وكان في حمص رجل ضرير من أهل العلم يفسر المنامات، فدخل سيف الدولة فقال له كلامًا معناه: أن الروم تحتوي على دارك. فأمر به فدفع، واخرج بعنف، فقضى الله سبحانه أنّ الروم خرجوا ففتحوا حلب واستولوا على دار سيف الدولة فذكر معبّر المنام أنه دخل على سيف الدولة بعدما كان من أمر الروم، فقال له ما كان من أمر ذلك المنام.
وكان المعتصمون بالقلعة والروم بالمدينة تحت السماء ليس لهم ما يظلهم من الهواء والمطر، ويتسللون في الليل إلى منازلهم، فإن وجدوا شيئًا من قوت أو غيره، أخذوه وانصرفوا.
ثم إن نقفور أحرق المسجد الجامع وأكثر الأسواق والدار التي لسيف الدولة، وأكثر دور المدينة، وخرج منها سائرًا إلى القسطنطينية بعد أن ضرب أعناق الأساري من الرجال، حين قتل ابن أخت الملك؛ وكانوا ألفًا ومائتي رجل.
وسار بما معه ولم يعرض لسواد حلب والقرى التي حولها. وقال: هذا البلد قد صار لنا، فلا تقصّروا في عمارته؛ فإنا بعد قليل نعود إليكم.
وكان عدة من سبي من الصبيان والصبايا بضعة عشر ألف صبي وصبية، وأخذهم معه.
وقيل: إن جامع حلب كان يضاهي جامع دمشق في الزخرفة والرخام والفسيفساء وهي الفص المذهب إلى أن أحرقه الدمستق لعنه الله. وإن سليمان بن عبد الملك اعتنى به. كما اعتنى أخوه الوليد بجامع دمشق.
وسار الدمستق عنها يوم الأربعاء مستهل ذي الحجة من سنة ٣٥١.
واختلف في السبب الذي أوجب رحيل نقفور عن حلب. فقيل: إنه ورد إليه الخبر أن رومانوس الملك وقع من ظهر فرسه في الصيد بالقسطنطينية، وأنهم يطلبونه؛ ليملكوه عليهم.
وقيل: سبب رحيله أن نجا عاد بجمهور العسكر إلى الأمير سيف الدولة فاجتمع به. وجعل يواصل الغارات على عسكر الروم، وتبلغ غاراته إلى السعدي، وأنه أخذ جماعة من متعلفة الروم، واستنجد سيف الدولة باهل الشام فسار نحوه ظالم بن السلال العقيلي في أهل دمشق، وكان يليها من قبل الإخشيدية، وكان ذلك سبب الرحيل عن حلب.
وكان هذا نقفور بن الفقاس الدمستق، وقد دوّخ بلاد الإسلام، وانتزع من أيدي المسلمين جملة من المدن والحصون والمعاقل، فانتزع الهارونية، وعين زربة كما ذكرناه وكذلك دلوك وأذنة، وغير ذلك من الثغور.
ونزل على أذنة في ذي الحجة من سنة ٣٥٢ ولقيه نفير طرسوس فهزمهم وقتل منهم مقدار أربعة آلاف وانهزم الباقون إلى تل بالقرب من أذنة، فأحاط الروم بهم وقاتلوهم وقتلوهم بأسرهم.
وهرب أهل أذنة إلى المصيّصة وحاصرها نقفور مدة فلم يقدر عليها بعد أن نقب في سورها نقوبًا عدة. وقلّت الميرة عندهم فانصرف، بعد أن أحرق ما حولها.
وورد في هذا الوقت إلى حب إنسان من أهل خراسان ومعه عسكر لغزو الروم، فاتفق مع سيف الدولة على ان يقصدا نقفور وكان سيف الدولة عليلًا فحمل في قبة، فألفياه وقد رحل عن المصيّصة وتفرقت جموع الخراسان بشدة الغلاء في هذه السنة بحلب والثغور، وعظم الغلاء والوباء في المصيّصة وطرسوس حتى أكلوا الميتة.
وعاد نقفور إلى المصيّصة، وفتحها بالسيف في رجب سنة ٣٥٤. وفتح أيضًا كفربيا في هذه السنة ومرعش. وفتح طرسوس من أيدي المسلمين في شعبان سنة ٣٥٤.
وكان المسلمون يخرجون في كل سنة ويزرعون الزرع فيأتي بعسكره فيفسده فضعفت، وتخلى ملوك الإسلام عن أهل الرباط بها، وكان فيها فيما ذكر أربعون ألف فارس، وفي عتبة بابها أثر الأسنة إلى اليوم. فلما رأى أهلها ذلك، راسلوا نقفو المذكور، فوصل إليهم، وأجابوه إلى التسليم. وقال لهم: إن كافورًا الخادم قد أرسل إليكم غلة عظيمة في المراكب، فإن اخترتم أن تأخذوها وانصرف عنكم في هذه السنة فعلت. فقالوا: لا. واشترطوا عليه أن يأخذوا أموالهم فأجابهم إلى ذلك، إلا السلاح.
ونصب رمحين جعل على أحدهما مصحفًا، وعلى الآخر صليبًا، ثم قال لهم: من اختار بلد الإسلام فليقف تحت المصحف؛ ومن اختار بلاد النصرانية فليقف تحت الصليب. فخرج المسلمون فحرزوا بمائة ألف ما بين رجل وامرأة وصبي، وانحازوا إلى أنطاكية.
ودخل نقفور إلى طرسوس، وصعد منبرها، وقال لمن حوله: أين أنا. قالوا: على منبر طرسوس. فقال: لا ولكني على منبر بيت المقدس، وهذه كانت تمنعكم عن ذلك.
1 / 24