محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
Página desconocida
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
Página desconocida
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
Página desconocida
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
Página desconocida
محتشمي زايد
علوان فواز محتشمي
رندة سليمان مبارك
محتشمي زايد
يوم قتل الزعيم
يوم قتل الزعيم
تأليف
نجيب محفوظ
محتشمي زايد
نوم قليل، وفترة انتظار ثملة بالدفء تحت الغطاء الثقيل. النافذة تنضح بضياء خفيف، ولكنه يتجلى بقوة في ظلام الحجرة الدامس، اللهم إني أنام بأمرك، وأصحو بأمرك، وإنك مالك كل شيء. ها هو أذان الفجر يفتتح يومي الجديد، ويسبح في بحر الصمت الشامل هاتفا باسمك. اللهم عونك لهجر حنان الفراش، والخروج إلى قسوة برد هذا الشتاء الطويل. حبيبي يغط في نومه في الفراش الآخر؛ فلأتلمس طريقي في الظلام أن أوقظه. ما أبرد ماء الوضوء! ولكني أستمد الحرارة من رحمتك. الصلاة لقاء وفناء. من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. كل يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم. أنتزع نفسي من تأملاتي أخيرا لأوقظ النيام. أنا منبه هذه الأسرة المرهقة. حسن ألا تخلو من نفع وأنني في هذا العمر؛ طاعن في السن متين الصحة بفضل الله. لا بأس أن أضيء المصباح الآن، وأنقر باب الحجرة بأصبعي هاتفا: «فواز.» حتى أسمع صوته وهو يقول: «صباح الخير يا أبي.» أرجع إلى حجرتي وأضيء مصباحها أيضا، فأرى حفيدي مستغرقا في نومه لا يبدو منه إلا وسط وجهه بين حافتي الغطاء والطاقية. ما باليد حيلة، علي أن أخرجه من دنيا الراحة إلى الجحيم، وأهمس بقلب مفعم بالعطف عليه وعلى جيله: «علوان .. اصح.» ويفتح عينيه العسليتين، ويتثاءب، ويقول باسما: «صباح الخير يا جدي.» ويعقب ذلك حركة أقدام، ونشاط ألسنة، وحياة تدب ما بين الحمام وحجرة السفرة، وأستمع إلى قرآن الصباح في الراديو حتى تناديني هناء زوجة ابني: «السفرة جاهزة يا عمي.» أهم ما بقي لي في مسرات الدنيا الطعام. ما أكثر نعم الله في دنياه! اللهم جنبني المرض والعجز، لا أحد ثمة للعناية بالآخرين، ولا فائض مال للتمريض. الويل لمن يسقط. يجمعنا في الصباح المدمس وحده أو الطعمية، هما معا أهم من قنال السويس. سقيا لعهد البيض والجبن والبسطرمة والمربى، ذلك عهد بائد، أو ق.ا. أي قبل الانفتاح. الأسعار جنت، كل شيء قد جن. ما زال فواز مائلا للبدانة، وهو يستعين بالخبز، ومثله هناء، ولكنها تسرع نحو الكبر قبل الأوان. ابن خمسين يبدو اليوم كأنه ابن ستين. وقال فواز بصوته الجهير: سنعمل أياما صباحا ومساء بالوزارة، فأضطر إلى الانقطاع عن الشركة.
Página desconocida
ساورني قلق. إنه وزوجه يعملان في شركة قطاع خاص، ودخلهما ومعاشي ومرتب علوان تفي بالكاد بضرورات الحياة، فما الحال إذا استغنت عنه الشركة؟!
فقلت برجاء: لعلها أيام قليلة.
وقالت هناء: سأقوم ببعض عملك، وآتيك بما لم ينجز منه، وأشرح لمدير القسم ظروفك.
فقال فواز متسخطا: هذا يعني أن أعمل في الصباح حتى منتصف الليل.
أتمنى دائما ألا نثير غبار الهموم على مائدة الطعام، ولكن كيف؟ وقال علوان: والد أستاذتي علياء سميح يسوق تاكسي في أوقات فراغه ويربح أكثر طبعا.
فسأله والده: هل يملك التاكسي؟ - أظن ذلك. - ومن أين لي بشراء واحد؟! وهل كان أبو أستاذتك غنيا أو مرتشيا؟ - كل ما أعرفه أنه رجل محترم.
فقلت: اختار طريقا شريفا في النهاية.
فقال علوان ضاحكا: لعلي أختار طريقا مثله يوما ما.
فسألته هناء بجدية: ماذا ستفعل؟ - سأكون عصابة للسطو على البنوك!
فقال فواز بامتعاض: خير ما تفعل.
Página desconocida
ومسحت الأطباق مسحا، ومضت بها هناء إلى المطبخ، وما لبثوا أن ودعوني وذهبوا. وجدتني في الشقة الصغيرة وحيدا كالعادة. اللهم ارزقهم واكفهم شر الأيام. اللهم امنحني شيئا من نعمة القرب والولاية. لو تركت البيت على حاله لبقي ملهوجا في فوضى شاملة حتى المساء. أفعل ما أستطيع في حجرة نومي وحجرة المعيشة، حيث أمضي وحدتي مستمعا للقرآن والأغاني والأخبار في رحاب الراديو أو التليفزيون. لو توجد حجرة رابعة لأمكن أن يقيم علوان فيها عشه. الحمد لله، لا اعتراض على قضائه. مر العارف أبو العباس المرسي بالقاهرة بأناس يزدحمون على دكان خباز في سنة الغلاء فرق قلبه لهم، ثم وقع في نفسه أنه لو كان معي دراهم لآثرت بها هؤلاء؛ فأحس بثقل في جيبه فأدخل فيه يده، فوجد فيه جملة من الدراهم، فأعطاها للخباز وأخذ بها خبزا فرقه، فلما انصرف وجد الخباز الدراهم زائفة فاستغاث عليه وأمسكه؛ فعلم أن ما وقع في نفسه من الرقة اعتراض على قضاء الله، فاستغفر وتاب، وسرعان ما تبين للخباز أن الدراهم صحيحة! ذلك هو الولي الكامل، ولا تتأتى الولاية إلا لمن يعرض عن الدنيا. شارفت الثمانين وما وسعني أن أعرض عن الدنيا. هي دنيا الله وهبته الخاطفة لنا، فكيف أعرض عنها؟! أحبها ولكن حب الحر التقي العابد، فلم تضن علي بالولاية؟ يهمني القرآن والحديث كما يهمني الانفتاح، وكما تهمني لقمة المدمس بالزيت الحار والكمون والليمون. ومن ذا يحيط برحمة الله الواسعة؟ فقد أشير ذات يوم من بعيد إلى المصباح فيضيء دون أن أمس مفتاحه. لم يبق لي من أصدقاء العمر إلا واحد فرقت بيننا الشيخوخة. وحدة النفس والمكان والزمان. وكفت العينان عن القراءة منذ عام. نومي قليل جدا ولا أخاف الموت. أرحب به حالما يجيء ولكن ليس قبل ذلك. عندما افتتح الملك فؤاد المدرسة انتدبت لإلقاء كلمة المدرسين؛ يوم مجد أثلج صدري بهتاف الأولاد: «يعيش الملك ويحيا سعد.» تغير الهتاف وتغيرت الأغاني. انفجر أخيرا الغلاء. من وراء الزجاج المغلق أرى النيل والأشجار. بيتنا أقدم وأصغر بيت في شارع النيل؛ قزم وسط العمائر الحديثة. النيل نفسه تغير وكأنه مثلي يكابد وحدة وشيخوخة. لبسته حال واحدة، فقد مجده وأطواره، لم يعد في مقدوره الغضب. ما أكثر السيارات، ما أكثر الثروات، ما أشد الفقر، ما أكثر الأحباب الراحلين! يوم غائم منذر بالمطر، في مثله كانت تحلو الرحلة إلى حدائق القناطر. أصدقاء العمر يجتمعون حول الدجاج المقلي والبطاطس والشراب والفونوغراف. أسمر ملك روحي، إن كنت أسامح وأنسى الأسية، كلهم هياكل عظمية، وضحكاتهم المترعة بالسرور والأمان ذابت في تضاعيف الفضاء. وقفوا ورائي صفا ليلة الزفاف؛ ليلة كشف النقاب لأول مرة عن وجه فاطمة. خمس سنوات مضت على آخر زيارة لقبرك. أي سرعة جنونية في هذا الزحام الذي لم تعرف له الأشجار مثيلا مذ غرست في عصر إسماعيل؟! المجنون يجري بلا وعي نحو حادثة يرصده عندها الأجل. قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «يا عبد الله، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، واعدد نفسك في الموتى.» صدق رسول الله.
علوان فواز محتشمي
صباح يوم جديد، قديم، جديد قديم، جديد قديم، جديد قديم، جديد قديم، قديم جديد. دوخيني يا ليمونة. إن لم يوجد قديم حسن فليوجد جديد سيئ. أي شيء خير من لا شيء. الموت نفسه تجديد، المشي صحة واقتصاد. المفروض أنه طريق العشق والجمال فانظر ما هو. آه يا قدمي! آه يا حذائي! تحملا وتصبرا، هذا زمن التحمل والتصبر. في زمن النار والوحوش لا نسمة ترطب الفؤاد إلا أنت يا حبيبتي. للأشجار الباسقة فضل، وللنيل فضل أيضا لا ينكر. انظر إلى أعلى إلى السحب البيضاء ورءوس الأشجار لتنسى سطح الأرض المجدور، ستلقى يوما شيطانا بريئا فتؤاخيه. إني عبد العقل الراجح، والخلق الكريم، والعينين السوداوين المظللتين بحاجبين مقرونين؛ منذ الصغر منذ الصبا منذ الشباب في البيت القديم الضائع بين العمائر الشاهقة، دسيسة بين الأغنياء. سيقتلنا صاحب البيت ذات يوم. عجيب أن يخلد الحب في ظل الفساد المنتشر. هذا الطوار المتهرئ، هل تخلف عن غارة جوية؟ وأكوام القمامة رابضة بالأركان تحرس العشاق. صباح الخير أيها المكدسون في الباصات، وجوهكم تطل من وراء الزجاج المشروخ مثل المساجين في يوم الزيارة. والجسر المكتظ بالعابرين. السائرون على عجل يلتهمون سندوتشات الفول بنهم وبلا تذوق. جدي قال: اشتدي أزمة تنفرجي.
يا جدي المحبوب حتى متى نحفظ ونردد؟ إنه صديقي الأول، ما أنا إلا يتيم؛ فقدت أبوي بعد أن فقدا نفسهما في عمل يتواصل من الصباح حتى المساء، موزعين بين الحكومة والقطاع الخاص في سبيل اللقمة والضرورة، لا نلتقي إلا خطفا. - لا وقت للفلسفة من فضلك، ألا ترى أننا لا نجد وقتا للنوم؟! إن صادفت إحدى أخواتي عثرة في حياتها الزوجية ندبت أنا لإصلاح ذات البين! زمن لا يجد فيه أحد عند آخر عونا، على كل أن يصارع وحسن حظه وحده. أخيرا ها هي شركة الأغذية، إحدى شركات القطاع العام، أقرأ على مدخلها بالبنط العريض: «ادخلوها بلا أمل.» ها هي محبوبتي في إدارتنا العتيدة، العلاقات العامة والترجمة، تغدق علي ابتسامة الحب. قلت لها معاتبا: لو انتظرت دقائق لجئنا معا.
فقالت بمرح: لظروف كان علي أن أتناول فطوري في البرازيل.
بفضل جدي جمعتنا شركة واحدة وإدارة واحدة، أو بفضل ضابط من الضباط الأحرار كان يوما تلميذه. جدي شخصيته لا تنسى، يتذكر فضله رجل من جيل أنكر فضل السابقين. ما أكثر البنات في إدارتنا! ها هي جيوش الأوراق تجم عملنا في غير حاجة إلى تركيز جدي؛ أعمل حينا وأسترق النظر إلى حبيبتي رندة حينا. أتذكر وأحلم وأحلم وأتذكر. قصة طويلة ترجع إلى أقدم عصور الحياة في بيتنا القديم الفريد. لعبنا في الطفولة واحد وعمرنا واحد. ماما تؤكد بغير دليل أنها أكبر مني، ويجيء البلوغ مصحوبا بالحياء والحذر، والرقيب يتدخل هادما المسرات، لكن الحب اقتحم في حينه. في المرحلة الثانوية، انهالت على السلم بين الطابقين المداعبات العابرة والعبارات الرمزية. وذات يوم دسست في يدها رسالة اعتراف. كجواب منها أهدتني قصة وفاء الجيلين. لما نجحنا في الثانوية العامة في عام واحد قلت لجدي: أريد أن أخطب رندة سليمان جارتنا. جدي قال لي إنه على أيامه لم يكن يباح الكلام في الخطبة قبل أن يستقل الشاب بحياته، ولكنه وعد بمفاتحة بابا وماما في الموضوع كما وعد بتأييدي. أمي قالت إن آل سليمان مبارك أقرب من الأقارب، ورندة بمنزلة بناتها، ولكنها أكبر منك! وقال أبي: إنها تماثلك في السن إن لم تكن أكبر، وتماثلك أيضا في الفقر. أعلنت الخطبة في يوم سعيد. وقتها كان الحلم يمكن أن يصير واقعا. منذ التحقنا بالعمل موظفين واجهتنا حقائق جديدة، ومرت أعوام ثلاثة فختمنا السادسة والعشرين. كنت عاشقا فأصبحت مرهقا عاجزا مسئولا، لا نجتمع اليوم للمناجاة، ولكن لمناقشات توشك أن تلحقنا بالمجموعة الاقتصادية؛ الشقة .. الأثاث .. أعباء الحياة المشتركة. لا حل لديها ولا حل لدي، ولا نملك إلا الحب والإصرار. أعلنت الخطبة في عهد الناصرية، وواجهنا الحقيقة في عصر الانفتاح، غرقنا في دوامة عالم مجنون، حتى في الهجرة لا مجال لنا، بين الفلسفة والتاريخ ضعف الطالب والمطلوب. لا لزوم لنا. ما أكثر من لا لزوم لهم! كيف حاق بنا هذا الضياع؟! إني مسئول مطارد تحاصره التساؤلات، وهي جميلة ومطلوبة، وأنا قائم مثل السد في طريق حظها. نظرات والديها الممتعضة لا تفارقني .. أكاد أسمع ما يقال من ورائي. فوق ذلك تهيم أحلام الإصلاح، تجيء من فوق أو من تحت، بقرارات أو بانتفاضات، معجزة العلم والإنتاج، لكن ما الحل مع ما يقال عن الفساد واللصوص؟ ما أفظع ما تقول الدكتورة علياء سميح وما يقول محمود المحروقي! أين الصواب؟ لم أشك في كل شيء؟ منذ تهاوى مثلي الأعلى في 5 يونيو، كيف يجد أناس سبيلا سحريا إلى الثراء الفاحش وفي زمن لا يصدق؟! ألا يمكن أن يحدث ذلك بلا انحراف؟ ما سر حرصي على الاستقامة؟ ما أطمح في هذه الساعة إلى أكثر مما يؤهلني للزواج من رندة. دعينا إلى مقابلة مدير الإدارة أنور علام، أنا ورندة. كثيرا ما ندعى معا لتعاوننا المشترك على ترجمة اللائحة؛ إنه مدير لطيف المعاملة، جميل الاستقبال، محب للدعاية، نحيل طويل غامق السمرة، مستدير العينين ذو نظرة نافذة، وأيضا كهل يشارف الخمسين من عمره وأعزب. وكعادته قال: أهلا بالعروسين!
وراح ينظر في أوراقنا بسرعة وذكاء مبديا بعض الملاحظات. ورد التسويدة متسائلا: متى نفرح بكما؟
إني أعتبر أسلوبه في التدخل في الشئون الخاصة للموظفين سياسة، وإن لم تصادف مني ارتياحا مثل نظرة عينيه، على أني أحببته: مشكلتنا حتى الآن لا حل لها.
فقال باستهانة جريئة: لا مشكلة بلا حل.
Página desconocida
فقلت كالمحتج: ولكن ...
وإذا به يقاطعني: لا تردد أقوال العاجزين.
فملأني الغيظ وسألته: ما الحل في تصورك؟
فضحك ضحكة مستفزة وقال: لا تطلب الحل عند الآخرين.
رجعت إلى مكتبي وفكرة تساورني أنه تعمد أن يظهرني في صورة العاجز أمام رندة، وعشت في غبش هذه الفكرة طيلة الوقت حتى أذن موعد الانصراف. ولدى عودتنا معا إلى شارع النيل ملفوفين في معطفينا قلت لها: الرجل أثار أعصابي.
فقالت وهي تحبك طوق المعطف حول عنقها السمح: وأنا كذلك. - إنه سمج يدعي الظرف. - هو كذلك. - هل تصدقين أنه يوجد حل لمشكلتنا لم نهتد إليه بعد؟
فتفكرت قليلا ثم قالت: أملي في الله كبير، نحن نفكر وكأن كل شيء سيبقى على حاله إلى الأبد!
فقلت بقلق: ولكن العمر يجري يا رندة.
فقالت باسمة: ربما، ولكن الحب ثابت!
رندة سليمان مبارك
Página desconocida
أصعد السلم إلى الشقة، ويقف هو أمام شقته كأنما ليطمئن علي حتى أبلغ بابي. ودعني بقبلة فاترة شأن المهموم بأفكاره. لعنة الله على المدير. استفزه بلا سبب. ظل طول الوقت كئيبا مغتما. أفهم ذلك جيدا، ولكن ألا يثق بي؟! لا مساحة عندنا لمزيد من القلق. رائحة الملوخية تجول في الشقة، ما أشد استجابتي لها! أبي نائم فوق مقعده. ألثم جبينه فيختلج جفناه. يبتسم بحنان. هزلت وضعفت. لعنة الله على الروماتزم. محتشمي بك جد حبيبي أقوى منه عشر مرات رغم أنه يكبره بعشر سنوات. صوت ماما يعلن أن السفرة جاهزة. أحب الملوخية، ولكن ماما لا تعجبها شهيتي. كثيرا ما تقولي لي: النحيف لا يقاوم الأمراض.
فأقول لها: البدانة أيضا ضارة. - عنيدة، إن قلت يمينا قالت شمالا.
ماما بدينة، وكانت كذلك من قديم، تصلي وهي قاعدة على الكنبة؛ من أجل ذلك يكتنفني الحذر عند تناول الطعام. ظنت نفسها غنية بدخلها البالغ خمسة وعشرين جنيها في الشهر. لعلها كانت على حق في الأيام الأسطورية التي تحكى لنا، أي قيمة اليوم لدخلها ومعاش بابا ومرتبي جميعا؟!
ركب أبي طاقم أسنانه الذي لا يستعمله إلا حين تناول الطعام، وراح يأكل على مهل ويشكو شدة البرد. انضمت أختي المطلقة سناء التي تشاركني حجرة نومي. إنها تدرس السكرتارية في معهد خاص لتجد لها عملا فلا تكون عالة على أحد. بعد الغداء استلقيت على فراشي، فعاودتني ذكرى القبلة الفاترة. لا أحب هذا. إهانة أو ما يشبه ذلك. إذا تكرر ذلك فسوف أصارحه: لا تقبلني إلا وأنت تحبني، لا يشغلك شيء عن حبي، ماذا بقي لنا سوى الحب؟! أراعيه كأنما أنا أم وكأنما هو ابن مدلل متمرد. آه لو أمكنه أن يكون مهندسا! كان «زمنا» من أبطال الانفتاح لا من ضحاياه، وضحية أيضا ل 5 يونيو واختفاء البطل المنهزم، حائر لا موقف له. حتى متى؟ يحتقر السابقين ويؤمن بأنه خير منهم، لماذا؟ متى ينظر إلى نفسه نظرة ناقدة موضوعية؟ لعله دوري وواجبي، ولكني أخشى على الشيء الباقي الوحيد؛ حبنا. أحبه والحب لا عقل له، أريده بكل قوة نفسي. كيف؟ ومتى؟ أختي سناء تزوجت عن حب وقنعت بالثانوية العامة ونصيب ست البيت، وشاب من ذوي الأملاك ثم لم توفق، ومات الحب. الاتهامات انصبت كالعادة على الطرف الآخر، ولكنها عصبية، تثور كالبركان لأتفه الأسباب؛ فمن يحتمل ذلك؟! من أجل ذلك تعودت على أن أحذر الغضب كما أحذر الإفراط في الطعام. متى تتيسر تلك السعادة الملعونة؟! حتى متى يصمد الجمال أمام الزمن الجارف؟ لا ولم أعرف أنني نمت إلا بحلم رأيته. قمت عصرا .. لاطفت قطتي دقيقة .. صليت العصر والظهر معا. شكرا لماما؛ فهي مربيتي الدينية. أما بابا! ماما زوجة موفقة رغم فارق السن بينها وبين بابا ورغم لادينية بابا! أتذكرين محاسبتك له في الزمان الأول؟ - بابا، لم لا تصوم مثلنا؟
يقول ضاحكا : الصغيرة تحاسب أباها. - ألا تخاف الله؟ - الصحة يا حبيبتي، لا يغرنك مظهري. - والصلاة يا بابا؟ - أوه .. سأحدثك عن ذلك عندما تكبرين.
ليس كذلك الحال في شقة حبيبي. الجد والأب والأم يصلون ويصومون. لادينية أبي اليوم ساطعة مثل شيخوخته ومرضه. لم يتفوه أبدا بكلمة مريبة، ولكن في السلوك ما يكفي، في ثورات غضبه يسب الدين. ربما استغفر الله إرضاء لي أو لماما كشعار ليس إلا كسائر الشعرات الجوفاء التي تنهال علينا من أفواه المسئولين. زمن شعارات مقزز، حتى الراحل البطل لم يعف عن ترديد الشعارات، وبين الشعار والحقيقة هوة سقطنا فيها ضائعين، ولكن ما حبيبي؟ .. متدين؟ .. لا ديني؟ .. ملتزم؟ .. لا ملتزم؟ علياء سميح؟ .. محمود المحروقي؟! .. آه .. إنه حبيبي وكفى، ورزقي على الله. دائم البحث عن شيء مفقود. لو حلت مشكلتنا لعرف لنفسه مرفأ، ينطح الصخر ويقبض على الهواء. حجرة المعيشة تجمعنا .. أبي بمرضه وشيخوخته وإلحاده، ماما وبدانتها المفرطة وهموم الآخرين، سناء وضيقها بوضعها وشعورها الأليم بالغربة، أنا ومشكلتي المزمنة. في الظاهر والداي قد أتما رسالتهما، فأي سخرية! ها هو التحقيق الصامت يحاصرني. ماذا بعد خطبة طالت أحد عشر عاما؟ ألا يوجد بصيص أمل؟
تقول سناء بصوتها الرفيع الحاد: لتنتظر حتى تترمل وهي مخطوبة!
فأقول لها بصرامة: لا شأن لك بي.
فتقول ماما: ذكريه يا رندة كي لا ينسى. - نحن نعيش همومنا كل دقيقة؛ فلا داعي للتذكير.
ثم بمزيد من الحدة: إني رشيدة، اخترت سبيلي بملء حريتي، ولن أندم على شيء.
Página desconocida
ويقول أبي بضجر: رندة رشيدة ومسئولة عن نفسها.
فتقول ماما بحسرة: كم من عرسان لقطة فقدناهم!
فأقول بكبرياء: لست جارية معروضة في السوق للبيع. - أنا أمك، فوق أي شبهة، تزوجت بالطريقة القديمة ووفقت والحمد لله. - يا ماما لكل جيل طريقته، وجيلنا فاق الجميع في سوء حظه.
فيقول أبي باسما: جاء عصر أكل الناس فيه الكلاب والقطط والحمير والأطفال، ثم أكل بعضهم البعض.
فقلت بمرارة: لعلنا أسعد من عصر آكلي البشر.
وهتف أبي مغيرا الجو: حسبكم .. المسلسل التليفزيوني بدأ.
انتزعتني المقدمة الموسيقية التي أحبها من الصراع بقوتها الانسيابية، دعت حبيبي فهبط من الغيب وجلس إلى جانبي، انقلبت فجأة إلى أنثى حالمة شديدة الفهم للحياة الزوجية، وطاردت دمعة خائنة أوشكت أن تفضحني. هل تقبل الدنيا بدونه؟
وقالت ماما: با بخت أبطال المسلسلات! .. فما أسرع أن يجدوا لمشكلاتهم الحل السعيد!
محتشمي زايد
في وحدتي أنتظر، أحبك الروب حول جسدي النحيل، وأسوي الطاقية فوق رأسي الأصلع، أربت على شاربي. وفي وحدتي أنتظر،
Página desconocida
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . جرس الباب يرن، أفتح الباب فتدخل أم علي، في معطف سنجابي والخمار الأبيض يحدق بوجهها القمحي الريان. - كيف حالك يا بك؟ - نحمده يا أم علي. - الشتاء لا يريد أن يرحم.
وكامرأة يوزن وقتها بالنقود، خلعت المعطف وعلقته بمشجب قائم غير بعيد من الباب ثم مضت إلى حجرة نوم فواز وهناء. تبعتها كما نبه علي. جلست على مقعد أتابعها وهي تكنس وتنفض وتنظف وتلمع وترتب؛ نشيطة خفيفة رغم امتلائها. يخافون أن تمتد يدها إلى شيء. سوء ظن لا مبرر له، وهو من رواسب الماضي. أم علي ساعتها بجنيه، وتنتقل من بيت إلى بيت كالنحلة؛ فإيرادها يزيد عن مرتباتنا جميعا مجتمعة، ولكني أرتاح إلى الانفراد بها. نزهة أسبوعية تنفخ في وجداني نغمة الحلم الغابر، الانفراد بها يتجسد في حال يضطرب لها روتين الزمن، ويواجه الأنا القديم الأنا الطارئ فيتناجيان وبينهما فاصل الزمن بلغتين غريبتين لا تفضيان إلى تفاهم، ثم يستعير القلب من مخزونه البائد خفقة خاطفة تعيش حياة مقدارها ثلاثون ثانية. وعندما تنحني لتعيد بسط الكليم أتصور أن أقرصها بحنان، مجرد تصور؛ فإنني مسيطر على زمامي تماما، وهي مطمئنة من ناحيتي تماما، كأنها رجل في النشاط والقوة وتماسك الشخصية،
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . وأسألها متمرغا في انفرادي بها: كيف حال المعلم؟ - ربنا يلطف به. - والأولاد؟ - هاجروا، لم يبق إلا العبيط.
وتضحك ثم بدورها تسألني: ما آخر أخبار صاحب عمارتكم؟ - يئس وسكت. - من كان يصدق أن الأرض تجن مثل بني آدم؟! - الجنون أصل كل شيء يا أم علي.
ما أشد شعوري بالانفراد بك! حوالينا ولا علينا يا رب، كأيام شارع خيرت المسقوف بالشجر، وتحت مظلة من الأفكار الحرة المستوردة، فكرية ورتيبة الممرضتان وشقاوة الغجر. الحياة فصول، ولكل فصل مذاقه، وطوبى لمن أحب الدنيا بما هي دنيا الله. في زيارة لسليمان مبارك أبي رندة قال لي: أغبطك على صحتك يا محتشمي.
فقلت بثقة: الوراثة والإيمان يا عم سليمان.
فتساءل وهو ينظر نحوي بخبث: كيف أصدق أن مثلك يؤمن بالخزعبلات؟ - الله يهدي من يشاء. - كأنك في ماض ما، ما كنت ملحدا.
فقلت باسما: إيمان موروث؛ شك، إلحاد، عقلانية، لاأدرية، ثم إيمان!
فتساءل ساخرا: بوفيه مفتوح؟! - هي الحياة الكاملة. - إني فخور بثباتي، راض بالعدم، عابد للحقيقة، وقد أوصيت زينب إذا جاء الأجل ألا ينشر نعي ولا تكون جنازة ولا مأتم ولا حداد. - ما هو إلا نور يهبط فجأة فيبدد الظلمات. - المسألة أن العمر تقدم بك حتى لاح لك الموت.
حوار عقيم،
Página desconocida
وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا . صديقي يعيش في كون خال، وأعيش في كون آهل بالأحباب. أستغفر الله. يا لها من زيارة؛ زيارة أم علي! ماذا يفعل المسكين علوان؟ محرومون وسط سيرك من اللصوص. أحدثه عن زماني لعله. رمى ببهلوان يطلق في العطسة عشرة شعارات عقيمة. أم علي تنتهي من عملها، تغسل اليدين والوجه وترتدي معطفها السنجابي وتنظر في ساعة يدها لتعرف مستحقاتها، أسلمها النقود فتذهب قائلة: فتك بعافية يا بك. - مع السلامة يا أم علي، لا تنسي الميعاد القادم.
وتعود الوحدة، أتمشى في الشقة بعد تعذر المشي في الشارع. القرآن والأغاني. طوبى لكم يا من اخترعتم الراديو والتليفزيون. بامية ومكرونة الغداء. حبب الله إلي العبادة، وجعل قرة عيني في الطعام. أي وحدة والكون من حولي مكتظ بملايين من الأرواح؟ أحب الحياة وأرحب بالموت في حينه. كم من تلميذ قديم لي قد صار اليوم وزيرا! لا رهبانية في الإسلام، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها. كثيرا ما أحادث حفيدي المحبوب عن الماضي لعله من حيرته يخرج. أغريه بالقراءة وقليلا ما يقرأ، ويستمع إلي بدهشة من يعز التصديق عليه. دعنا من علياء سميح ومحمود المحروقي، ألم تحملك الأحداث على الإيمان بالوطن والديمقراطية؟ وما معنى الإصرار على التمسك ببطل منهزم راحل؟! كي لا تصبح الدنيا فراغا يا جدي. إني ألفت نظرك إلى أشياء غاية في الجمال. يضحك ويقول لي: ما أريد الآن إلا شقة ومهرا مناسبا.
كيف أستطيع تجنب هموم الدنيا ومعي حفيدي المحبوب؟! ما أجمل كرامات الأولياء!
علوان فواز محتشمي
علمني زمني أن أفكر، علمني أيضا أن أستهين بكل شيء، وأن أشك في كل شيء. ربما قرأت عن مشروع منعش للآمال، وسرعان ما يكشف المفسرون عن حقيقته فلا يتمخض عن أكثر من لعبة قذرة. هل تترك السفينة للغرق؟! هي عصابة مسلطة علينا لا أكثر ولا أقل؟! أين الأيام الحلوة؟ كانت توجد أيام حلوة لا شك في ذلك، ولي أنا أيضا أيام، حين كانت الشقة عامرة بالأخوات والدفء، وكانت الأعباء يسيرة. كان لأبي وأمي وجود في البيت، وكان يوجد حوار وضحك وحماس الدراسة وسطوة البطولة. إحنا الشعب، اخترناك من قلب الشعب. والحب كان باقة من الورد في قرطاس من الأمل. فقدنا زعيمنا الأول ومطربنا الأول، ويخرجنا من الهزيمة زعيم مضاد فيفسد علينا لذة النصر؛ نصر مقابل هزيمتين. اخترناك من قلب الشعب. وتجذب حبيبتي الشص من الماء فتخرج فارغة وتنغرز في إبهامي، وتترك أثرا مازال باقيا حتى اليوم. على شاطئ النيل أمام بيتنا قلت لها: إنك لا تحسنين صيد السمك، ولكنك اصطدت قلبي وأسلت دمي. من الأخوة إلى الحب حدث تغير بطيء مثل قرون أوراق الشجر التي تسبق بالظهور في أوائل الربيع، ولا ترى إلا عند التأمل. أنوثة وتورد الخدين ووشاية أعلى الفستان، باللغة حين تقول الكلمة شيئا وتشير إلى شيء آخر، وتلاشت البراءة، وحلت محلها مفاوضات وتوسلات من أجل لثمة فوق الخد أو الشفة. أطيب ثمرة في الشجرة أخلاق وعقل وجمال. يضايقني أحيانا أن تبدو أعقل مني. لا أنسى حزن نظرتها عندما اعترفت لها بعجزي عن اختيار القسم العلمي. حوار طويل لم يجر على لساننا، ولكنه يتربص بنا في زاوية ما. أسرتانا سقطتا معا في حفرة الانفتاح. شد ما يحزنني ألا تظهري في الملابس اللائقة بجمالك. أي مسئولية تثقل كاهلي. قلت لها مرة في استراحة الهرم: فلنتسل بحصر أعدائنا.
فدخلت اللعبة قائلة: غول الانفتاح واللصوص الأماثل. - هل ينفعنا قتل مليون؟
فقالت ضاحكة: قد ينفعنا قتل واحد فقط.
فقلت ضاحكا أيضا: إنك اليوم رندة المحروقي. •••
أنور علام المدير يستدعيني إلى حجرته، ويطلب إلي أن أزوره في مسكنه في الخامسة مساء لإجراء مراجعة شاملة قبل إعداد الحساب الختامي. أخبرت رندة فلم تعلق. مسكنه في عمارة نصف جديدة بالدقي تقع أمام أحد مداخل جسر 6 أكتوبر. استقبلني ببشاشة وهو مرتد بدلته وقال: لا تغرقك فخامة الشقة؛ فأختي تعيش معي، وهي أرملة غنية.
كأنما ينفي عن نفسه الشبهات. كل فرد مهدد اليوم بالشبهات. وعملنا بهمة حتى الساعة الثامنة. في أثناء ذلك دخلت الأرملة بالشاي، تعارف بيننا وقدمها قائلا: «جولستان أختي.» من النظرة الأولى شعرت بأنني أمام امرأة يقع عمرها ما بين الأربعين والخمسين، مقبولة المنظر، ممتلئة في تكوين حسن، مثيرة رغم رزانتها واحتشامها، أو ربما لرزانتها واحتشامها. لم تجلس، وقالت وهي تغادرنا: استبق الأستاذ للعشاء معنا.
Página desconocida
فقال أنور علام: هذا أمر!
أعدت لنا مائدة من الشواء والسلطات المتنوعة والجبن والزيتون ثم مهلبية وتفاح. وسمعت أنور علام يقول ونحن نتناول عشاءنا: أنا وكيل أعمالها؛ فقد ورثت عن زوجها عمارتين وشهادات استثمار.
لفت نظري تعريفه لي بأملاكها فسرحت في أكثر من ظن. وراح يحكي لها عن مشكلة خطبتي بإشفاق. - هذه حال جيل بأسره.
فقال الرجل: ومما يزيد المشكلة تعقيدا أن علوان من أصحاب المبادئ.
فقالت بإعجاب: جميل أن أسمع ذلك، الأخلاق أهم شيء في الدنيا.
نبرتها لا تدع مجالا للشك في صدقها. وإني أجدها مثيرة للغاية، وإني مخزن بارود عند أي إثارة. معاناتي في هذه الناحية تستحق الرثاء. وقال أنور: أختي كاملة في كل شيء إلا شيئا واحدا لا أوافقها عليه، هو إعراضها عن أكثر من فرصة زواج طيب.
فقالت بهدوء: لست سلعة وليسوا رجالا.
فقال أنور علام: ثراء المرأة قيمة مشروعة، ولا عيب على الرجل إذا أولاها ما تستحقه بالإضافة إلى المزايا الأخرى.
فقالت السيدة جولستان: لا رجل جدير بالثقة في هذا الزمان.
وملت إلى تغيير مجرى الحديث، فسألت مديري: معذرة يا سيدي، لم لم تتزوج حتى اليوم؟!
Página desconocida
فقال بغموض: أسباب كثيرة.
ولم يذكر سببا واحدا، فقالت جولستان: إنه مخطئ، وهو قادر على الزواج.
وراح يسألني عن أسرتي وأسرة رندة وأنا أجيبه بصدق وإيجاز، حتى قال: رندة فتاة ممتازة، ولكن الزمن يسرقها.
طعنة وأي طعنة! مقصودة أم جاءت عفو الخاطر؟!
على أي حال أفسدت علي السهرة، ولم يخفف من حدتها قول جولستان: الحب هو العمر الحقيقي.
وغادرت المسكن مشحونا بالسخط على الرجل والإثارة من ناحية شقيقته.
رندة سليمان مبارك
اعتمدت رسائلي المترجمة من المدير ولم يبق إلا أن أذهب، ولكنه مال بكرسيه المتحرك إلى الوراء وقال لي: آنسة رندة، عندي حكاية تهمك.
ماذا عنده يا ترى؟
قال: هي طبيبة شابة، كانت مخطوبة لطبيب زميل لأعوام، يئسا من الزواج، فسخا خطبتهما، تزوجت من تاجر في وكالة البلح، ووافقت على رغبته على البقاء في البيت كست بيت.
Página desconocida
دهشت واستأت، ولكني سألته بهدوء: لماذا تتصور أن هذه الحكاية تهمني؟
فسألني متجاهلا سؤالي: ما رأيك في تلك الطبيبة؟
فقلت بشيء من الجفاء: لا أستطيع أن أحكم على واحدة لا أعرف ظروفها.
فقال بهدوء: أنا أعتبرها عاقلة، فست البيت خير من طبيبة عانس.
غادرته بوجه لا أشك في أنه عالنه باستيائي. له نظرات طامعة لا يمكن تجاهلها. والحق أنه يشكل عبئا علينا، أنا وعلوان. في صباح الجمعة التالي لزيارته لبيت المدير ذهبنا إلى استراحة الهرم. الجو بارد حقا، ولكن الشمس ساطعة، ونحن ننظر من عل إلى المدينة التي تبدو عظيمة هادئة مترامية كأنما خالية من الهموم والقاذورات. وسألته ونحن نحتسي الشاي: كيف كانت زيارتك للبك المدير ؟
فأعادها علي بتفاصيلها، حتى أفسدت علي جلستي الحلوة. قلت: يبدو أنها لم تكن زيارة عمل. - بل عملنا ثلاث ساعات متتابعة.
فقلت بتحد: أنت فاهم قصدي.
فقال بسخط: إنه شخص مثير للأعصاب. - وأخته؟! - عاقلة متزنة احترمتها كأم.
فضحكت ضحكة باردة وتساءلت: وهل عاملتك كابن؟
فتساءل محتجا: تحقيق واتهام يا رندة؟!
Página desconocida
فقلت بسرعة: لا سمح الله.
ورويت له ما دار بيني وبينه في مكتبه، فقطب غاضبا وهتف: سأطالبه بألا يتدخل فيما لا يعنيه.
فقلت بتوسل: الأفضل أن نهمله كي لا تسوء العلاقة بينك وبين مديرك.
فقال بامتعاض: المسألة أن موقفي منك ضعيف لا أدري كيف أدافع عنه.
فقلت بلطف: لست متهما ولا أطالبك بدفاع. - إني مسئول وحزين. - لا حيلة لنا. - لكنه وغد ويعد خطة. - أهمله مع حقارته.
وصمتنا قليلا هاربين إلى رحمة الطبيعة حولنا حتى جاءني صوته متشكيا: كأننا نسينا حديث الحب.
فقلت مدارية حزني: لسنا في حاجة إلى مزيد منه.
فقال وهو يرمقني بامتنان: أحبك.
فقلت وأنا في غاية من التأثر: أحبك.
فتساءل في حيرة: ترى ما المغامرة الشريفة التي تدر علينا ما نحن في حاجة إليه من مال؟
Página desconocida
فقلت باسمة: ألا تملك موهبة الفتى الأول في السينما؟ - وأنت ألم تجربي صوتك ولو في الحمام؟
وضحكنا رغم همنا المشترك، وقال: ليست المشكلة تحسين مرتب، ولكنها مشكلة الخلو والأثاث أيضا.
ثم واصل بعد صمت قليل: المحروقي تزوج بكل بساطة، ولكنه يعيش في مخيم مع طائفته.
تخيلت المخيم وحياته، كأنه خيال لا حقيقة. رغم ذلك هفا فؤادي إليه؛ خيمة بسيطة ولكن يخفق بين جوانحها الحب. وفاض من قلبي نبع حنان متدفق. وقال بصوت دلني على أنه يشاركني أشواقي: شد ما أريدك أكثر من أي شيء في الوجود!
انضباطي خلقة مركبة في أعماقي منذ الصغر. حواري مع رغباتي الجامحة دائما ينتصر. لم تؤثر في تجارب شاهدتها عن كثب. حافظت على تصوري الوقور لمعنى الحرية. لم أتزعزع للتهم الساخرة المألوفة بالانغلاق والرجعية، ولم أبرأ من الحزن.
محتشمي زايد
ليلة أمس رأيت فيما يرى النائم سيدي أبا ذر. العبادة تغدق علي شفافية وهابة للرؤى. لحبي الدنيا أقف عند ذاك الحظ لا أتجاوزه، وترد على خاطري هذه الحكاية: «قال محمد بن العطار، قال لي الشيخ محمد راهين يوما: كيف قلبك؟ فقلت له: لا أعرف كيفيته.» وذكرت ذلك لسيدنا شاه نقشبند، وكان واقفا فوضع قدمه على قدمي، فغبت عن نفسي فرأيت جميع الموجودات مطوية في قلبي، فلما أفقت قال: إذا كان القلب هكذا فكيف يتسنى لأحد إدراكه؟ ولهذا قال في الحديث القدسي: «ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن.» ترد على خاطري تلك الحكاية فأغبط الأولياء وأتوق إلى الكرامات، ولكني أقف عند حافة بحر التصوف مستمسكا بالعبادة قانعا بها في أحضان دنيا الله، وقد يرتد بصري المتأمل الهادئ بنور من الوهاب. لا، ولا أندم على مراحل الحياة التي مررت بها؛ فقد منحت كل مرحلة نورها. اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. ويدق جرس الباب عند الضحى. من القادم وليس اليوم بيوم أم علي؟ وأفتح الباب فتدخل زينب هانم أم رندة. أستقبلها بترحاب وأنا أعجب لبدانتها رغم الضائقة. وتجلس في حجرة المعيشة وأسكت الراديو فتقول: لا أحد لي غيرك يا محتشمي بك.
فقلت وأنا أسائل نفسي عما جاء بها: لنا الله جميعا. - فواز بك وهناء هانم أولى بالحديث، ولكن العمل المتواصل لم يترك لهما فراغا، ولا فائدة ترجى من مخاطبة علوان؛ ففيك الكفاية والبركة.
آه، فهمت كل شيء مقدما، إنها قادمة من أجل مشكلة علوان ورندة. - إني مصغ إليك يا زينب هانم. - عندك حسن التقدير، البنت يا محتشمي بك على وشك الضياع. - لا سمح الله. - إنكم لدينا المفضلون على غيركم، ولكن حتى متى ننتظر؟!
شعرت بالخطر الزاحف نحو حفيدي المحبوب فتساءلت: زينب هانم، أليست رندة رشيدة ومثقفة وتميز بين ما ينفعها وما يضرها؟ - الحب يضل يا محتشمي بك، أصبح الحب في هذه الأيام إلها. هل تزوجت أنت عن حب يا محتشمي بك؟ هل تزوج فواز بك عن حب؟ - ولكنهما يؤمنان به.
Página desconocida
ونتركهما حتى يدمرهما معا؟
وتنهدت بصوت مسموع شأن العاجز، فقالت ولغدها يتحرك: فلنبذل جهدا للإنقاذ، وليفعل الله ما يشاء، ربما وجد كلاهما ما يناسبه. - أهذا رأي سليمان بك أيضا؟ - إنه أبوها كما أنني أمها، وما يحزننا إلا أن علوان فتى طيب وجدير بكل خير.
وتمتمت وأنا أختم الحديث: وسيئ الحظ أيضا.
فذهبت وهي تقول: اعتمادي بعد الله عليك.
يا له من صباح! قضي علي أن أكون وسيط السوء إلى أعز الناس على قلبي. انكمشت في مقعدي متلفعا بالكآبة، وفي أثناء الغداء لم أشر إلى الزيارة حتى انفردت بالشاب عصرا في حجرة المعيشة. لم ينتبه بطبيعة الحال إلى معنى نظراتي حتى سألته: هل تغفر لي حديثا غير سار؟
فرماني بنظرة متوجسة وقال ساخرا: هذا هو الأصل في الأحاديث يا جدي. - عن رندة يا علوان.
فتغير وجهه الحسن وغشيه الحب فعرضت الموضوع بتفاصيله. كور قبضته وألصقها بفيه معتمدا بكوعه على خوان قديم، وقال: كأنني مجرم مطارد يا جدي. - يجب أن نفكر بهدوء وشجاعة. - أريد أن أعرف انطباعك يا جدي.
فازددت ضيقا وأنا أقول: لهم عذرهم، هذا ما يجب أن نسلم به.
فقال بحدة: رندة ليست قاصرا. - بلى، ولكن الانتظار يبدو بلا نهاية. - أنا لم أقصر. - لا أحد يتهمك. - الرأي الأخير لهم أم لها؟ - الآن هو بين يديك أنت. - أنا؟ - العمر يجري، وأنت فتى عاقل، بيدك إنقاذها، وربما إنقاذ نفسك أيضا .. إنه ليس مجرد سوء حظ، إنه خط طويل من المآسي؛ 5 يونيو، والانفتاح، وروسيا، والولايات المتحدة، ومملكة المنحرفين.
وتساءل: ولو أصررت على الرفض؟
Página desconocida
فقلت بتسليم: افعل ما تراه صوابا.
فهز رأسه قائلا في غموض: أعدك بذلك يا جدي.
وعلم فواز وهناء بالموضوع مساء. وانفعلت هناء غاضبة وقالت إن قلبها لم يوافق على الخطبة إلا مضطرا. أما فواز فقال إنه طالما حذر ابنه من هذه النهاية المحتومة. وقال: الخطبة تعرقل الاثنين.
وقالت هناء تخاطبني: أقنعه يا عمي، إنه يعاندنا، ولكنه يقتنع بك، لو سمع كلامي من أول الأمر ما انتهى بنا الأمر إلى هذه الخاتمة المهينة .
وجالت بنفسي الآية الكريمة:
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
علوان فواز محتشمي
لم يبق من الشتاء شيء، والجو ينعم بصفاء نادر. السوء كله كامن في وحدي. كان يجب أن أختار مكانا آخر غير استراحة الهرم؛ هذا الموقع عند حافة الهضبة سجل لنا أجمل الذكريات. هدوء نظرة عينيها ضاعف من إحساسي بالذنب. لا يوجد شخص يستحق الاحترام، ولا فعل يستحق الثقة، ولا وعد يستحق التصديق. ذلك التاريخ المنحدر ما بين العندليب الأسمر والغراب الأسمر، فلتكف الدكتورة عن إلقاء الشعارات؛ فهي زوجة وأم، وشربت العشق حتى الثمالة؛ فلنحتس الشاي في هناء، أو لتهنأ به وحدها، أما أذوق له طعما. - أعوذ بالله من صمتك!
فرنوت إلى هامات النخيل المنثور فوق المنحدر وسألتها: رندة، هل علمت بزيارة مامتك لجدي؟
فقالت باستهانة: لم تمر بسلام، ولكن لا جديد تحت الشمس.
Página desconocida
فقلت بأسى: لو صح ذلك لتزوجنا منذ سنوات. - أراك متأثرا أكثر مما توقعت. - اختنقت الأنفاس. - اعتدنا أن نصمد حيال المعارضة. - حتى متى؟ - لا أهمية للوقت. - الوقت مهم أردنا أم لم نرد، ومسئوليتي ثقيلة.
فقالت بحزم: لست معفاة من المسئولية، إني مثلك تماما. - لا مفر من التسليم بأني أهدر مستقبلك. - ومستقبلك أنت؟ - الأمر يختلف، وقد يتزوج الرجل في الخمسين.
شحب وجهها وهي تتمتم: لأول مرة أجدك منهزما يا علوان.
فقلت بعد تردد: ربما لأنني أنتصر على أنانيتي لأول مرة!
فهتفت بفزع: رباه .. أتفكر حقا في ...
وأشفقت من إتمام جملتها، فقلت وأنا أمرق من جرحي: إني أحررك من قيدي.
قالت بانفعال شديد: علوان .. لا أطيق سماع ذلك. - أعيدي التفكير في موقفك بعيدا عن ظلي الثقيل. - إني حرة ولا سلطان لأحد علي. - الأمر يتطلب إعادة نظر.
فتفكرت في وجوم ثم قالت: إنه منطق سليم، ولكني أشك في سلامته في ظل حب حقيقي.
فقلت بسرعة وحرارة: حذار من الشك في، لا تزيدي الموقف سوءا؛ فالحب أيضا هو التضحية. - لا حاجة لك إلى التضحية . - إني أقرر ما أراه صوابا.
فقالت بمرارة: قل إنك أصبحت تجدني عقبة في سبيلك. - سامحك الله يا رندة، لن أدافع عن نفسي. - إنني أرفض تضحيتك.
Página desconocida