وقال في موضع رابع: «ماذا سيقول المؤرخ غدا إذا وصف كيف كنا نستعمل الذهب. سيذكر أننا توصلنا إلى أن نخبر عن الذهب باللاسلكي، وسيصف الصور التي كان أصحاب المصارف يزنون بها الذهب ويعدونه في لباقة ومهارة، وكيف تحدينا قانون الجاذبية في نقله من عاصمة إلى عاصمة، وسيسجل أن أشباه الوحوش الذين كانوا ماهرين وفي غاية الجرأة في فتوحهم الصناعية كانوا عاجزين عن التعاون الدولي الذي كان يتطلبه ضبط الذهب والتقسيم الصحيح، وكانوا لا يعنون إلا بأن يدفنوا المعادن بالسرعة الممكنة، وكانوا يستخرجون الذهب والمعادن من بطون الأرض في جنوب أفريقيا ويدفنونها في مصارف لندن ونيويورك وباريس.»
إن أهل الغرب الذين فقدوا قلوبهم قد مقتوا الحضارة، وأصبحوا يتبرمون بها؛ لأنها خلقت في كل ناحية مشاكل وأحقادا، لا يطفئون إحداها إلا إذا ظهرت أخرى أعقد منها، ولا يقطعون فرعا إلا وتطلع فروع كثيرة ذات أشواك. فلا الحضارة الإسلامية في شكلها الحاضر نافعة للعالم ولا الحضارة الأوروبية. إنما يرشد العالم يوم يتخلى كل عن معايبه ويقتبس من الآخر فضائله، فيحيي الغربيون قلبهم من الشرق، ويستعير الشرقيون العلم من الغرب، وحينئذ يتعادل العقل والقلب، وإلا فسيظل العالم مائجا مضطربا يقع كل يوم في مشاكل جديدة، ويعالج الداء بالداء، ويستغيث من مصائب الرأسمالية لينغمس في الشيوعية، ويستغيث من مصائب الدكتاتورية فيقع في مشاكل الديموقراطية، وهكذا لا ينتهي من شر إلا إلى شر، ولا من فساد إلا إلى فساد.
إن في الناس حاسة دينية لا يسعدون إلا باستعمالها فإذا فقدوها كانوا كمن فقد السمع أو البصر.
وإن المتفائل يسر من تطور العالم إلى هذه الغاية المنشودة، فيجد العالم الإسلامي وخصوصا مصر تخطو خطوات موفقة نحو العلم الأوروبي، وأوروبا التي كانت كافرة وطاعنة في الدين تقبل على الدين، وهذان الاتجاهان يبشران بالخير! إنه إذا كان ذلك لم يكن العالم قسمين: غرب يستعمر الشرق ويستذله، وشرق يستعمر ويستذل، بل يكون العالم كله وحدة يبني شرقه مع غربه، ويتعاون كل أبنائه، ويستغل كل ما عند الآخر من المواد الخامة.
إن كلا من الشرق والغرب تنقصه زعامة صادقة مخلصة؛ فقد تبين إلى الآن أن الشعوب خير من قادتها، وكان الطبيعي أن يكون القادة خيرا من الشعوب، وإلا ما كانوا قادة؛ فإن طبيعة الزعامة أن يكون القائد بصيرا بما لم يبصر به الناس، شاعرا بما لم يشعروا به، سائرا أمامهم، هاديا لطريقهم لا جاريا وراءهم، ولا متتبعا لهم.
يجب أن يكون للعالم فلسفة واحدة تسيره لا فلسفتان. والذي يقود العالم الآن الفلسفة الأوروبية في عقائدها ونظرياتها ونظام حياتها، وهي فلسفة ناقصة تعتمد على المادة والقوة ... وفلسفة الشرق ناقصة تعتمد على الروح ولا عقل لها، واعتمادها على الروح البحت جعلها عرضة للخرافات والأوهام، وإن كان الإنسان جسما وروحا وجب أن تجاوب فلسفته هذين العنصرين، فإن أجابت عنصرا وأهملت الآخر وقعت في النقص كما هو حاصل اليوم. وليست هذه العيوب مما يمكن إزالته في يوم أو يومين؛ فإنها عيوب تأصلت في العالم من يوم أن كان إلى اليوم، ولا بد أن يمر زمن كالذي مضى أو قريب منه حتى يفيق من مرضه، ويسترد قوته، ويمشي على الجادة، بل علمتنا الأحداث أن المرض قد يأتي بغتة ولا ينصرف إلا في بطء، وعلى ألسنة العامة المرض يأتى كالجبل ويذهب كالحبة.
ولا ينقص المسلمين في الوقت الحاضر إلا شيء واحد، وهو مدرسة جديدة ذات منهج جديد، مدرسة لا شرقية ولا غربية، فإن المدرسة الشرقية - أعني مدرسة العصور الوسطى - لم تعد صالحة للعصر الحاضر؛ لأنها تعفنت بمرور الزمان، والمدرسة الغربية معيبة في بلدانها، فكيف إذا قلدت في غير بلادها؟! إننا نريد مدرسة تضع منهج العلوم كمنهج البلاد الأوروبية مع خلاف بسيط، وهو أن يطعم منهج العلوم بالنية الحسنة، نية خير الإنسانية لا تدميرها، فإذا فعلنا ذلك لم نستخدم تحليل الذرة في قنبلة تدمر، ولكن في تحليل ذرة يعمر، وبعد ذلك نستخدم نتائج العلوم الأوروبية لا إلى حد، بل نحن متسامحون إذا قلنا العلم الأوروبي؛ لأن العلم لا وطن له، ولا يقتصر على خدمة دين دون دين. أما في الأدب والتاريخ؛ فمنهج مدرستنا غير منهج مدرستهم. إنهم سممونا بأشياء كثيرة، سممونا بقولهم: إن الفن للفن، وبقولهم: إن الأديب حر يقول ما يشاء، وسممونا بمنهجهم التاريخي الذي يقضي بأن مركز العالم الرجل الأبيض، ومن عداه فعلى هامشه إلى غير ذلك.
فنحن نريد برنامجا عماده الحب للإنسانية كلها، وعمل الأديب لخدمتها، لا للتغني بالجمال وحده، ولا لخدمة الشهوات، ولا لكسب المال وحده. إنما نقيس الأدب بمقدار نفعه للناس، فهو يحب الإنسانية حبا ينسي الأديب نفسه ومتاعبه وبريق المادة؛ حبا يكون سحرا كعصا موسى، لا يمس شيئا إلا ألهبه، ولا يمس حجرا إلا أحياه، كالإيمان الذي مس الحجارة وجعل منها المساجد والآثار الفنية الخالدة.
كذب الذين يقولون: إن العلماء والأدباء يتفاضلون بقوة العلم وكثرة المعلومات، وقوة الذكاء، وقوة الشاعرية، وانسباك اللفظ، ودقة المعنى، وأن الباحثين يتفاضلون بالعمق والصبر على البحث؛ إنما هم يتفاضلون في مناهجنا بالحب للإنسانية والإخلاص لها.
ومع الأسف جنت المدنية الحديثة على العلوم والآداب، فاستأصلت هذه العاطفة الإنسانية، ووضعت مكانها العاطفة الجامحة الوطنية، كما ملأتها بحب النفع المادي. ولم تعبأ بحب المعاني السامية، والأخلاق الراقية، والجمال المعنوي؛ ولذلك أخرجت شبابا في شكل إنسان، وحقيقة أحجار؛ لا قلب له ولا شعور، ولا أمل عنده ولا ألم، سواء في ذلك الشباب الأوروبي والشباب الشرقي، وسواء في ذلك الفتيان والفتيات.
Página desconocida