146

وهكذا أصبحت ألمانيا تستعمر المجاهل في القارة الأفريقية؛ لأنها ليست بأقل من إنجلترا التي سبقتها إلى استعمارها.

ولسوء حظ هذه الدول - من طالبات الوجاهة الاستعمارية - أنها جاءت في الزمن الأخير، والاستعمار كما كان خلال القرن الثامن عشر في دور الاحتضار، فنكبت جميعا ولم تستفد من استعمارها كما استفادت الدول التي سبقتها في غفلة الزمن، مع جهالة الشعوب التي نكبت بغارات الغاصبين.

بديهيات لا نبوءات

ولا أريد أن أدعي أنني أتنبأ بما يحدث بعد سنوات، ولكنني أريد أن أقول إن البديهيات ظاهرة لمن يلتفت إليها، وقليلا ما يلتفت الناس إلى المحسوسات، فضلا عن البديهيات.

فمنذ عشرين سنة كتبت «رجعة أبي العلاء»، وتخيلت فيها المعري عائدا إلى العالم يسبح في أرجائه، بعد أن حرم نفسه السياحة فيه أيام الحياة، وقلت عنه إنه «كان في أرض نيبون يتأفف ويتبرم من كل شيء ومن غير شيء، ولم يزل مع تلميذه على حذر وامتعاض حتى هجرا أرض نيبون إلى أرض الصين، وأقاما فيها برهة بين الفتن والثورات والمجاعة تارة والقحط تارات، ولكنهما كانا أقرب إلى راحة البال وشهود الأحوال؛ لأنهما كانا يشهدان في الصين جهدا يسر الناظرين أن يبلغ تمامه ، أما الجهد الذي كانا يشهدانه في أرض نيبون فقل أن يكون في تمامه سرور للناظرين، ولا سيما الحكماء.»

ثم يسأل التلميذ أستاذه عن انتصار اليابان وهزيمة الصينيين، فيقول الأستاذ المعري:

وما يدريك لعل أهل نيبون يخدمون أهل الصين بهذه الهزيمة وهم لا يشعرون؟ لقد كان هؤلاء المنهزمون شتيتا من الخلق، فجمعتهم الهزيمة فأصبحوا أمة تنضوي إلى لواء واحد، فإذا بالمنتصرين يخافونهم بعد همس سنوات تجردوا فيها لاتخاذ الأهبة، وتوحدوا أو كادوا يتوحدون، فكيف يكون شأنهم لو تجردوا لاتخاذ الأهبة متوحدين خمسين سنة لا خمس سنوات؟ ... علم الله لولا أن أهل نيبون يخافونهم ويفزعون من غدهم، لما عاجلوهم بالعدوان، وما أخالهم مع ذلك آمنين عقبى الأمور.

وتركيا من قبل

لقد كنا نحذر هذه العقبى على بلاد الشمس المشرقة قبل عشرين سنة، وكنا نتمنى لبلاد الشرق كله أن تعصم نفسها عن غوائل الاستعمار وعواقبه، فتدفع عنها المستعمرين ولا تشتهي تلك الشهوة الخبيثة، التي تغريها بمحاكاة أولئك المستعمرين.

وقبل نكبة اليابان كنا نكتب في مجلة البيان - سنة 1912 - عن مستقبل الدولة العثمانية، فنقول بعد هزيمة البلقان: «لو كانت الدولة العثمانية شجرة لا تنبت إلا في أوربة، لحق لهم ألا يرجوا منها بعد الآن ثمرا، ولكنها شرقية المنبت، وهذه أرومتها لا تزال في الشرق، وما هذه الولايات الأوربية إلا فروع منها لا يميتها انفصالها.»

Página desconocida