، فخر على قاعدته صريعا وهوى مجندلا، أي إخواني الكرام، أي سقطة كانت سقطته؟! وأي صرعة صرعته؟! إنها لم تكن سقطة فرد بل سقطة أمة بأسرها،
27
لقد هويت وهويتم وهوينا جميعا لما هوى قيصر، بينما الخيانة السفاكة السفاحة المخضبة بالدماء ظفرت بنا واستعلت علينا. الآن تبكون وأراكم تلبون داعي الرثاء وتحسون مس الرحمة، ألا حبذا هذه القطرات الطاهرة المقدسة، أيها الكرام الأبرار، ما أعجب حالكم! أإن رأيتم رداء قيصر جريحا طعينا،
28
أقبلتم تبكون أسى ولوعة؟ فكيف إذا رأيتموه نفسه؟ هاكم قيصر ذاته، فانظروا كيف مزق الغادرون جوارحه وأثخنوا جراحه؟!
الرجل الأول :
أي مشهد يلوع الفؤاد، ويفتت الأكباد!
الرجل الثاني :
رحمتا لك يا قيصر، الأعز الأكرم!
الرجل الثالث :
ما أشأم اليوم وما أنحسه، وما أشقاه وما أبأسه!
الرجل الرابع :
تبا لكم عصبة الخونة الغادرين!
الرجل الأول :
ما أشنع هذا المشهد! وما أروع الدماء على جنباته!
الرجل الثاني :
لنثأرن لأنفسنا!
الأهالي :
يا للثأر! هلموا فتشوا، أحرقوا، أشعلوا النيران، اقتلوا! اذبحوا! لا يفلتن من أيديكم خائن!
أنطانيوس :
مهلا بني وطني.
الرجل الأول :
أناة وتؤدة؟ ثم إصغاء إلى البر الكريم أنطانيوس.
الرجل الثاني :
سنصغي إليه ونتبعه ونضحي بأنفسنا معه.
أنطانيوس :
أيها الإخوان الكرام، لا تخفزنكم بغتة كلماتي إلى هذا الحد من الثورة والهياج.
إن من أحدث هذا الحدث لكرام أشراف، ولست أدري ما الذي دفعهم إلى إتيان ذلك من شكاوي خصوصية وظلامات شخصية، إنما أعلم أنهم عقلاء نبلاء، وأنهم لا يكتمونكم الأسباب التي حدتهم إلى إتيان ما أتوه، أنا لم آتكم معشر الإخوان والخلان لأضلكم، وأغرر بكم بالختل والخداع وباجتذاب أهوائكم وامتلاك عواطفكم، وبعد فما أنا بالخطيب المدره المفوه كبروتاس، ولكني كما تعرفونني رجل ساذج صريح أحب صديقي، وهذا ما قد علمه الذين أذنوا لي أن أؤبنه على رءوس الأشهاد، فلقد علموا أني المرء لا ذكاء له ولا فطنة ولا هو بالمتمكن من لسانه المثري من ذخائر اللفظ الأنيق وكنوزه، القابض على ناصية البلاغة المتملك أعنة الفصاحة، ولا هو بالرجل الفعال الماضي العزائم، ولا بالخلاب منطقا، الساحر بيانا، القادر على استجاشة الدم في العروق والحمية في الصدور، إنما أرتجل القول ارتجالا؛ لا أزن ولا انتقد ولا اختار ولا أميز، وأقتضب الكلام اقتضابا وأبتسره
29
ابتسارا لا أمهله ولا أونيه
30
حتى تنضجه الروية، وتثقفه العناية، ويهذب من حواشيه الاحتفال والتأنق فلا ترونني مخبركم إلا بما تعلمون من قبل.
وأقصى ما لدي أن أريكم جراح قيصر البر الرحيم، أعرض عليكم منها أشباه الأفواه البكم، وأسألها أن تنطق عني وتتحدث، أما لو كنت أنا بروتاس، وكان بروتاس أنطانيوس لكان ذلكم أنطانيوسا
31
جديرا أن يستفز غضبكم، ويعير كل جرح من جراح قيصر لسانا ناطقا حريا أن يحرك أحجار روما، ويدفعها إلى التمرد والهياج.
الأهالي :
لنثورن ولنهيجن!
الرجل الأول :
لنحرقن دار بروتاس.
الرجل الثالث :
هلموا إذن، تعالوا نطلب المتآمرين!
أنطانيوس :
أصغوا إلي معشر المواطنين، اسمعوا وعوا.
الأهالي :
سكينة وصمتا، أنصتوا إلى أنطانيوس؛ أنطانيوس الأبر الأكرم.
أنطانيوس :
عجبا لكم معشر الإخوان! أنتم تريدون المضي، وتهمون بالانطلاق، ولكن إلى أين؟ وفي أي شأن؟ ولأي عمل ومهمة ومقصد؟ وما الذي صنعه لكم قيصر حتى استحق منكم كل هذه العناية والوداد والمحبة؟ وا أسفاه إنكم لا تعلمون، وأراني خليقا أن أعلمكم، لقد نسيتم نبأ الوصية التي حدثتكم عنها.
الأهالي :
حقا حقا؟ الوصية! فلنلبثن لسماع الوصية.
أنطانيوس :
هاكم الوصية وهي بخاتم قيصر، إنه يهب كل فرد من الأهالي خمسة وسبعين درهما.
32
الرجل الثاني :
لا يبعدن قيصر الأجل الأعظم!
الرجل الثالث :
لا يبعدن قيصر المليك الأعز الأشرف!
أنطانيوس :
رويدا رويدا!
الأهالي :
سكينة وصمتا!
أنطانيوس :
وقد أورثكم فوق هذا كل ما كان يملكه على ضفة «التيبر» هذه من متنزهات وخمائل وحدائق جدد، هذه كلها قد خلفها ولكم ولذرياتكم من بعدكم آخر الأبد؛ مجال لهو وأنس، ومنتجع لذة، ومستراد مسرة تطوفون في أرجائه، تلهيا واسترواحا واستمتاعا. هذه مروءة قيصر وتلك سماحته، وكذلك كان: فمتى بمثله يجود الزمن؟
الرجل الأول :
لن يجود بمثله أبدا، هلموا هلموا! سنحرق جثته بالمكان المقدس ، ثم نحرق بالشعل بيوت الخونة، خذوا الجثة.
الرجل الثاني :
اذهبوا فجيئوا بالنار.
الرجل الثالث :
انتزعوا المقاعد.
الرجل الرابع :
انتزعوا الكراسي والشبابيك وكل ما صادفتم. (يخرج الأهالي بالجثة.)
أنطانيوس :
لقد قدحت شرارة الفتنة فدعها تنمو وتعظم وتتفشى وتستفحل، أيتها الداهية الدهياء، لقد نهضت إلى قدميك - فانظري الآن أيان تضربين واسلكي أي طريق شئت (يدخل خادم) .
ما وراءك يا غلام؟
الخادم :
أيها السيد، لقد قدم مولاي روما.
أنطانيوس :
أين هو؟
الخادم :
هو ولوليبيداس في بيت قيصر.
أنطانيوس :
سأوافيهما ثمت سريعا. لقد جاء على حين تمنيت مجيئه، إن الحظ لفي سرور وغبطة - ومتى كان على هذه الحالة وثقنا بمواهبه وأفضاله.
الخادم :
لقد سمعته يقول: إن بروتاس وكاسياس انطلقا على جواديهما من أبواب روما يسرعان كمن به مس أولق.
33
أنطانيوس :
لعله قد بلغهما نبأ استثارتي الناس واستنفارهم، امض بي إلى أوكتافيوس. (يخرجان)
المنظر الثالث (روما: شارع) (يدخل الشاعر سينا.)
سينا :
لقد أريت ليلة أمس فيما يرى النائم أني على خوان قيصر أؤاكله، وأرى مخيلتي قد أفعمتها هواجس أليمة، وأثقلتها وساوس منكرة مشئومة، ما بي إلى الخروج الآن من حاجة ولا رغبة، ولكن دافعا يدفعني إلى ذلك. (يرجع الأهالي.)
الرجل الأول :
ما اسمك؟
الرجل الثاني :
إلى أين تقصد؟
الرجل الثالث :
أين نثوي؟
الرجل الرابع :
أذو أهل
34
أم أعزب؟
الرجل الثاني :
أسرع بإجابة كل واحد منا.
الرجل الأول :
وبإيجاز.
الرجل الرابع :
وبحكمة.
الرجل الثالث :
وبصدق؛ إنه خير لك وأولى.
سينا :
ما اسمي؟ وأيان أذهب؟ وأين أثوي؟ وذو أهل أم أعزب؟ ثم أجيب كل سائل بصراحة، وإيجاز، وحكمة، وصدق، أقول من حيث الحكمة: إني أعزب.
الرجل الثاني :
هذا كقولك: إن الأحمق من يتزوج، لعلي مجازيك على هذا بلكمة أو لطمة، امض في قولك - بصراحة.
سينا :
الصراحة أني ذاهب لأشهد جنازة قيصر.
الرجل الأول :
شهود الصديق أم العدو؟
سينا :
شهود صديق.
الرجل الثاني :
لقد أجبت على هذا بصراحة.
الرجل الرابع :
ومثواك؟ أجب عن ذلك باختصار.
سينا :
بالاختصار، إن مثواي بجوار الكابيتول.
الرجل الثالث :
ما اسمك؟ اصدقنا.
سينا :
الصدق أن اسمي سينا.
الرجل الأول :
مزقوه إربا إربا؛ إنه من المتآمرين.
سينا :
أنا سينا الشاعر، سينا الشاعر.
الرجل الرابع :
قطعوا أوصاله لرداءة شعره.
سينا :
لست سينا المتآمر.
الرجل الثاني :
سيان عندنا أكنته أم لم تكنه، فحسبنا أن اسمك سينا، انتزعوا اسمه من بين أحشائه، ثم اطلقوه وشأنه.
الرجل الثالث :
قطعوه قطعوه!
هلموا بنا أيها المساعر!
35
واحملوا المساعر
36
وأسرعوا بنا إلى منزل بروتاس، ثم إلى دار كاسياس، وأحرقوا بيوتهم جمعاء، وليذهب نفر إلى دار ديسياس، ونفر إلى دار كاسكا، وجماعة إلى بيت ليجارياس، هلموا هلموا. (يخرجون)
الفصل الرابع
المنظر الأول (روما: غرفة بدار أنطانيوس)
1 (أنطانيوس وأوكتافيوس وليبيداس جالسين حول منضدة.)
أنطانيوس :
إذن لا بد من إعدام هذا العدد من الأنفس، لقد نقشت أسماؤهم.
أوكتافيوس :
وأخوك
2
أيضا لا بد من إعدامه، أموافق أنت على هذا يا ليبيداس؟
ليبيداس :
أجل إني موافق.
أوكتافيوس :
انقش اسمه يا مارك أنطانيوس.
ليبيداس :
هذا على شرط أن يعدم بوبليوس الذي هو ابن أختك
3
يا مارك أنطانيوس.
أنطانيوس :
ليعدمن، تأمل! ها قد نقشت إزاء اسمه علامة الحكم بالإعدام.
وبعد فلتمضين يا ليبيداس إلى قيصر ثم لتأتينا بالوصية، وسننظر كيف نحذف جانبا من المواريث.
ليبيداس :
أألقاكم هنا؟
أوكتافيوس :
هنا أو بالكابيتول. (يخرج ليبيداس.)
أنطانيوس :
هذا رجل ساقط الهمة، خسيس القيمة، خليق أن يستخدم في قضاء الحاجات وأداء الرسائل، أيليق عندما تقسم الدنيا أقساما ثلاثة أن يروح مثل هذا النكس أحد الثلاثة الذين يقتسمون العالم؟!
أوكتافيوس :
إنك أنت الذي استكثرته واستعظمته، فاستخرته واصطفيته، وخولته حق التصويت في مجالسنا، وكان من حقه أن يسجل عليه حكم الإعدام في صحفنا السوداء.
أنطانيوس :
اسمع مني يا أوكتافيوس، إني أسن
4
منك وأقدم بالحياة عهدا، فاعلم - علمت الخير - لئن نحن أسندنا إلى هذا الرجل تلك الرتب العالية، والألقاب السامية اتقاء لمثالب القدح ومذمات الهجاء وسوء الأحدوثة، فلن يكون مثله إلا كمثل الحمار يحمل الذهب، فهو أبدا يرزح ويئن تحت عبئه الفادح، ويتصبب عرقا مقودا تارة وطورا مسوقا أيان ننتحي ونقصد، حتى إذا بلغنا وحمل ذخيرتنا
5
إلى حيث نبغي، وضعنا عنه حمله، وأطلقناه كما يطلق الحمار الخلو المجرد ينفض
6
أذنيه ويرود الكلأ في المراتع.
أوكتافيوس :
افعل ما بدا لك، ولكن لا يعزبن عن بالك أنه فارس مجرب، وكمي مدرب.
أنطانيوس :
وكذلك حصاني يا أوكتافيوس، ومن أجل هذا أجيد غذاءه وأحسن علفه، وتراني بعد أعلمه الكفاح والصدام، والكر والفر، والإدبار والإقدام، والجول والصول، والكف والإحجام، وهو في كل ذلك مدبر بمشيئتي، رهن إشارتي، أصرف كما أهوى عنانه، ويحرك عقلي كما أود جثمانه، وهكذا شأن ليبيداس وحاله إلى حد ما، فهو بحاجة إلى أن يثقف ويؤدب ثم يؤمر أن ينطلق، ولا جرم فإنه لكهام
7
كليل الحد، صلد الزناد،
8
سطحي النظر، لا ينفذ بصره إلى الجوهر واللباب، ولا يهتك شعاع لحظه الظاهر إلى الباطن ولا المظاهر إلى الحقائق الكوامن، ولا تراه:
يستشف الأمور عما يوار
ين بعين جلية الإنسان
ولا:
ألمعيا يرى بأول ظن
آخر الأمر من وراء المغيب
إنما هو أخو تقليد ومحاكاة يتبع ولا يبتدع، ويقفو الأثر ولا يبتكر، ثم يأخذ من صنوف الصناعات وأفانين الفنون كل نفاية وحثالة وأشابة، مما قد سئمته النفوس ومجته الأذواق، وأصبح يعد عتيقا مطروقا ومبتذلا مذالا،
9
فيتناول أمثال هذه المتروكات الدارسة والأنقاض البالية، فيعتد بها ويزهى ويفاخر ويباهي، كما لو كانت من مؤتنفات الفن وبدائعه ومستحدثاته المونقة وروائعه، أو من سوانح الإلهام وشرائده، وجواهر الإحسان وفرائده. ألا لا تذكرنه إلا على أنه كبعض السلع والممتلكات والأمتعة، أو كبعض ما يستخدمه المرء في غاياته وأغراضه من الآلات والأدوات.
وبعد فلتصغين إلي يا أوكتافيوس، فإني محدثك بأمور خطيرة، إن بروتاس وكاسياس يعبئان الكتائب ويحشدانها، ولا بد لنا من ابتدارهما والإسراع إلى صدامهما، فلنعجل بإبرام الحلف مع أوليائنا، وبإحكام عقد أنصارنا وحلقتهم، وبلم شعثهم وجمع كلمتهم، ثم بإعداد أوفى العدة واتخاذ أتم الأهبة، ولنعقد بعد مجلس الشورى، ولنتوخ آمن الطرق لكشف المخبآت من الأمر، وإماطة اللثام عن الكامن المستسر من الخفايا، ثم لنتحر أحكم وسيلة، وأنجع علاج لمقاومة ما يهددنا من الآفات الموبقة
10
وسد ثغرات
11
الفتنة المنبثقة.
12
أوكتافيوس :
فلنصنعن كذلك؛ لأني أرانا بأحرج موقف وبشر مضيق ومرتطم.
13
تعتورنا
14
الأعداء من كل ناحية، وتساورنا
15
الأضداد من كل جانب، وإن من الضاحكين في وجوهنا من تنطوي لنا جوانحهم على ألف ألف إحنة وضغينة.
المنظر الثاني (أمام خيمة بروتاس بالمعسكر على كثب من سارديس (طبل)، يدخل بروتاس ولوسيلياس ولوسياس وجنود، يلقاهم تيتينياس وبنداراس.)
بروتاس :
مكانكما هنالك!
لوسيلياس :
فوها بالكلمة، ثم قفا.
بروتاس :
ماذا بعد ذلك يا لوسيلياس؟ هل كاسياس منا قمن؟
16
لوسيلياس :
أجل، إنه لقريب، وقد جاء بنداراس ليقرئك سلام مولاه.
17
بروتاس :
إنه ليقرئني السلام في حينه وإبانه.
18
إن مولاك يا بنداراس - لعوامل طرأت عليه بدلت حاله وغيرت خصاله، أو بوحي وإيعاز من إخوان السوء وخلان الفساد والمنكر - قد صنع ما جعلني أود أن ما كان لم يكن، وأن ما حدث ليته لم يحدث، وأما وهو منا الآن على كثب فسأناقشه الحساب لأقتنع.
بنداراس :
لا أشك مطلقا في أن مولاي الكريم سيبدو لك كعهدك به غاية في الوفاء والولاء والنبل والكرم.
بروتاس :
لا ريبة عندي في وفائه، لي معك كلمة يا لوسيلياس، خبرني كيف لاقاك؟
لوسيلياس :
باللائق الكافي من الأدب والاحترام، ولكن ليس بالمعهود فيه من التطلق
19
والانبساط، ومن العناية والحفاوة ولا بالمعروف عنده من التلطف والتودد والتفتح
20
والألفة.
بروتاس :
لقد وصفت لي يا لوسيلياس صديقا حميما قد دب الفتور في صداقته، وأخذت جمرة مودته تخمد وتخبو. ولتذكرن أبدا يا لوسيلياس أن المحبة متى بدأت تضمحل وتبلى، استشعرت التصنع والتكلف. إن المودة الصريحة الساذجة لا تحتاج إلى الحيل والخداع، ولكن الغدرة الخونة من الرجال كالخيل، ترى - وهي في أيدي قادتها الممسكين بأعنتها - نشطة حادة تتوثب وتتفزز وتدل وتتيه بما تدعيه من كرم وعتق وقوة، حتى إذا ما كابدت المهماز الدامي نكست
21
أعرافها،
22
ونكلت عن الغاية، وخارت فكبت وسقطت في المضمار. أقادم جيشه؟
لوسيلياس :
إنهم ينوون المبيت الليلة في سارديس،
23
أما معظم الفرسان فقادم مع كاسياس. (صوت زحف من الداخل.)
بروتاس :
أنصت! لقد قدم. سر رويدا
24
لتلقاه. (يدخل كاسياس وجنوده.)
كاسياس :
مكانكم!
بروتاس :
مكانكم! وانطقوا الكلمة فردا فردا.
الجندي الأول :
قفوا!
الجندي الثاني :
قفوا!
الجندي الثالث :
قفوا!
كاسياس :
أيها الأخ الأجل الأكرم، لقد آذيتني.
بروتاس :
أيتها الآلهة إنك على ما أتيت لشهيدة ولك الحكم والقضاء، فاقضي علي بما أنا أهله، أتراني أوذي أعدائي؟ فكيف وهذا طبي
25
ودأبي، أوذي أخي وحميمي؟
كاسياس :
بروتاس، إن وقارك هذا لغطاء مسدل يختفي وراءه ما تأتيه من الأذى، وإنك حين تأتي الضرر ...
بروتاس :
اتئد يا كاسياس وترزن وسكن من جأشك، وبث شكاواك في رفق وأناة، إني عليم بك وبكنه أحوالك.
لا تدعنا نتنابذ ونتشاحن بمرأى ومسمع من جنودنا الذين لا ينبغي أن يأنسوا منا سوى التحاب والتصافي، مرهم ينصرفوا ثم سر بنا إلى سرادقي، وهنالك أفض وأسهب في بث شكواك، أعرك أذنا صاغية.
كاسياس :
مر قوادنا ينسحبوا قليلا من هذا المكان بجنودهم يا بنداراس.
بروتاس :
وانح هذا النحو
26
يا لوسيلياس.
ولا تدع أحدا ما يدخل علينا السرادق حتى نفض حديثنا، وأقم لوسياس وتيتينياس على بابنا حارسين. (يخرجون)
المنظر الثالث (داخل خيمة بروتاس) (يدخل بروتاس وكاسياس.)
كاسياس :
أما كونك قد أسأت إلي، فبرهانه جلي واضح فيما أنا قائل: لقد قضيت على «لوسياس بيلا»، وشهرت به علنا، ومثلت به جهارا بتهمة أنه أخذ رشوة من أهل سرديس ها هنا، وقد كتبت إليك أشفع فيه عندك فلم تعر شفاعتي أدنى التفات، وضربت برسائلي عرض الحائط.
بروتاس :
لقد أسأت إلى نفسك وظلمتها بشفاعتك في أمر كهذا.
كاسياس :
إن في مثل هذا الوقت العصيب لا يصح التدقيق والتمحيص في شأن كل هفوة طفيفة.
بروتاس :
دعني أخبرك أنك آثم مذنب حرى أن يقضى عليك؛ لأنك ذو كف شرهة، إذ تبيع الفوائد والمنافع بالذهب لغير أهلها وأكفائها.
كاسياس :
أنا ذو كف شرهة؟! أنت تعلم أن الناطق بهذه الكلمة هو بروتاس، ولو غيرك فاه بها لكانت - وحق الآلهة - آخر كلماته.
بروتاس :
إن اسم كاسياس ليشرف من هذه الرشوة، ويكسوها ثوب الفضيلة!
27
فالعقوبة إزاء هذا خليقة أن تغض بصرها وتطأطئ رأسها ثم تستتر مهابة وخشية.
كاسياس :
العقوبة!
بروتاس :
تذكر شهر مارس؛ منتصف مارس، تذكر هذا، أولم يدم
28
يوليوس من أجل العدالة؟! أي وغد شرير ممن طعن يوليوس مس جسده من أجل شيء سوى العدالة؟ عجبا عجبا! أنحن الألى
29
ضربوا
30
أوحد أهل هذا العالم وإمامهم وسيدهم ونادرة الزمان وبكره ويتيمته، لا لعلة سوى أنه كان يجامل اللصوص - يليق بنا أن ندنس أيدينا بوصمة الرشوة، ونبيع دولة شرفنا الفيحاء البعيدة الأرجاء بحفنة من الذهب؟
لخير لي وأحب إلي أن أكون كلبا ينبح القمر من أن أكون رومانيا يقترف ذلك الإثم والعار، ويبوء بتلك الخسة والصغار.
كاسياس :
لا تحاولن احتبالي بمثل هذا الكلام فلن أحتمله
31
منك. لقد نسيت نفسك وجهلت قدرك؛ إذ حاولت أن تضرب على حدودا وقيودا، إني جندي وإني أكثر منك دربة
32
وأطول حنكة وأوسع باعا وأرحب ذراعا،
33
فما كنت وهذا شأني لأتاجر وأساوم.
بروتاس :
حسبك ودعني من هذا، إنك لست كما تزعم يا كاسياس.
كاسياس :
إني لكما أقول عن نفسي.
بروتاس :
إني أصرح بأنك لست كذلك.
كاسياس :
لا تثقلن علي وإلا تجاوزت بي حدي وأخرجتني من سجيتي
34
فنسيت معك نفسي، ولخير لك أن ترعى سلامتك وتحافظ على نفسك، وإياك أن تهجيني وتستفزني.
بروتاس :
اخسأ أيها المهين المحتقر!
كاسياس :
أعلى مثل هذا تجترئ؟ وإلى هذا الحد تذهب؟
بروتاس :
استمع إلي، فإني متكلم، أتحسب أني أنهزم أمام سطوات غضبك وأستكين وأستخذي لنزوات طيشك وجهلك؟ أتراني أراع وأذعر أن حملق إلي مجنون وحمج؟
كاسياس :
إني أعوذ بالآلهة! أحتم علي أن أحتمل كل هذا؟
بروتاس :
كل هذا؟ أي والآلهة وأكثر، فلتتحرقن حردا ولتتلظين موجدة وغضبا، حتى ينفطر قلبك المتكبر المتعاظم، ولتذهبن إلى عبيدك، فلتستشيطن عليهم غيظا، ولترعدن فرائصهم فزعا وهلعا، أفتراني أهابك وأخشاك وأنكص أمامك وأنكل؟ ثم أعنو لك وأخشع؟ أتراني أتضاءل وأذل مخافة نزقك ورعونتك، فأجثوا لك وأركع؟ كلا! فوحق الآلهة ليردن كيدك في نحرك، ولتحيقن بك سورة حنقك، ولتسيغن في أحشائك سم ضغنك وغلك، ولو تصدعت منه جوانحك وتحطمت أضلاعك. واعلم أني من الآن فصاعدا جاعلك أضحوكتي، ومجال هزئي وسخريتي كلما بدرت بوادر شرك وكيدك.
كاسياس :
أبلغ الأمر إلى ذلك؟
بروتاس :
تقول إنك أصدق مني قتالا وأشد بالحرب اضطلاعا وأرحب ذراعا، فلتصدق مقالك بفعالك، ولتبد لنا ما هنالك، ولتفرغن جعبتك، ولتنثرن كنانتك، ولتثبتن صدق مزعمك ودعواك أسر به وأغتبط، فإني لأهش إلى استفادة الفضل من ذويه وأهليه.
كاسياس :
إنك لتسيء إلي من كل جانب، إنك لتؤذيني يا بروتاس.
إنما قلت: إني أسن منك في الحروب وأطول أمدا، ولم أقل أعلم بها منك ولا أبصر ولا أحذق بتصريفها ولا ألبق
35
ولا أصدق طعانا، ولاأذرب
36
سنانا، أو قد قلت: إني أبسل الفارسين وأشجع الكميين؟
37
بروتاس :
إن تكن قلته، فإني لا أحفل ولا أبالي.
كاسياس :
إن قيصر لم يكن إبان حياته ليجرؤ على استثارتي وتهييجي إلى مثل هذا الحد.
بروتاس :
على رسلك، على رسلك! إنك ما كنت لتجترئ على أن تهيجه إلى هذا الحد.
كاسياس :
لم أكن لأجترئ؟
بروتاس :
كلا.
كاسياس :
عجبا، لم أكن لأجترئ على استثارته وتهييجه؟
بروتاس :
كلا، ولو رأيت حياتك مهددة.
كاسياس :
لا تبالغ في إدلالك علي وتسحبك على وداعتي وحلمي اتكالا على مودتي لك وولائي؛ لئلا أفعل ما عسى أن أندم عليه.
بروتاس :
لقد فعلت ما يجب أن تندم عليه يا كاسياس، إنه لا ضير علي من تهديدك وإنذارك، فأبرق وأرعد
38
ما شئت يا كاسياس، فما وعيدك لي بضائر، إني متحصن في أمنع معقل من الأمانة، مدجج في أتم سلاح من الشرف والنزاهة، مدرع أسبغ نثرة
39
من العفة وأحصد مفاضة،
40
ومن أجل ذلك لا أعبأ بتهديدك إلا كما أعبأ بمر الرياح اللواعب العوابث.
41
لقد بعثت إليك أطلب بدرا من الذهب، فأبيتها علي؛ وإنما سألتك ذلك لأني لا أستطيع جلب المال بمرذول الوسائل، وإني - والسموات العلا - لأهون على أن أستل قلبي من جوانحي، فأبعث به إلى من يضربه نقدا ويسبكه ويصوغه سكة
42
وأستقطر دمي دريهمات
43
من أن أبتذ بالباطل خبيث المعدن من الفلاحين أو أعتصر رخيص النحاس من أكفهم الجعدة
44
الخشنة، وأناملهم المشنجة الشثنة .
45
لقد بعثت إليك أطلب من المال ما أنفقه على جنودي فمنعتني ذلك، أهذا شبيه بكاسياس ونبله وكمال مروءته؟
أرأيت لو أن كاياس كاسياس سامني ذلك، أكنت سالكا به هذا المسلك؟ إذا بلغ ماركاس بروتاس من الشح واللؤم يوما أنه راح يدخر خسيس النقد ومرذوله دون أصدقائه، فانبري له أيتها الآلهة بصواعق نقمتك وعذابك، فاسحقيه سحقا؟
كاسياس :
لم أمنعك ولم آب عليك شيئا.
بروتاس :
لقد أبيت علي وحرمتني.
كاسياس :
لم أفعل، إن الذي حمل إليك جوابي لمأفون أحمق، ويحي من بروتاس! لقد فتت مهجتي وصدع كبدي، وقد كان أحرى بالصديق وأخلق لو أغضى على عورات خله وطوى عليها كشحا، ولكن بروتاس يجسم من عيبي ما صغر، ويعظم من ذنبي ما دق
46
وحقر.
بروتاس :
أنا لا أصنع ذلك إلا حينما تبتليني بها
47
في معاملتك إياي.
كاسياس :
إنك لا تحبني.
بروتاس :
أنا لا أستحسن سقطاتك وزلاتك.
كاسياس :
إن عين المحب الودود لجديرة أن تكون عن أمثال هذه الزلات كليلة حسيرة.
48
بروتاس :
بل إن عين المتملق الخداع هي التي تأبى اعترافا بعيوب المعيب، وإن هي بدت أضخم من هضاب «أوليمب» وأجل من شماريخه.
كاسياس :
هلم الآن يا مارك أنطانيوس، وهلم أيها الحدث الناشئ أوكتافيوس هلما أيها الرجلان فاقتصا من كاسياس وحده واثأرا، فلقد مل كاسياس الثواء في هذه الدنيا، وقد سئم تكاليف الحياة
49
وجشمها.
50
وكيف لا تكون تلك حاله وقد أصبح كريها مبغضا إلى الخل الوفي والصديق الحميم؛ ينابذه صاحبه، ويناصبه العداوة أخوه، محصورا مضيقا عليه، تعد عليه هفواته، وتحصى وتحسب وتدون في الصحف، وتسجل وتحفظ وتستظهر؛
51
لينبذ بها ويقذف ويعير بها في وجهه، وكذلك يراقب وتقام عليه الأرصاد.
52
يا للآلهة! لوددت أني بكيت حتى تسيل نفسي، وتفيض روحي مدامع من المآقي!
53
هاك خنجري، وها هو صدري عاريا مكشوفا، وإن في طيه لفؤادا أنفس من كنوز «بلوتاس»
54
وأغلى من الذهب.
فإن كنت حقا روماني الحسب والنسب فافتلذه واختلسه، وإذ ذاك تعلم أني أنا الذي منعتك الذهب، منحتك فؤادي.
ألا فلتطعنن ولتضربن كما صنعت بقيصر ، فقد أعلم أنك ساعة كنت أشد مقتا له وألد عداوة، كنت أعطف عليه منك على كاسياس وأصدق محبة وأصفى ودادا.
بروتاس :
اغمد خنجرك! اغضب متى شئت وكما شئت، فسأفسح مجالا لسطوات غضبك، وافعل ما بدا لك، فسأغضي لك على الخسيسة والدنيئة وأعدها منك نزوة من نزوات الأهواء الشاردة، وفلتة من فلتات الشهوات الطارئة.
ولتعلمن بعد يا كاسياس أنك تصطحب مني شريك عنان
55
سلس المقادة، سهل الجانب، لين العريكة، جم الحلم والصبر والتؤدة والأناة، رزينا ركينا، ثبت الأساس، رصين الناحية، لا يزعزع ركنه ولا تستطار حبوته،
56
يكمن الغضب في صدره كمون
57
النار في الزناد، إذا ألح عليه قدحا أرسل شرارة طائحة لا تظهر حتى تضمحل،
58
ثم يعود إلى سيرته الأولى من الجمود والبرودة.
كاسياس :
أوقد بقي كاسياس ليكون ضحكة
59
بروتاس وسخريته، يتفكه منه
60
ويتهكم عليه ويلهو بلحيته؛
61
إذ هو في كربة كاربة من الهم والغم يقاسي برحاء الكمد ولوعة الأسى.
بروتاس :
لقد كنت حين فهت بذلك الكلام في كربة وغم أيضا.
كاسياس :
أبذلك تعترف؟ هات يدك.
بروتاس :
وقلبي أيضا.
كاسياس :
أي بروتاس!
بروتاس :
ما خطبك؟
كاسياس :
أليس لي في قلبك من الحب ما يحملك على مصابرتي وموادعتي كلما ثار بي من بوادر الجهل
62
والسفه ما قد أورثتنيه أمي، فأنساني الفرض اللازم، وأذهلني عن الحق الواجب؟
بروتاس :
بلى يا كاسياس، وقد آليت على نفسي أنه من الآن فصاعدا إذا خشنت لي القول وأغلظت لي في الخطاب لأحسبن ذلك التعنيف والزجر صادرا عن أمك لا عنك فأدعك وشأنك. (ضوضاء من الداخل.)
شاعر (من الداخل) :
دعوني أدخل لألقى القائدين إن بينهما لترة وذحلا، وليس يحسن أن يلبثا معا في خلوة.
63
لوسيلياس (من الداخل) :
لن تدخل عليهما.
الشاعر (من الداخل) :
لن يمنعني من ذلك إلا الموت. (يدخل الشاعر يتبعه لوسيلياس وتيتينياس ولوسياس.)
كاسياس :
ما هذا وما خطبكم؟
الشاعر :
عار عليكما أيها القائدان، ماذا تعنيان وتقصدان؟
تصافحا وتصافيا وتحابا وتآلفا كما هو حرى بمن كانا مثلكما صديقين حميمين، وأصغيا إلى نصيحتي، واعملا بمشورتي، فإني عشت من العمر أطول مما عشتما، ورأيت من حوادث الدهر أكثر مما رأيتما.
64
كاسياس :
ما أغث
65
وما أسخف نظم هذا الرجل الجافي الفظ الوقاح!
بروتاس :
انصرف من ها هنا يا هذا، اذهب أيها السمج الوقاح!
كاسياس :
احتمله يا بروتاس، إن هذا دأبه وديدنه.
بروتاس :
لقد كنت أحتمله وأجاريه لو أنه عرف كيف يتحين الظرف المناسب والفرصة الملائمة.
ما للحروب ولأولئك الوزانين الطنانين من السفهاء والنوكى؟!
66
انصرف من ها هنا أيها الرجل!
كاسياس :
انصرف يا هذا! (يخرج الشاعر.)
بروتاس :
لوسيلياس وتيتنياس:
مرا القواد أن يأخذوا الأهبة لمثوى كتائبهم الليلة.
كاسياس :
ثم عودا ومعكما ميسالا على عجل. (يخرج لوسيلياس وتيتنياس.)
بروتاس :
لوسياس، قدحا من الراح! (يخرج لوسياس.)
كاسياس :
ما كنت أحسب أن الغضب قد يبلغ منك هذا المبلغ.
بروتاس :
أي كاسياس، إني لتساورني هموم عدة.
كاسياس :
لم تنتفع بحكمتك ولم تجن ثمار فلسفتك إن كنت لطارئ الملمات تعنو وتخشع، ولداهم المحن والنكبات تخور وتهن.
بروتاس :
كلا يا كاسياس، ما أحسب أن في الناس من هو أصبر مني على احتمال المصائب ولا أجلد على مضض الحزن وبرحاء الجوى. لقد ماتت بورشيا.
كاسياس :
ويحي! بورشيا؟!
بروتاس :
لقد ماتت.
كاسياس :
كيف لم تقتلني حينما انبريت أماريك وأعارضك! يا للفاجعة ويا للمصيبة! ويا للرزء القادح،
67
والثقل الفادح! بأي داء وعلة؟
بروتاس :
جزعا لغييتي، وفرط أسف لما رأت من عظيم استعداد أوكتافيوس الصغير ومارك أنطانيوس وحشدهما الجيش اللهم
68
والخميس
69
العرموم، فإن أنباء هذا الحشد والتعبئة وافتنا مع نعيها، لقد أودى بعقلها الجزع، وأطاح الوجد رشدها وصوابها، فالتهمت وهي على تلك الحال جذى
70
من النار.
كاسياس :
وهكذا ومن جراء ذلك قضت.
71
بروتاس :
أجل هكذا ومن جراء ذلك.
كاسياس :
حنانيك أيتها الآلهة الأزلية السرمدية! (يعود لوسياس بخمر وشموع.)
بروتاس :
عد
72
عن ذكرها وناولني قدحا من السلاف أدفن فيه كل ما أعاني من عنت وإرهاق، وكل ما أكابد من مضض وقسوة يا كاسياس. (يشرب)
كاسياس :
إن كبدي إلى ذلك الرحيق عنوان الوفاء وآية الصفاء لظمئة حرى، فاترع الكأس حتى تشرق وتفهق يا لوسياس، فلا ملل عندي للشراب أحتسيه في حب بروتاس مهما أكثرت منه وأفرطت. (يشرب)
بروتاس :
ادخل يا تيتيناس (يخرج لوسياس) (يدخل تيتيناس وميسالا) .
مرحبا بالبر الكريم ميسالا، لنجلسن حول هذه الشمعة، فنناقش فيما يجب علينا أن نفعل.
كاسياس :
بورشيا! أوقد أودى بك الدهر؟
بروتاس :
دعنا من هذا، ناشدتك الآلهة!
أي ميسالا، لقد وردت إلى رسائل تنبئني أن الفتى أوكتافيوس، ومارك أنطانيوس يزحفان علينا بجيش جرار، وأنهما يعمدان إلى «فيليبي».
ميسالا :
وعندي أيضا رسائل بهذا الشأن.
بروتاس :
هل بها من نبأ جديد؟
ميسالا :
إنه بناء على حكم الإعدام، وطبقا لقوانين الخروج والعصيان، قد أعدم أوكتافيوس وأنطانيوس وليبيداس مائة من مجلس الشيوخ.
بروتاس :
إن رسائلي من هذه الوجهة لا تطابق رسائلك، فقد جاء فيما لدي أن عدد من نفذ عليهم حكم الإعدام سبعون من الشيوخ، أحدهم شيشيرون.
كاسياس :
أحدهم شيشيرون؟!
ميسالا :
أجل، لقد أعدم شيشيرون طبقا لحكم الإعدام الآنف الذكر.
أعندك رسائل من زوجتك يا مولاي؟
بروتاس :
كلا يا ميسالا.
ميسالا :
ولا جاء برسائلك أنباء عنها؟
بروتاس :
لا نبأ البتة يا ميسالا.
ميسالا :
إن ذلك فيما أرى لعجيب.
بروتاس :
فيم تساؤلك عن هذا؟
أجاء عنها في رسائلك أنت خبر ما؟
ميسالا :
كلا يا مولاي.
بروتاس :
أفض إلي بالحقيقة كما هو خليق بكل روماني محض صريح.
ميسالا :
إذن فأصغ إلى الحقيقة إصغاء روماني محض صريح، لقد لقيت حتفها حقا وبأسلوب غريب.
بروتاس :
في ذمة الآلهة يا بورشيا وسلاما ورضوانا! كل امرئ لا محالة هالك.
73
أني لما وطنت نفسي عليه
74
من أن بورشيا ستموت يوما ما إن عاجلا أو آجلا لاقيت صدمة الفاجعة بجأش رابط وصبر جميل.
ميسالا :
وكذلك يتجلد الرجل العظيم للخطب العظيم، ويتماسك البطل الجليل تحت الرزء الجليل.
كاسياس :
إن مذهبي الفلسفي ليأمرني بمثل ما به تأتمر وإليه تعمد، ولكن نفسي لا تطيق احتماله وتضيق به ذرعا.
بروتاس :
دعنا من ذكر الموتى، وخذ بنا في حديث الأحياء وما يجب علينا تلقاءهم، ماذا تقول في الزحف على فيليبي من الآن؟
كاسياس :
لا أرى وجه الصواب في ذلك.
بروتاوس :
ما حجتك؟
كاسياس :
هذه حجتي؛ إنه خير لنا أن يطلبنا العدو، فإن في طلبه إيانا مضيعة لذخيرته وعدته، مسأمة لجنوده، مضرة لنفسه، ونحن أثناء ذلك نظل في دعة وراحة، بخير حال من التحرز والحصانة وأوفر نصيب من الحدة والنشاط.
بروتاس :
إن البرهان الواضح ليذعن لما هو منه أوضح، أنت تعلم أن الشعب القاطن فيما بين «فيليبي» وهذه البقعة إنما يبدون لنا من التحبب خلاف ما يضمرون، فعلى الرغم وعلى الكره منهم يتظاهرون لنا بالولاء والمودة، ولقد أبوا معونتنا وإمدادنا.
فإذا ما مر بهم العدو استمدهم واسترفدهم، فكثر منهم عدده، وكاثف عدده، ثم وافانا منتعشا موفور المنة،
75
مستجمع القوى، كل هذه المزايا نستطيع منعها عنه، وقطعها من دونه إذا نحن زحفنا عليه فلاقيناه في «فيليبي»، تاركين ذلك الشعب وراء ظهورنا.
كاسياس :
أنصت إلي يا أخياه.
بروتاس :
مهلا ولا تؤاخذني!
76
لا تنسين أننا قد استنفدنا أقصى ما لدى أوليائنا من المدد والمعونة، وإننا قد حشدنا أكثر ما نستطيع حشده من الجنود، حتى اكتظت كتائبنا واستفاضت، وإن حجتنا اليوم قد أشرقت وتبلج وجه عذرنا وأسفر.
وإن جيش العدو ليتكاثر من يوم لآخر ويتزايد، أما جيشنا فقد تناهى كثرة وبلغ أقصى مداه وغايته، فأصبح يخشى تناقصه ويتوقع هزاله.
ولتعلمن بعد أن الإنسان في مجرى حياته وتيار شئونه قد يصادف الفرصة السعيدة، والساعة الميمونة فتعرض له العناية بفيض من الإمداد وطوفان من النصر والفتوح، فإذا اغتنم الفرصة واندفع في تيار ذلك الفيض، وقبض على ناصيته أفضى به إلى النجح، وأداه إلى ساحل الغنم والسلامة.
أما إذا تلكأ وتوانى ففاتته الفرصة وأفلتت من يديه
77
راحت سفينته تتعثر به بين الصخور والجنادل، وترتطم به في الضحاضيح
78
والأضحال، فأوقعته في كربة ومحنة.
ونحن الآن أمام هذه الفرصة نمتطي صهوة ذلك الطوفان، ونقتعد غارب ذاك العباب، فعلينا أن نجري مع التيار الذي أتيح لنا، وإلا أضعنا ثروتنا وخسرنا متاعنا.
كاسياس :
إذن فسر كما تشاء وتشتهي، وسنتوجه نحن أيضا لنلقى العدو عند «فيليبي».
بروتاس :
لقد دب إلينا جوف الليل، ومر بنا نصفه، وأرى الطاقة البشرية جديرة أن تذعن لحكم الضرورة، فواجب علينا أن نبذل لها النزر اليسير من الراحة.
لا حديث بعد الآن.
كاسياس :
أجل لا حديث بعد الآن، سعدت ليلتك، وطابت رقدتك، سنبكر قياما ثم نرحل.
بروتاس :
لوسياس (يدخل لوسياس) .
رداء النوم (يخرج لوسياس) .
إلى الملتقى يا ميسالا التقي النقي، طبت ليلة يا تيتنياس، أيها الأنبل الأشرف ميسالا، طبت ليلة وهجعة.
كاسياس :
أيها العزيز الأحب بروتاس، لقد ساءت فاتحة هذه الليلة، وخبثت بدايتها، فلا تنافرت روحانا بعد ذلك، ولا انفصمت عروة إخائنا أبدا، أي بروتاس لا تدع مثل ذلك يحدث البتة.
بروتاس :
كل شيء على ما يرام ويشتهى.
كاسياس :
طبت ليلة يا مولاي.
بروتاس :
طبت ليلة يا أخياه.
تيتنياس وميسالا :
طبت ليلة أيها المولى بروتاس.
بروتاس :
طبتم ليلة أجمعين (يخرج كاسياس وتيتنياس وميسالا) (يرجع لوسياس برداء النوم) .
أعطني رداء النوم، أين معزفك؟
لوسياس :
في الخيمة.
بروتاس :
لقد أقصدك
79
النعاس حتى بدا ثقله في لفظك، وفتوره في صوتك.
أنا لا ألومك، لقد جهدك السهر وأعياك.
ادع كلودياس ورجلا آخر من رجالي سأتركهما ينامان على فرش في سرادقي.
لوسياس :
فارو، كلودياس!
فارو :
أيدعوني مولاي؟
بروتاس :
إني أرجوكما أن تناما في سرادقي، فلعلي أنبهكما حينا ما لأرسلكما في بعض حاجتي وشأني إلى أخي كاسياس.
فارو :
إذا شئت يا مولاي لبثنا قائمين حراسة على بابك.
بروتاس :
أنا لا أريد ذلك، اضطجعا فناما.
فلعلي عادل عن رأيي بعد برهة.
التفت إلي يا لوسياس، هاك الكتاب الذي كنت عنه أبحث وأفتش، لقد كنت وضعته في جيب ردائي. (يضطجع فارو وكلودياس.)
لوسياس :
لقد علمت علم اليقين أن مولاي لم يسلمه إلي.
بروتاس :
تجاوز عما أقوله يا غلام، فإني كثير النسيان.
ألا تستطيع أن ترفع جفنيك المثقلين، وتفتح عينيك المرنقتين
80
برهة من الوقت، ثم تعزف لي على مزهرك لحنا أو اثنين.
لوسياس :
بلى يا مولاي إن تشأ، وكان هذا مما يسرك.
بروتاس :
إنه ليسرني يا غلامي، لشد ما ألححت
81
عليك إضجارا ونصبا ، ولكنك طيع
82
مذعان.
هذا علي فرض واجب يا مولاي.
بروتاس :
ما وددت قط أني حملتك في واجبك فوق طاقتك، فلقد أعلم أن الغلمة والأحداث يتلمسون أوقات الراحة.
لوسياس :
لقد أخذت بقسط من النوم يا مولاي.
بروتاس :
خيرا صنعت وستعاود النوم عما قليل، فلن أحجزك طويلا، ولئن عشت لأحسنن إليك، ولأكرمن مثواك (عزف وغناء) .
هذا لحن متيم، تعسا لك أيها النوم، ما أشد فتكاتك وسطواتك! أإن أقبل عليك غلامي يغنيك ويعزف لك أنحيت عليه بمخصرتك.
83
طبت ليلة أيها الصبي السمح الوديع، لن أوذيك بإيقاظك من سنة النعاس الغالبة، فعسى تهويمة
84
منك تحطم مزهرك. هاته وطبت ليلة يا غلام، أرني، أرني، أليست الصحيفة مطوية حيث انتهيت من القراءة؟ ها هي فيما أرى (يجلس) (يدخل خيال قيصر) .
ما أسوأ ضوء الشمعة! عجبا! عجبا! من القادم؟ ما أحسب إلا أن ضعف بصري هو الذي خيل
85
إلي هذا الشبح الفظيع، إنه ليدنو مني، أأنت شيء كائن؟
أإله أم ملك أم شيطان؟
خبرني ماذا عسى أن تكون؟
الخيال :
أنا شيطانك المنتقم يا بروتاس.
بروتاس :
وفيم قدومك الساعة؟
الخيال :
لأنبئك أنك ملاقي في فيليبي.
بروتاس :
إذن سوف أراك ثانيا.
الخيال :
أجل في فيليبي.
بروتاس :
لا بأس، سألقاك إذن في فيليبي (الخيال يملس) .
أما وقد أملست فلقد هدأ روعي وسكن جأشي.
أي شيطاني المنتقم! أود لو أستزيد من خطابك وحوارك، لوسياس أيها الغلام، يا فارو! كلودياس، انتبهوا يا قوم! كلودياس!
لوسياس :
الأوتار مختلة الأوزان يا مولاي.
بروتاس :
يخيل إليه أنه لا يزال يعالج معزفه، تيقظ يا لوسياس.
لوسياس :
مولاي؟
بروتاس :
هل أريت في الحلم أنك صرخت يا لوسياس؟
لوسياس :
مولاي، لا أعرف أني صرخت.
بروتاس :
الواقع أنك صرخت يا لوسياس، ألم تر قط شيئا!
لوسياس :
ألم أر شيئا قط.
بروتاس :
عد إلى النوم يا لوسياس، أي كلودياس! (إلى فارو)
يا هذا تيقظ!
فارو :
مولاي!
كلودياس :
مولاي!
بروتاس :
لماذا صرختما ذلك الصراخ المنكر في مناكما؟
فارو، كلودياس :
أوقد صرخنا أيها المولى الجليل؟
بروتاس :
بلى، هل بصرتما بشيء؟
فارو :
كلا يا مولاي ما بصرت بشيء قط.
كلودياس :
ولا أنا يا مولاي.
بروتاس :
اذهبا واحملا سلامي إلى أخي كاسياس، ومراه أن يبكر زحفا بجنوده، وإنا على أثره لغادون.
فارو، كلودياس :
ليكونن ذلك أيها المولى الجليل. (يخرجان)
الفصل الخامس
سهول فيليبي (يدخل أوكتافيوس، أنطانيوس وجيشهما.)
أوكتافيوس :
لقد تحققت آمالنا يا أنطانيوس. لقد خبرتني أن العدو لن يهبط بل سيبقى بالتلول والنجاد.
1
ولقد بدا الأمر على خلاف ذلك؛ إذ دنت جنودهم حتى صارت منا على أدنى مدى،
2
ولعلهم يريدون أن يستفزونا إلى القتال ها هنا في فيليبي، فهم بذلك يسبقون سؤالنا إياهم بالإجابة، ويبادرون إلى تحصنهم منا قبل الغارة عليهم.
أنطانيوس :
هراء وعبث، لكأني محدث بما في ضمائرهم، مطلع على خبايا سرائرهم، فأنا أعلم يقينا ما الذي حدا بهم إلى سلوك تلك الخطة.
إنه ليسرهم أن يمروا بأماكن أخرى ثم يهبطون متظاهرين بالجرأة المفزعة، والبسالة المرهبة المروعة، ليلقوا في روعنا وعقيدتنا أنهم من الشجاعة بالمكان الأسمى.
ولكن الأمر على خلاف ذلك. (يدخل الرسول.)
الرسول :
تأهبا أيها القائدان، إن العدو لزاحف، وهو يبدي جرأة وبسالة، قد صعر خده الزهو والصلف ورنح أعطافه التيه والخيلاء.
ولقد رفعوا الراية
3
القانية المدماة وعيدا وإنذارا، فلا بد والحالة هذه أن نبادر إلى ما نستقبل به هذا الخطر المباغت.
أنطانيوس :
اسمع مني يا أوكتافيوس، سر بجندك رويدا مترفقا على يسار الساحة المنبسطة.
أوكتافيوس :
بل على يمينها سأظل، التزم أنت يسارها.
أنطانيوس :
لم تعارضني في هذه الأزمة الحرجة.
أوكتافيوس :
أنا لا أعارضك، وإنما عزمت على ذلك وأصررت، ولسوف أفعله. (زحف) (طبول، يدخل بروتاس وكاسياس وجنودهما، ولوسيلياس وتيتنياس وميسالا وآخرون.)
بروتاس :
إنهم واقفون ويودون المفاوضة.
كاسياس :
اثبت يا تيتنياس، إنه لا بد لنا من مخاطبة القوم.
أوكتافيوس :
أي مارك أنطانيوس، أنعلن إشارة القتال؟
أنطانيوس :
كلا يا قيصر، إنما ننتظر هجومهم، ثم نجيب على حملتهم بما لدينا من حول وقوة.
تأمل! إن القواد يريدون خطابنا ليتبادلوا معنا بضع كلمات.
أوكتافيوس :
لا تتحرك حتى تبدو منهم الإشارة.
بروتاس :
المكالمة قبل الملاكمة يا بني الأوطان، أليس ذلك بصواب؟
أوكتافيوس :
إذا وافقنا على هذا، فليس لأننا نؤثر الكلام، وأن القول أحب إلينا من الفعل، كما هو شأنكم ومذهبكم.
4
بروتاس :
اعلمن يا أوكتافيوس أن حسن الكلام خير من سيئ الضرب والصدام.
أنطانيوس :
إنك لتشمع مساوئ ضرباتك بمحاسن كلماتك، ألا تذكر الصدع الذي صدعته في فؤاد قيصر، وأنت إذ ذاك تهتف وتصيح: «فليعش قيصر ومرحبا بقيصر.»
كاسياس :
مارك أنطانيوس، إنه لم يبن بعد، ولم يعلم منحى ضرباتك ووجهتها.
أما عن خلابة لسانك، وسحر بيانك، فحدث ولا حرج، لكأنك - والآلهة - لحلاوة لفظك وعذوبة نغمتك تسلب خلايا نحل «هيبلا»
5
وتتركها خلوا من العسل.
أنطانيوس :
إن ألفاظي إن استعارت أعسال ذلك النحل فهي لا تستعير حماته
6
وإبره.
7
بروتاس :
كلا بل إن ألفاظك لتستعير حلاوته وإبره ودويه، ألم تر - يا أنطانيوس - كيف سلبته طنينه، ولذلك نراك تتهدد وتتوعد قبل لسعك ولذعك؟
أنطانيوس :
أيها الفجار الأشرار، إنكم لم تصنعوا صنيعي هذا يوم اصطكت خناجركم الممقوتة بين جوانح قيصر وضلوعه، بل لقد كنتم وقتئذ تفترون عن أنيابكم وتبدون نواجذكم كالقردة، وتبصبصون بأذنابكم كالكلاب الصائدة وتتحانون كالعبيد والأسرى تلثمون قدم قيصر، بينما اللعين كاسكا حمل كالكلب على قفا قيصر فطعنه في وديجه، فتعسا لكم ونكسا يا زمرة المنافقين المرائين.
كاسياس :
المنافقين المرائين!
أي بروتاس: اشكر نفسك وأثن عليها بما هي أهله!
8
واعلم أن هذا اللسان
9
ما كان لينبذ بمثل هذا القذف والثلب لو أنكم عولتم على مشورة كاسياس ونفذتم رأيه.
10
أوكتافيوس :
دعكم من هذا العبث، واعمدوا إلى جوهر الأمر ولبابه، إذا كانت المحاججة والمناضلة ستفضح جباهنا عرقا، فإن إقامة البرهان بالأسنة والظبا سوف تستمطر من القطرات ما هو أشد احمرارا من العرق.
تأملوا!
إني أجرد سيفا في وجوه المتآمرين الغدرة، فمتى ترى هذا السيف يغمد في جفنه ثانيا؟
إن هذا لن يكون حتى آخذ بالثأر لجراح قيصر الثلاثة والثلاثين، أو يروح قيصر آخر
11
ضحية وفريسة للغدرة الخونة، وجزرا لنصالهم وطعمة.
بروتاس قيصر :
إنك لن تغتال
12
بأيدي الخونة إلا إذا كنت قد استصحبتهم وأحطت نفسك بهم.
13
أوكتافيوس :
أرجو ألا يكون من الأمر إلا ذلك،
14
فإني - والآلهة - لم أخلق ولم أكن ولم أسل من غمد الغيب
15
إلى مجال الحياة لأموت بسيف بروتاس وتسيل نفسي على ظباه.
بروتاس :
أما لو كنت خير عشيرتك، وسيد قومك، وأشرف أهل جلدتك، لما طمعت في قتلة تكون أكرم لك وأعز وأمجد من أن تموت بحد سيفي أيهذا الحدث.
كاسياس :
ما أراه إلا صبيا نزقا، أخرق غرا، أرعن غير أهل لمثل هذه القتلة الشريفة والميتة النبيلة، ولقد زامل واصطحب عربيدا
16
فاسقا
17
مستهترا طالحا غويا فاجرا
18
ماجنا خليعا.
أنطانيوس :
لا تزال كسالف عهدنا بك؛ كاسياس العياب السباب الغماز الهمزة
19
اللمزة
20
البذيء السلط الخبيث اللسان.
أوكتافيوس :
هلم بنا يا أنطانيوس! أيها الخونة إنا لنقذف في وجوهكم بالوعيد، وإنا لكم لبالمرصاد.
21
فإذا جرؤتم على القتال اليوم، فهلموا إلى الميدان، وإلا فالبثوا ريثما تؤاتيكم طبائعكم وتطاوعكم نفوسكم. (يخرج أنطانيوس وأوكتافيوس وجنودهما.)
كاسياس :
ماذا يؤمل بعد هذا؟
اعصفي أيتها الأعاصير
22
الثائرة، وطيحي أيتها اللجة الزاخرة، وانطلقي أيتها السفينة!
لقد ثارت العاصفة، وأحدق بنا الخطر، وأسلمنا الدهر بكف القضاء،
23
فلتصنع بنا الأقدار ما هي صانعة.
بروتاس :
لوسيلياس، لي معك كلمة على حدة.
لوسيلياس (يتقدم) :
مولاي؟ (بروتاس ولوسيلياس يتحادثان على انفراد.)
كاسياس :
ميسالا!
ميسالا (يتقدم) :
ماذا يقول مولاي القائد؟
كاسياس :
ميسالا، هذا يوم ميلادي!
في مثل هذا اليوم ذاته ولد كاسياس.
أعطني يدك يا ميسالا، كن على ما أقول شهيدا، إني علي الكره وعلى الرغم مني - كما جرى للزعيم «بومبي» من قبلي
24 - أضطر اليوم إلى المخاطرة بتراث حريتنا الأقدس، وذخر استقلالنا الأعز الأنفس، في غمار موقعة واحدة، عقباها إما الحرية والنجاة وإما الذل والخسران.
أنت تعلم أني على مذهب «أيبيكور» شديد التمسك بمبادئه، راسخ العقيدة في تعاليمه.
25
فلتعلمن اليوم أنى قد غيرت رأيي، وبدلت عقيدتي، وأصبحت أصدق بالفأل والزجر والعيافة والتكهن وأومن بالطوالع - أسعدها وأنحسها - وبالنذر والبشائر ...
وإنى بعد مخبرك أنه بينما نحن على طريقنا من «سارديس» إلى ها هنا وقع على لوائنا الأمامي نسران عظيمان، فجثما
26
ثمت يزدردان الزاد ويسترطانه
27
من أكف جنودنا وقد زاملا الجيش أثناء زحفه، ورافقاه طول مسيره حتى هبطا معه فيليبي ها هنا.
ولكنهما قد طارا اليوم وارتحلا، وأعقبهما وحل محلهما غربان
28
وحدآن ترفرف من فوق رءوسنا وتطل علينا وتشرف كما لو كنا فرائس مدنفة
29
وهنى،
30
وأحراضا
31
هلكى، ولقد أظلتنا من شخوصها سحابة شؤم، وامتد منها فوق هامنا سرادق نحس أصبح الجيش من تحته على شر حال، كأنما قد حان حينه
32
وأوشكت أن تفيض روحه.
ميسالا :
لا تؤمنن بأمثال هذه الأوهام.
كاسياس :
أنا لا أومن بها إيمانا تاما مطلقا، وإني بعد لمتوقد الحمية، طامح الهمة، منصلت العزيمة، موطن النفس على ركوب كل خطر وهول وخوض كل هلكة وقحمة، في أربط جأش وأتم ركانة
33
وثبات.
بروتاس :
هذا هو الواقع يا لوسيلياس.
كاسياس :
أيها الأجل الأشرف بروتاس! كلأتنا الآلهة بالرعاية ولحظتنا بعين العناية، ومدت آجالنا في سبيل الأمان وبين أكناف
34
الدعة والسلام إلى مدى الهرم والشيخوخة! وبعد فلما كانت شئون الناس لا تزال قلقة مضطربة لم تستقر على حال من الهدوء والطمأنينة، ولم تنته بحسم النزاع، وفصل الخطاب إلى غاية من الوضوح والاستبانة، واستعلاء الحق وهزيمة الباطل؛ فلنبحث فيما عسى أن تئول إليه هذه الحال، ولننظر ما سيكون لو وقع من الأمر أسوؤه ومن البلاء شره وأنكله. فلتعلمن أننا إذا بؤنا من هذه الحروب بالهزيمة وأسفرت الموقعة القادمة عن فشلنا وخيبتنا؛ فإن هذه الآونة تكون آخر مجتمعنا ومتحدثنا.
فنبئني ماذا أنت فاعل؟
بروتاس :
إني عملا بتلك العقيدة الفلسفية - التي من أجلها أنكرت على «كاتو» ما جناه على نفسه من إعدامها - أرى من الجبن والخسة أن يختصر الإنسان بالانتحار مسافة عمره، ويقتضب مدى أجله؛ خشية ما قد يصيبه من هموم ومتاعب.
لذلك أوثر أن أتدرع الصبر والأناة، وأتحصن بالجلد والرزانة؛ ارتقاب ما عسى أن تكون العناية السرمدية قد ادخرته لكشف غمتي من أسباب اليسر والفرج.
كاسياس :
إذن إن خسرنا الموقعة سرك أن تساق بين طرقات روما تحت نير الرق مقهورا، وفي حكمة
35
الذل منقادا أسيرا؟
بروتاس :
كلا ثم كلا يا كاسياس لا يهجسن ببالك أيها الروماني الشريف أن بروتاس يرضى بحال ما أن يساق مكبلا إلى روما، يأبى له ذلك فؤاد ذكي، وأنف حمي.
ولكن في هذا اليوم
36
لا بد أن ينتهي ذلك الأمر الذي افتتح في منتصف مارس، ثم لا أدري بعد أيتاح لنا اللقاء ثانيا؟ لذلك ينبغي لنا أن نعد هذا آخر ملتقى بيننا، فيودع أحدنا أخاه وداعا لا لقاء من بعده.
سلام عليك كاسياس سلام الوداع الأبدي السرمدي، ولئن كتب لنا أن نلتقي ثانيا إذن لنلتقين بسامين
37
ضحاكين.
وإذا لم يقدر لنا اللقاء بعد فبحسبنا ما نقضي الآن من واجب التوديع وفرائضه.
كاسياس :
سلام عليك بروتاس سلام الوداع الأبدي السرمدي، أما لو أتيح لنا اللقاء ثانيا لنبسمن ولنضحكن حقا، وإذا لم يتح فلقد أحسنا صنعا بقضاء الواجب علينا من رسوم التوديع وشعائره.
بروتاس :
هلم إذن بنا، ألا ليت في استطاعة امرئ أن يعلم كيف تكون خاتمة هذا اليوم قبل حلولها، ولكن بحسبنا علمنا أن اليوم سينتهي وأن خاتمته ستعرف.
هلم بنا!
المنظر الثاني
بطاح فيليبي: ساحة القتال (صوت النذير - يدخل بروتاس وميسالا.)
بروتاس :
اركب يا ميسالا، اركب واحمل هذه التعليمات والأوامر إلى كتائب الجناح الآخر (صوت النذير) .
ومرهم أن يهجموا في الحال، فإني أرى جناح
38
أوكتافيوس فاترا متبلدا، ولعله إن بوغت بحملة صادقة انهزم واندحر.
اركب يا ميسالا، اركب ومرهم أن يهبطوا جميعا. (يخرجان)
المنظر الثالث (موضع آخر من ساحة القتال) (صوت نذير، يدخل كاسياس وتيتنياس.)
كاسياس :
تأمل تيتيناس تأمل! إن الأنكاس الأوغاد ليولون فرارا! لقد انقلبت عدوا لجنودي وعسكري فيما يرون ويخالون.
وهذا العلم قد أبصرته آنفا يستدير، ويمنحني ظهره،
39
فما هو إلا أن آنست ذلك حتى أهويت على حامله النذل الجبان فذبحته ثم اختطفته من يده.
تيتنياس :
أي كاسياس! إن بروتاس قد أصدر الأمر قبل أوانه، لقد أمكنته فرصة في جيش أوكتافيوس، ولكنه بالغ واشتط في انتهازها وجار عن القصد وتهور.
ولقد تهافت جنوده على الأسلاب والغنائم فشغلوا بها بينما نحن قد أحاط بنا أنطانيوس وأحدق. (يدخل بنداراس.)
بنداراس :
انج بنفسك فرارا يا مولاي، انج بنفسك!
إن مارك أنطانيوس قد وطئ خيامك يا مولاي، ففر يا مولاي الأعز الأغر وأمعن
40
فرارا.
كاسياس :
إن هذا التل الذي نحن عليه لبمأمن وبنجوة. تأمل يا تيتنياس، أتلك خيامي التي أبصر فيها النار؟
تيتنياس :
تلك هي يا مولاي.
كاسياس :
إن كنت تحبني يا تيتنياس فامتط جوادي، وأركضه ملء فروجه، ولتغيبن مهمازيك في جنبيه حتى يبلغك الجنود القائمين هنالك ثم يعود بك إلى ها هنا؛ وذلك لأعلم يقينا أهؤلاء الجنود أولياء لنا أم أعداء؟
تيتنياس :
سأرجعن إلى ها هنا كلمح البصر وسنوح الخاطر. (يخرج)
كاسياس :
انطلق يا بنداراس فاصعد في ذاك التل، إن بصري ما برح كليلا، فارقبن تيتنياس، وخبرني ماذا تبصر في ساحة الوغى؟ (يصعد بنداراس التل) .
في هذا اليوم تنسمت أولى نسمات الحياة، وأرى الزمان قد استدار والتقى طرفاه والتأمت حلقته، وأراني من حيث ابتدأت منتهيا، ولا جرم فلقد جرى العمر شأوه وبلغ مداه.
ما أنباؤك يا غلام؟
بنداراس (من عل)
41 :
يا ويلتا!
كاسياس :
ما أنباؤك؟
بنداراس (من عل) :
لقد اكتنف الفرسان تيتنياس من كل جانب، وإنهم ليتمطرون
42
عليه، يستدرون
43
الجياد بالمهامز ويمترونها، ولقد أوشكوا أن يسقطوا عليه.
أي تيتينياس! أرى بعض الفرسان قد ترجلوا، وها هو يترجل أيضا.
لقد أخذوه (صياح) أنصت! إنهم ليصيحون طربا.
كاسياس :
اهبط، حسبك ما رأيت، واكفف بصرك عن هذا المشهد.
تعسا لي من هيابة
44
وكل
45 - إذ أرضى أن تطول حياتي، ويمتد بي أجلي، حتى صديقي الأحب الأعز، يؤخذ أمامي وبمرأى مني. (يهبط بنداراس) .
ادن مني يا غلام! لقد أخذتك أسيرا في «بارثيا»، ولقد حقنت دمك، وأمسكت عليك حوباءك،
46
ثم أخذت عليك عهدا وميثاقا أنه مهما آمرك به من شيء كان حقا عليك أن تحاوله.
فهلم الآن ولتفين بعهدك ولتعلمن أني قد أعتقتك فأنت حر طليق منذ الساعة.
إني آمرك أن تغمد في صدري هذا الحسام الذي خاض
47
أحشاء قيصر.
لا تحاولن معي تسآلا ولا مناقشة، بل أمسكن ها هنا بالمقبض، ومتى رأيت وجهي ملثما كما هو الآن فضع السيف مني حيث أمرتك (بندراس يطعنه) .
قيصر! لقد اقتص لك وانتقم بعين الحسام الذي أراق
48
دمك. (يقضي نحبه.)
بنداراس :
وهكذا أنا الآن حر طليق، على أني ما كنت لأصير حرا لو خيرت فيما أفعل، وجريت علي هواي ومشيئتي ولم أرغم على ما أتيته إرغاما.
أي كاسياس: إن بنداراس سيرحل عن هذه البلاد إلى حيث لا تقع عليه عين روماني آخر الأبد. (ينطلق) (يعود تيتنياس وميسالا.)
ميسالا :
إن هي إلا سجال
49
يا تيتنياس فلئن كان أنطانيوس دحر فيالق كاسياس، فقد هزم بروتاس البطل العظيم جنود أوكتافيوس.
تيتنياس :
هذه الأنباء حرية أن تسر كاسياس، سيكون له فيها عزاء وسلوى.
ميسالا :
أين تركته؟
تتنياس :
تركته مغتما حزينا على هذا التل مع عبده بنداراس.
ميسالا :
أليس هو هذا الطريح علي وجه الثرى؟
تيتنياس :
ما رقدته هذه برقدة الأحياء، واحر قلباه!
50
ميسالا :
أليس هو ذاك؟
تيتنياس :
كلا! لقد كان ذاك، وما هو الآن بذاك، يا ميسالا، ما كاسياس الآن بكائن ولا موجود.
أيتها الشمس الغائرة،
51
مثلك كمثل كاسياس، فكما أنك ترسبين الليلة في أشعتك الحمراء - فكذلك في دماء كاسياس الحمراء يغيب نوره ويفنى نهاره.
لقد غربت شمس روما! وانقضى يومنا وباخ ضياؤه، وأقبل السحاب بمدامع الطل وأشرفت الأهوال والمخاطر.
ما أحدث هذا الحادث إلا مخافة كاسياس أن أرجع إليه بسيئ الأنباء.
يا لك من غلطة منكره، ما أقبحك وما أسوأك، لأنت وليدة الكآبة وسليلة الهم والإطراق، لماذا تخيلين
52
إلى الضمائر الحساسة من الأمور ما لم يقع وتمثلين للأذهان الحادة من الأشياء ما لم يكن؟ تبا لك أيتها الغلطة! سرعان ما تلقحين،
53
ثم لا تنتجين بعد ذلك إلا عناء، ولا تلدين إلا بلاء، إنك لتقتلين الأم التي أوجدتك وأحدثتك.
تيتنياس :
ويك يا بنداراس! أين أنت بنداراس؟
ميسالا :
فتش عنه يا تيتنياس ريثما أذهب للقاء بروتاس المكرم فأطعن أذنيه وأصدم
54
مسمعيه بهذا النبأ، وإني إن أقل «أطعن» و«أصدم» فلا حرج علي ولا جناح.
55
فلا والآلهة! ما كان الصفيح الخذم ولا النبل المسمم بأنكى وقعة وأوجع لذعة في أذن بروتاس من أنباء هذا المشهد!
تيتنياس :
أسرع ميسالا، ريثما أبحث عن بنداراس. (يخرج ميسالا).
كاسياس أيها الشجاع! لماذا بعثت بي؟ أولم ألق ثمت صحابك وأولياءك؟
أولم يكللوا جبيني بهذا الإكليل من الزهر آية الفتح، وعنوان النصر المبين، ويأمروني أن أهديكه؟ أو لم تسمع هتافهم؟
وا أسفاه! لقد أسأت تأويل كل شيء من هذا!
ولكن رويدك واحملن هذا الإكليل على جبينك، فبذا أمرني بروتاس وما كنت لأعصاه.
أي بروتاس: أسرع إلى ها هنا وانظر ما بلغ من إجلالي لكاياس كاسياس!
بإذنك ومشيئتك أيتها الآلهة سأفعل الآن ما هو خليق بكل روماني حر كريم، ادنون مني يا سيف كاسياس واثوين بفؤاد تتنياس. (ينتحر) (طبل، يعود ميسالا مع بروتاس وكاتو الصغير وستراتو وفولمنياس ونوسلياس.)
بروتاس :
أين يا ميسالا، أين جثته؟
ميسالا :
هنالك، وعليها تيتنياس مكب
56
عاكف
57
يرثي ويندب.
بروتاس :
إن وجه تيتنياس إلى السماء.
كاتو :
إنه لقتيل!
بروتاس :
أي يوليوس قيصر! إنك لا تزال عظيما شديد البأس! ولا تزال روحك جوالة جوابة تطوف من حولنا وتلوب
58
وترد ذباب سيوفنا في صميم أحشائنا. (أبواق خافتة.)
كاتو :
أيها الشجاع تيتينياس، ألم تر كيف قد كلل جبين كاسياس الصريع؟
بروتاس :
ترى هل يعيش في بني روما رجلان كهذين؟
سلام عليكما يا بقية السلف الصالح وآخر السادة من الرومان.
سلام عليكما سلام الوداع يا آخر سبيكتين في بوتقة المجد ودرتين في صهريج الكرم، وعسجدتين في معدن النبل وسهمين في كنانة المروءة.
إن من المحال أن تنجب
59
روما نظيريكما وشبيهيكما، كلا وإن من دون ذلك لشيب الغراب.
60
أيها الأصحاب، إن لهذا القتيل في ذمتي أضعاف ما سترونني أذرفه عليه من المدامع، ولكني يا كاسياس سأفسح من وقتي مجالا أقضي
61
به ما لك علي من حق البكاء والرثاء، هلموا الآن وابعثوا برفاته إلى ثاسوس، فلن تقام شعائر جنازته بمعسكراتنا لئلا يفتر ذلك من عزائم جنودنا.
هلم يا لوسياس ويا كاتو الصغير، هلما بنا إلى الميدان، وأنت يا لابيو وأنت يا فلافياس، ازحفا بجنودنا، الساعة الآن الثالثة، وقد عزمنا معشر الرومان على أن نبلوا
62
حظنا في معركة ثانية. (يخرجون.)
المنظر الرابع (موضع آخر من ساحة القتال) (طبل، يدخل جنود مقاتلة من كلا الجيشين، وبعد ذلك بروتاس وكاتو الصغير ولوسياس وخلافهم.)
بروتاس :
لا تزالوا - بني وطني - لا تزالوا رافعي رءوسكم ثباتا وجلدا.
كاتو :
أي زنيم
63
بلغ من لؤم نسبه، ودقة حسبه، أنه لا يفعل؟! أيكم يحب أن يتبعني؟
سأجهر باسمي في أرجاء الميدان، أنا ابن مارك كاتو ألا أبا لكم!
64
عدو الجبابرة وولي الوطن وصفيه!
أنا ابن مارك كاتو! ويحكم. (يحمل على العدو.)
بروتاس :
وأنا بروتاس، مارك بروتاس، بروتاس صديق بلادي.
ها أنا ذا بروتاس، فاعرفوني. (يخرج حالا على العدو) .
تتكاثر جماعة من الأعداء على كاتو فتقهره فيخر صريعا.
لوسيلياس :
أي كاتو الصغير النبيل!
أوقد صرعت؟ لقد مت كصاحبك تيتنياس ميتة الشجعان البسل.
65
لقيت من الإجلال والإكرام ما أنت أهله بما أنك نجل كاتو.
الجندي الأول :
أذعن وإلا قتلت.
لوسيلياس :
لا أذعن إلا بعد أن أقتل.
هاك شيئا من النقد على شرط أن تعجل بقتلي (يعرض عليه نقدا) .
اقتلن بروتاس تشرف نفسك بقتله.
الجندي الأول :
لا ينبغي لنا، إنه لأسير جليل القدر عظيم الخطر.
66
الجندي الثاني :
أفسحوا طريقا ويحكم! ولتخبروا أنطانيوس أن بروتاس قد أسر.
الجندي الأول :
سأبلغ الخبر، ها هو ذاكم القائد قادم (يدخل أنطانيوس) .
قد أسر بروتاس، أسر بروتاس يا مولاي.
أنطانيوس :
أين هو؟
لوسيلياس :
بمأمن يا أنطانيوس، بمأمن وبمعتصم، لا تحسبن أن في استطاعة عدو ما أن يأخذ بروتاس حيا.
وقته الآلهة شر هذا العار العظيم!
ولئن لقيته حيا أو ميتا لتلقين منه بروتاس الذي تعهد وتعرف.
أنطانيوس :
ليس هذا بروتاس يا إخواني، ولكنه غنيمة لا تقل نفاسة عن بروتاس، فاجعلوه بأحصن حرز وأمنعه.
أوسعوه مبرة وإحسانا، فبودي أن أتخذ من أمثال هؤلاء الرجال أصفياء لي لا أعداء.
ثم اذهبوا فتعرفوا أحي بروتاس أم ميت؟ وثوبوا إلى سرادق أوكتافيوس فنبئونا كيف تجري الأمور وإلام انتهت وآلت؟ (يخرجون .)
المنظر الخامس (مكان آخر من ساحة الوغى) (يدخل بروتاس وداردنياس وكلايتاس وسنراتو وفوليومناس.)
بروتاس :
أيها البقية الباقية من الإخوان، تعالوا نسترح على هذه الصخرة.
كلايتاس :
لقد ألاح ستاتلياس بالمشعل، ولكنه يا مولاي لم يرجع فليس يعدو أن يكون قد أسر أو قتل.
بروتاس :
اقعدن ياكلايتاس، الأصح أنه قتل، فلقد أصبح القتل اليوم العادة السارية والبدعة الفاشية.
استمع إلي يا كلايتاس. (بروتاس يهمس
67
في أذن كلايتاس.)
كلايتاس :
الويل لي! أنا يا مولاي؟ لن أفعل ذلك ولو أن لي الدنيا وما فيها.
68
بروتاس :
اسكت لا تفه بأدنى كلمة.
كلايتاس :
أولى لي أن أقتل نفسي.
بروتاس :
اسمع مني يا داردنياس. (بروتاس يهمس في أذن داردنياس.)
داردنياس :
ويحي! أنا أفعل هذا؟
كلايتاس :
وا خطباه! يا داردنياس.
داردنياس :
وا كرباه! يا كلايتاس.
كلايتاس :
أي طلبة سوء وبغية شر سألكها الساعة بروتاس؟
داردنياس :
أن أقتله يا كلايتاس انظر إليه، إنه مطرق يتفكر ويتدبر.
كلايتاس :
انظر إلى أكرم إناء صيغ من مادة الإنسانية، كيف أفعمه الحزن، وأترعه الوجد والجوى حتى طفق يفيض من مقلتيه.
بروتاس :
ادن مني أيها البر الرحيم فوليوميناس، اسمع مني كلمة.
فوليوميناس :
ماذا يقول مولاي؟
بروتاس :
اسمع يا فوليوميناس. لقد طرقني خيال
69
قيصر مرتين أثناء الليل: مرة ونحن في «سارديس» وليلة أمس ها هنا في ميادين فيليبي، إني لأعلم أنه قد حان أجلي، وحم حمامي.
فوليوميناس :
لا تقل ذاك يا مولاي.
بروتاس :
إني لأوقن أنه حق وأنه لا محالة كائن.
أنت تبصر الأمور كيف تسير، وإلى ماذا تصير، وترى العدو كيف هزمنا ودحرنا حتى طردنا إلى شفير الهاوية؛ حيث غدونا بأحرج مأزق لا مضطرب أمامنا ولا مصطرف ولا متحول ولا متنكب (أبواق خافتة) .
أما وقد غدونا من الهاوية على شفا جرف، فأولى لنا وأمثل أن نلقي بأنفسنا في أعماقها من أن نتباطأ ونتوانى حتى يدهمنا العدو فيقذف بنا فيها.
فوليوميناس! أيها الحدب الشفيق، أنت تعلم أنك صديق الصبا ورفيق الطفولة وأننا دخلنا المدرسة معا ونشأنا معا.
فبحق ذلك الود العتيق والحب القديم، أسألك أن تمسك بمقبض سيفي ثم تدعني أرتمي على طرفه.
فوليوميناس :
ليس هذا من صنيع الصديق ولا مما يكلف به الصاحب يا مولاي!. (صوت أبواق.)
كليتاس :
انج بنفسك يا مولاي، انج بنفسك فرارا، لا تتمكث ولا تتلبث.
بروتاس :
سلام عليك ثم عليك ثم عليك يا فوليوميناس! أي ستراتو، لقد لبثت نائما طول هذه البرهة، سلام عليك أيضا يا ستراتو.
بني وطني وأخواني، شد ما يسرني ويثلج صدري أني منذ نشأت إلى الآن ما صادفت رجلا إلا ألفيته أمينا وفيا، سيكون لي في هزيمة اليوم من آيات المجد والعلاء أضعاف ما سوف يناله أوكتافيوس ومارك أنطانيوس من وراء انتصارهم الممقوت.
وبعد، فسلام عليكم، وحسبي ما قد فهت به الآن وكفى، وأن لسان بروتاس قد جرى شأوه في مضمار الكلام، واستنفد جعبة ألفاظه، وعسى أن يكون هذا آخر حرف تفوه به شفتاه في هذه الحياة الدنيا.
أرى الظلام يخيم على ناظري، وبودي أن أريح عظامي التي كأنها ما كدت وما كدحت ولا سعت ولا دأبت إلا لتصل إلى هذه الغاية. (أبواق، صياح من الداخل: الفرار، الفرار، الفرار!)
70
كلايتاس :
فرارا يا مولاي انج بنفسك!
بروتاس :
اسبقوا فإني لاحق بكم (يخرج كلايتاس وداردنياس وفوليوميناس) .
هلا
71
بقيت مع مولاك أيها البر التقي ستراتو، إنك امرؤ موقر مبجل.
إن حياتك مازال عليها مسحة
72
من النبل والكرم، وقد شيب
73
حسبك بأطيب مزاج.
وبعد فلتمسكن بسيفي ولتزوين وجهك ريثما أرتمي على ذبابه، أفاعل أنت؟
ستراتو :
أعطني يدك أولا، وداعا يا مولاي.
بروتاس :
وداعا أيها البر ستراتو (يرتمي على ظبة الحسام) .
قيصر! لتطمئن الآن ولتهدأ، فما ارتاحت نفسي إلى قتلك نصف ارتياحها إلى انتحارها الآن. (أبواق - تقهقر) (يدخل أوكتافيوس وأنطانيوس وميسالا ولوسيلياس والجيش.)
أوكتافيوس :
من هذا الرجل؟
ميسالا :
هذا رجل مولاي، أين مولاك يا ستراتو؟
ستراتو :
إنه لطليق مما أنت فيه من الأسر يا ميسالا.
وجل ما يستطيع الظافرون أن يصنعوا به هو أن يحرقوا رفاته.
74
إن بروتاس هو الذي قهر نفسه ودحرها ولم يدع لأحد سواه سبيلا لاكتساب الحمد والفخار من وراء موته.
لوسيلياس :
هكذا بروتاس وهكذا سجيته وشيمته، إني أحمدك يا بروتاس وأثني عليك، فلقد صدقت ما قاله فيك لوسيلياس.
أوكتافيوس :
كل من كان في خدمة بروتاس سألحقه بخدمتي أيها الغلام، أتحب أن تقضي معي أوقاتك؟
ستراتو :
أجل، إذا ذكرني ميسالا بخير عندك.
أوكتافيوس :
افعل يا ميسالا.
ميسالا :
أخبرني كيف مات مولاي يا ستراتو؟
ستراتو :
أمسكت بالسيف وارتمى هو عليه.
ميسالا :
خذه إذن في حاشيتك يا أوكتافيوس بما أدى لمولاي آنفا من تلك المنة.
أنطانيوس :
هذا كان أفضل روماني من بينهم جميعا.
إن المتآمرين كلهم - ما عداه - قد أتوا ما أتوا من حسد وحقد على قيصر الأعظم.
ولقد دخل هو في زمرتهم وانخرط في سلكهم متفردا من بينهم بحسن القصد والنية، وشرف المذهب والمطلب، والحرص على منعة الأوطان والصالح العام.
ولقد كان سمحا سهلا حليما، تلاءم واعتدل في تركيبه مزاج العناصر، فلو وصفته لنا الطبيعة لقالت: «هكذا يكون الرجل!»
أوكتافيوس :
فلنؤد إليه من آيات التكريم والإجلال ما هو أهله، ولنوفه حقه من شعائر الدفن، ولتثوين عظامه الليلة في سرادقي؛ حيث تنال من التجلة والإكبار ما هو خليق بالفارس المقدام.
وبعد فادعون من بالميدان إلى الاستراحة، وهلم بنا نقسم غنائم هذا اليوم ومفاخره.
نبذة طريفة تتضمن وصفا دقيقا وشرحا تحليليا عن أهم أشخاص الرواية
(1) يوليوس قيصر
عظمته ومهارته الحربية
هاتان المزيتان لم ينوه بهما شاكسبير إلا طفيفا، ولم يشر إليهما إلا في بضعة مواضع قليلة من الرواية، وذلك حيث يقول مارولاس في المشهد الأول من الفصل الأول: «أتنثرون اليوم الرياحين في طريق الذي قد جاءكم منتصرا على أولاد بومبي وأفلاذ كبده؟»
وحيث يقول قيصر نفسه - يذكر فتوحاته وانتصاراته - في المشهد الثاني من الفصل الثاني: «أويبعث إليهم قيصر بأكذوبة؟
أفبعد إمعاني في الغزو، وإيغالي في أقاصي الأرض فتحا وامتلاكا، وسعة باعي، وطول ذراعي في الحروب والوقائع - أخاف أن أنطق بالحق لفئة من الشيوخ الشيب؟!»
وحيث يخاطب أنطانيوس جثته الهامدة بعد مصرعه في المشهد الأول من الفصل الثالث: «قيصر أيها الأجل الأعظم ! أكذا تظل منبوذا بأسفل مطرح لقى صريعا بأدنى مرقد ومضطجع؟! أكذا تقلصت فتوحاتك وانتصاراتك، ومغانمك ومساعيك، ومآثرك ومعاليك، فاضمحلت وتضاءلت إلى هذا القدر اليسير، والكم الزهيد؟!»
وفي موضع آخر: «معذرة وغفرانا - يا كتلة التراب الدامية - لما أبديت لأولئك السفاحين من التواضع والتخاضع، إني لأبصر فيك أطلال أسمى رجل، وأنقاض أشرف إنسان، عاش في مجرى الزمان، ومكر الدهور والآباد.»
مركزه في روما
إن مركزه في روما ونفوذ سيطرته وسلطانه على الشعب الروماني قد فطن إليهما شاكسبير أكثر مما فطن الرومان أنفسهم - مثل بروتاس وكاسياس.
لقد كان يوصف بأنه أوحد أهل عصره، وبديع زمانه، والمفرد العلم في روما، وهذا جلي بين في الشذرات الآتية المقتطفة من الرواية:
بروتاس إلى كاسياس «المشهد الثالث - الفصل الرابع»:
بروتاس: أنحن الألى ضربوا أوحد أهل هذا العالم، وإمامهم، وسيدهم، ونادرة الزمان، وبكره، ويتيمته ... إلخ إلخ؟!»
أنطانيوس «المشهد الثاني - الفصل الأول»: «سأذكر ذلك، متى قال قيصر افعل ذلك، فكأنما قد فعل.» وقبل هذا بأسطر قليلة:
كاسكا: «صه! قيصر يتكلم.» (يأمر الناس بالسكوت كأنما نبي قد هم أن ينطق بوحي الآلهة.)
وبعد هذا ببضعة أسطر:
كاسكا: «ليخفت كل صوت، عاودوا الصمت والسكينة.»
كاسياس إلى بروتاس «المشهد الثاني من الفصل الأول»: «لقد أصبح هذا الرجل (يعني قيصر) إلها معبودا، وكاسياس إن هو إلا مخلوق ذليل حتم عليه أن ينحني لأدنى تسليمه من قيصر.»
كاسياس يشير هنا بلهجة الحاقد الموغر الصدر المحترق الأحشاء إلى ما كان لقيصر في نفوس الناس في فرط المهابة والإكبار والإجلال.
كاسياس إلى بروتاس «المشهد الثاني - الفصل الأول»: «لا جرم أنه (يعني قيصر) ليذرع رقعة الأرض الضيقة بفسيح خطواته كأنه المارد، ونحن الأقزام الضئال نسعى تحت رجليه العظيمتين، ونتلفت حوالينا نبتغي لأنفسنا قبورا مهينة.» يشير كاسياس بهذه الكلمة إلى فرط تسامي قيصر عن سائر الناس، وتعاليه، وإلى أن الشعب الروماني أصبح يخاله لبعد مسافته، وسحوقه إلها معبودا.
ولم يكن تعاليه وتساميه مقصورا على العامة بل كان يشمل الأشراف والشيوخ أيضا، وشاهد ذلك أنه لما يدخل على الشيوخ مجلسهم، فيقفون له إجلالا، يقوم ميتالاس فيحييه بالكلمة الآتية: «قيصر يا ذا القوة والبطش والعظمة والجلال!»
ومن شواهد ذلك أنه متى غضب «فكلمهم يعنو ويخشع كما لو كانوا صبية صغارا!»
أصبح قيصر في رأي الشعب وعقيدته وكأن شخصه نظام حكومي ضروري لا تقوم الدولة ولا تستقيم أمورها إلا به دون غيره، فلما مات وأراد الشعب أن يستخلف بروتاس مكانه صاحوا جميعا: «اجعلوه قيصر»؛ أي اجعلوا بروتاس قيصر. وأيضا «إن مناقب قيصر ومكارمه ستبلغ أقصى غايتها في بروتاس.»
هذا يدل على أن الناس كان يتعذر عليهم أن يتصوروا وجود حكومة دون أن يكون قيصر على رأسها، أو دون أن تكون هذه الحكومة متفانية في شخص قيصر، أو أن تكون الحكومة قيصر وقيصر الحكومة.
طغيان قيصر
يتكلم في عتو وجبروت «المشهد الثاني - الفصل الثاني»: «إن ما تهددني من أمارات النحس والشؤم ومن نذر الشر والنكال لم يبصر مني سوى قفاي، فإذا ما أبصرت وجهي تلك النذر المتوعدة والأفؤل المتهددة ريعت مهابة فولت فرارا وطاحت جبارا.» «لقد كنت أتأثر وأتحرك لو كنت مثلكم. ولو كنت أطيق أن أستعطف الناس بالملق وأستلينهم بالرجاء والتضرع لكنت خليقا أن أستعطف وأستلان بمثل ذلك، ولكني ثبت المقام كالكوكب الشمالي ... إلخ إلخ.» «أتحاول اقتلاع أوليمب من مرساه وانتزاعه من مستقره؟!»
بيد أن كثيرا من كلماته هذه الدالة على الزهو والخيلاء الصخابة بطنين السرف والغلواء، إنما كان يقوله ليستر به ما كان يكمن في أعماق صدره من الخوف.
ومن ثم كان الخوف والكبرياء لا يبرحان يتنازعان في صدره، ويتكافحان في حرب عوان مستمرة؛ ولذلك قال عنه النقادة «تشارلس نايت» أنه سلك خطة الكبرياء والعظمة ليظهر أمام الملأ في مظهر مخالف للحقيقة، إلى أن قال ذلك النقادة: إن قيصر كان ممثلا حتى مع ألصق عشرائه وأخص جلسائه، مثال ذلك قوله لأنطانيوس «المشهد الثاني - الفصل الأول»: «إنما أحدثك بما ينبغي أن يحذر ويخاف، لا بما أخافه أنا وأحذره؛ لأني ما زلت قيصر.»
إن تكراره أمثال هذه الألفاظ الطنانة تدل على أنه كان بلا شك يخاف. وعلى كل حال، فمهما كانت مخاوفه المكنونة المكتومة، فلا ريب هنالك في أن أعظم مخاوفه وأشدها تسلطا على نفسه، هو خوفه أن يتهمه الناس بالخوف.
وقد فطن «ديسياس» إلى هذه الهنة من هنات قيصر، فولج بابها حين أراد أن يحمله على الخروج من داره إلى مجلس الشيوخ في يوم مصرعه، وقد أثمرت حيلته.
ديسياس: «أإذا اختبأ قيصر أما كان للقوم أن يتهامسوا قائلين: يا ويح قيصر! لقد جبن فزعا ونكل رهبة وهلعا!»
وهلا تستطيع أن تستبين شبح الخوف، وتسمع صوته يهتف من أعماق نفس قيصر في هذه الكلمات «المشهد الثاني - الفصل الثاني»:
قيصر: «إن من بين ما سمعت به من العجائب لم أر قط أعجب ولا أغرب من استيلاء الخوف على الرجال!»
ارتياحه لسماع الملق
إن الملق لا يؤثر في نفس قيصر إلا إذا دس له في أسلوب خفي بمنتهى الحذق واللباقة، أما الملق الصريح المكشوف فكان لا يفلح معه، وقد كان ديسياس قد فطن إلى ذلك وعرفه، ومن ثم نجاحه في التأثير بالملق على قيصر.
ديسياس «المشهد الأول - الفصل الثاني»: «ولكنى إذا حدثته عن فرط كراهته للملق وأربابه، فأجابني أن هذا طبه ومذهبه، كنت في الحقيقة والواقع أتملقه، وكان هو يغتر بملقي وينخدع بزخارفه.»
ميله إلى التصديق بالخرافات
هذه ناحية ضعف أخرى، وقد عرف ديسياس كيف يؤثر على قيصر من هذه الناحية؛ إذ فسر له حلم زوجته كالبورنيا على أسلوب سره، وأبهجه، وأذهب مخاوفه، وقوى أمله؛ فذلك حيث يقول «المشهد الثاني - الفصل الثاني»: «لقد أساءت تأويل هذه الرؤيا وإنه لحلم سعيد ميمون العواقب؛ إن تمثالك المنبجس بالدم من فوهات عدة حوله فتية عدة من الرومان، باسمة ثغورهم، بارقة أسرتهم يغمسون في ذلك الدم المراق أكفهم - كل ذلك يدل على أن روما المجيدة ستستمد منك دم الحياة المجدد لنشاطها المنعش لقوتها، وإن عظماء الرجال سيتهافتون على دمك فيغمسون فيه مناديلهم ليتخذوا منها - مصبوغة حمراء - آثارا قيمة، ومخلفات نفيسة، وشعار شرف، ورموز رفعة وجلال يحتفظون بها ويفاخرون آخر الأبد، هذا تأويل حلم كالبورنيا.»
ومن دلائل اعتقاده في الخرافات أيضا كلمته الآتية «المشهد الثاني - الفصل الأول»:
قيصر (إلى أنطانيوس): «لا تنس أثناء شدك
1
أن تلمس كالبورنيا، فلقد قال أشياخنا إن العاقر إذا لمست أثناء السباق المقدس سقطت عنها آفة العقم.»
ومن أدلة ذلك أيضا أن كاسياس جعل يشك في احتمال مجيء قيصر إلى دار الشيوخ لتسلط الأوهام الخرافية على نفسه «المشهد الأول - الفصل الثاني»:
كاسسياس: «ولكنا لا ندرى أيخرج قيصر اليوم أم لا؟ فلقد آض منذ قريب يعتقد بالخرافات على خلاف رأيه الثابت القديم في الخيالات والأحلام والفال.»
من متممات وصف قيصر التنويه بجلال «روحه القوية»؛ أعني ذاك النفوذ الهائل، والسلطان المدهش الذي أكسبه الفوز والظفر «بعد الموت» ومكنه من أن يدلي إلى خلفه وذريته بالنظام الحكومي الذي أحدثه، وقد سمى المؤرخون نفوذ قيصر هذا أو سلطانه أو شخصيته أو روحه «القيصرية»، فإلى هذه «القيصرية» كان يشير بروتاس بقوله: «إنما نثور على روح قيصر، وروح الإنسان لا دم فيها فيا ليت في استطاعتنا أن نستحوذ على روح قيصر دون أن نضطر إلى تمزيق أشلائه!»
هذا النفوذ السحري الباهر، والسلطان الخلاب القاهر هو الذي جعل جثة قيصر «أطلال أسمى رجل وأنقاض أشرف إنسان عاش في مجرى الزمان ومكر الدهور والأباد.»
هذه هي الروح التي تنبأ بها أنطانيوس وتكهن بما سوف يكون من هول آثارها في أنحاء العالم الروماني أجمع: «وروح
2
قيصر مطل من فوق ذلك، طواف في أرجاء البلاد، مطالب بالثأر، تسعى إلى جانبه شيطانة الانتقام والعذاب منبعثة من أعماق جهنم تلتهب التهابا، يصيح: ويل لكم ثم ويل لكم! لا هوادة، ولا هدنة، ولا موئل، ولا معاذ، ولا عاصم اليوم من أمر الله.» (2) بروتاس
إن أظهر صفات بروتاس وأقواها وأغلبها على سائر صفاته هي «الروح الجمهورية» وهذه الروح عند بروتاس هي نفسها «وطنيته».
هذه الوطنية قد ورثها بروتاس كابرا عن كابر،
3
فقد اشتهرت عشيرته بالروح الجمهورية في روما منذ أجيال عدة: «أو لم يطرد أسلافه طرقوين من مدينة روما لما لقب ملكا؟» هذا هو ما لم يزل يذكره بروتاس، وهذا هو ما لم يبرح يذكره به كاسياس، ويضرب على نغمته كلما بدا له أن يحرض بروتاس على قيصر: «لقد سمعنا آباءنا يقولون: إنه كان مرة في روما رجل يدعى بروتاس كان يحتفظ بكرامته وعزته كما لو كان ملكا مهيبا، ولو ألجأه ذلك إلى مطاوعة الشيطان اللعين.»
ثم تأمل خطاب ليجارياس له، وما تضمن من التنويه بوطنيته، وبشرف حسبه ونسبه «المشهد الأول - الفصل الثاني»: «أي بروتاس يا روح روما ويا دم شريانها ويا منبع حياتها وقوتها، ومصدر مضائها وهمتها، يا نجلها الأروع الشجاع ويا فتاها الشهم الجريء، سلالة الأسد الغضافرة، والليوث القساورة!»
ولقد كان شعاره «السلام والعزة والحرية»، «الفصل الثالث: المشهد الأول»: «هلموا معشر الرومان فانحنوا ودعونا نغمس في دم قيصر أذرعنا إلى المرافق ونخضب أسيافنا، ولنسر بعد ذلك إلى مكان السوق، فنهز نصالنا الحمراء فوق رءوسنا ثم لنصح جميعا: «مرحبا بالسلام والعزة والحرية»!»
وعلى هذا المثال نرى أن العذر الذي أداه إلى الشعب عن اشتراكه في مقتل قيصر هو «المشهد الأول - الفصل الثالث»: «إن خروجي وثورتي لم يكن لأن محبتي لقيصر كانت أقل مما ينبغي، بل لأن محبتي لروما هي أكثر وأعظم.»
وقد كان رأيه الحر النزيه أنه من المحال أن يكون الإنسان من الخسة والدناءة بحيث لا يحب وطنه: «أيكم بلغ من ضئولته وخسته ودقته أنه لا يحب بلاده؟ إن كان فيكم مثل هذا فليتكلم!»
وأخيرا تجيء شهادة أنطانيوس التي أداها فوق جثته عن سمو مكانته في الوطنية، وما أصدقها لصدورها عن عدو ألد - والفضل ما شهدت به الأعداء: «هذا كان أفضل روماني من بينهم جميعا.
إن المتآمرين كلهم - ما عداه - قد آتوا ما آتوا من حسد وحقد على قيصر الأعظم.
ولقد دخل هو في زمرتهم وانخرط في سلكهم متفردا من بينهم بحسن القصد والنية، وشرف المذهب والمطلب والحرص على منفعة الأوطان والصالح العام.»
وهكذا يتضح لنا أن بروتاس كان نبيلا كريما وطنيا، ينزل من نفوس الشعب بأسمى منزلة وأخص مكانة، ثم نرى أنه على الرغم من كل ذلك قد باء بالفشل والخيبة، ولماذا؟ نقول: إن معظم السبب في هذا يرجع إلى أنه لم يكن رجلا عمليا، إنما كان نظريا خياليا، كان لا يعرف كيف يهيئ ما لديه من الوسائل التهيئة الكفيلة بإدراك بغيته وغايته، فهو أحرى أن يعد فيلسوفا من أن يعد رجلا عمليا ولذلك كان منطقيا حاذقا، وسياسيا أخرق، لقد كان يعالج المتعذر، ويحاول المستحيل، فيجلب بذلك على نفسه وعلى حزبه الأرزاء والكوارث، إنه لم يكن مثل صاحبه كاسياس ثاقب النظر إلى أكناه الحقائق بصيرا بمغبات الأمور والعواقب؛ لذلك لما قام خطيبا في الجماهير المهتاجة لرؤية الدماء السائلة من جراح قيصر جعل يخاطبهم بأسلوب هادئ رزين، ويحاول إقناعهم بالبراهين الصريحة البسيطة، في حين كان يجب عليه استعمال العبارات المهيجة والأساليب المثيرة المستفزة.
لقد غاب عنه أن المذهب الجمهوري في روما كان في الحقيقة قد باد وانقرض، وأصبح لفظا بلا معنى وشبحا بلا روح، وإن الشعب كان لا يريد إلا قيصر ولا يقنع إلا بقيصر، وإن من كان ينطوي تحت لوائه من المتآمرين لم يكونوا مدفوعين بعامل غيرة ولا وطنية ولا تأييد لنظام جمهوري؛ بل بدافع الحسد والحقد.
ومما يعزى إليه فشل بروتاس أيضا:
دماثته وحنانه
إن رقته ورأفته كانت ظاهرة في معاملته مع كل من عاشر ولابس، ولا سيما زوجته وغلامه، فلزوجته يقول: «لأنت زوجتي الحرة الصادقة الكريمة، ولأنت أعز علي من روحي التي بين جنبي، ومن القطرات القانية الموردة التي تتدفق في قلبي الحزين.»
وأيضا في المحاورة ذاتها، «المنظر الأول - الفصل الثاني»: «أيتها الآلهة! اجعليني أهلا لهذه الزوجة الكريمة!» «سأجعل صدرك يا بورشيا وعاء لسري، وسأطلعك على جميع أمري، وعلى كل ما هو مسطور على جبيني الشاحب أسى وحزنا.»
أما غلامه، فقد كان ينزله منزلة الابن محبة وشفقة، فله يقول «المنظر الثالث - الفصل الرابع»: «لشد ما ألححت عليك إضجارا ونصبا ولكنك مطواع
4
مذعان.» وأيضا: «ستعاود النوم عما قليل، فلن أحجزك طويلا، ولئن عشت لأحسنن إليك ولأكرمن مثواك.»
وأيضا: «تعسا لك أيها النوم! ما أشد فتكاتك وسطواتك، أإن أقبل عليك غلامي يغنيك ويعزف لك أنحيت عليه بمخصرتك، طبت ليلة أيها الصبي السمح الوديع، لن أوذيك بإيقاظك.»
وأيضا: «الفصل الثاني - المنظر الأول»: «لوسياس، يا غلام! تغط في نومك؟ لا بأس عليك، تلذذ بحلو مذاق النعاس ومعسول طله العزيز وأندائه الثرة المتحلبة.»
هاتان الخلتان: دماثته وخياليته - أي ميله للخياليات والنظريات - إليهما تعزى غلطاته الأربع الخطيرة التي سببت فشله وخيبته. (1)
عدم موافقته على قتل أنطانيوس مع قيصر. (2)
موافقته على قيام أنطانيوس خطيبا في الجماهير أثناء جنازة قيصر. (3)
امتناعه - عملا بمبادئه الفلسفية وتمسكا بمذهبه الأدبي - عن التجاوز عن زلة لوسياس بيلا. (4)
عزمه - ضد رأي كاسياس الأصح الأسد - على المبادرة بأسرع ما يمكن إلى المخاطرة بكل شيء في موقعة حربية. (3) كاياس كاسياس
كاسياس نقيض بروتاس في كل شيء.
كان حسودا
يحسد قيصر العظيم وينفس عليه عظمته ورفعته، وجلاله وعزته، ويبغضه شخصيا، ومن ثم كان شديد البحث عن عيوبه، دائب التفتيش عن مثالبه ومناقصه، كليل البصر، مغمض العين عن فضائله ومحاسنه.
وهو لما كان يعد نفسه نظيرا لقيصر وندا - إن لم يكن أجل منه وأفضل - فقد عز عليه أن يرى نفسه أقل من الزعيم الأكبر منزلة وخطرا، وأحط منصبا ومرتبة وقدرا.
ولقد أخذ يقارن ما بين نفسه وقيصر من حيث القوة البدنية، وطفق يتعجب كيف قد: «أصبح هذا الرجل إلها معبودا، وكاسياس إن هو إلا مخلوق ذليل حتم عليه أن ينحني لأدنى تسليمة من قيصر!»
إن كاسياس لفرط حقده وشدة حسده لا يطيق أن يرى «مثل هذا الرجل الواهن القوى قد سبق هذا العالم العظيم إلى ذرا العلاء والسؤدد وأحرز قصب السبق وحده.»
هذا، وإن غريزة حقده وحسده بادية على وجهه، منقوشة على صفحاته، قد قرأها قيصر في غضون أسرته؛ فذلك حيث يقول الزعيم الأوحد: «إن كاسياس هذا شره العين، منهوم النظرات، إنه لمطراق كثير الهواجس، وإن مثله حرى أن يكون خطرا مخوف الجانب.» «ليته أكان أكثر سمنا، أبغني من الرجال كل شحيم مبدان، لين الجمجمة، نوام الليل ...» «لست أخشى كاسياس، ولكني أقول: لو كان لقيصر أن يخاف مخلوقا لما رأى في الناس من هو أولى بالمجانبة من كاسياس، ذلك الأعجف المعروق.» «مثل هذا الرجل لا ينعم البتة براحة بال ما دام يبصر في الدنيا من هو أسمى منه درجة.»
حذقه بالسياسة
كان كاسياس محرزا لكل الصفات التي من مجموعها تتألف المهارة السياسية، أولم يقل عنه قيصر «المشهد الثاني - الفصل الأول»: «إنه كثير الإطلاع دقيق النظر، يستشف بنافذ بصيرته أكناه
5
الأمور ومراميها، ثم هو لا يحب الألعاب مثلك يا أنطانيوس ولا يسمع الموسيقى.»
كان كاسياس داهية أريبا، عظيم الحذق والبراعة، فكان بين زمرة المتآمرين جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، بعيد الغور، واسع الحيلة، لطيف التدبير، خفي الكيد، قوي الحجة، شديد العارضة لسنا مفوها منطيقا، شديد الإفحام للمعارض، لعوبا بألباب من يخاطب ويحادث، ويعرف كيف ينفث في قلوبهم من الأفكار والأوهام والعقائد ما يشاء ويطبع ميولهم وأهواءهم بالطابع الذي يشاء، وكيف يصب رغباتهم وطلباتهم في القالب الذي يهوي.
وكان فوق ذلك ماضي الهمة صارم العزيمة، سريعا إلى انتهاز الفرص، وكان شديد الحذر والحيطة، ولكنه لم يكن شديد التمسك بناموس الفضيلة، فإذا سنحت له فرصة فائدة أو غنيمة، لم يبال بالمبادئ الشريفة، ولم يتردد في الإخلال بواجبات الفضيلة وفي عق حقوقها وانتهاك حرمتها، وكان لعظم خبرته ومعرفته بطبائع البشر قد أدرك أن الناس كلهم - إلا النادر الشاذ - بعيدون من الكمال، يمكن إغواؤهم، واستهواؤهم، واشتراء ذممهم وضمائرهم بالمال وغيره من وسائل الترغيب والاستمالة.
وهو في جميع مجادلته مع بروتاس كان محقا من الوجهة السياسية، وإن لم يكن كذلك من الوجهة الأخلاقية.
كان كاسياس المؤسس والمدبر والمنظم والمحرك للمؤامرة، كان جرثومة الفتنة ولقاحها وثقابها ومسعرها، وقد كان مضمونا نجاحه لولا رضوخه لآراء بروتاس فيما يتعلق بأهم الشئون والمسائل، أما رضوخه هذا فيرجع إلى:
الناحية الكريمة من أخلاقه
هذه الناحية الكريمة من خلقه هي التي أهلته لفهم ما تحلى به بروتاس من المحامد والمكارم، ولإجلال تلك الشيم الغراء والمناقب الزهراء. ولا يعزبن عن البال أن بروتاس ما كان ليؤاخي كاسياس ويصافيه ويختاره ويصطفيه ويجعله محل ثقته واعتماده لو لم يكن كاسياس على جانب عظيم من المحامد والمكارم، ألم تر إلى بروتاس كيف أثنى على كاسياس عقب ما كان بينهما من المشاحنة، وبأي ألفاظ أقبل عليه يمجده ويكرمه:
بروتاس «إلى كاسياس»: «اغضب متى شئت وكما شئت، فسأفسح مجالا لسطوات غضبك، ولتعلمن أنك تصطحب مني شريك عنان سلس المقادة، سهل الجانب، لين العريكة ... إلخ إلخ.
كاساياس: هات يدك.
بروتاس: وقلبي أيضا.» «الفصل الرابع - المنظر الثاني».
ولما أبصر بروتاس جثتي كاسياس وتيتنياس أبنهما بهذه العبارة المفعمة بآيات الإجلال والإكبار: «الفصل الخامس - المنظر الثالث»: «سلام عليكما يا بقية السلف الصالح، وآخر السادة من الرومان، إن من المحال أن تنجب روما نظيريكما وشبيهيكما.
أيها الأصحاب، إن لهذا القتيل في ذمتي أضعاف ما سترونني أذرفه عليه من المدامع، ولكني يا كاسياس سأفسح من وقتي مجالا أقضي به ما لك علي من حق البكاء والرثاء.»
مصرعه
كان مصرعه نبيلا مجيدا شأن أبطال الرومان ودأبهم، ولقد كلل ميتا بإكليل النصر الذي حرمه حيا، ولقد أبنه بهذه العبارة البليغة صاحبه تيتنياس الذي عز عليه أن يبقى بعده فانتحر فوق جثته: «أيتها الشمس الغائرة، كما أنك تغيبين الليلة في أشعتك الحمراء؛ فكذلك في دماء كاسياس الحمراء يغيب نوره ويفنى نهاره، لقد غربت شمس روما وانقضى يومنا وباخ ضياؤه، وقد أقبل السحاب بمدامع الطل، وأشرفت الأهوال والمخاطر.» «الفصل الخامس - المنظر الثالث».
Página desconocida