ولما بلغها خبر سفري إلى القاهرة وأنني لا أراها إلا بعد ستة أشهر على الأقل، أسفت غاية الأسف، وصارت تجيء إلي كل يوم وتقول: «تعال نتفسح، وننهب لذة اجتماعنا؛ فقد قرب وقت سفرك»، وكانت تتبسم نحوي بما يشف عن حبها لي حبا ممزوجا بالإخلاص، حتى إنها قالت لي قبل السفر بيومين ونحن جلوس على مقعد بالحديقة: «هل تذكرني في سفرك؟» فأجبتها: «كيف لا أذكرك وأنت رفيقة حياتي من الصغر؟ وهبي أني لا أتذكر هذا المحيا الذي يبسم لي عن وداد ومحبة، فهل أنسى أياما قضيناها ونحن خليان من متاعب الدنيا؟» فقالت: «إن ذكرى ذلك الزمن تولد في قلبي بواعث غريبة، وبودي لو يعود ونعود كما كنا لا نعرف للفراق اسما.»
كل ذلك كان يزيد حبها في فؤادي، حتى كان يوم الخميس فذهبت معها للتنزه في الحدائق المجاورة لمنزلنا، فقالت: «أظنك مسافرا غدا إلى القاهرة»، فقلت لها: «نعم»، فقالت: «ليتني كنت معك»، فأجبتها: «بودي، ولكن عسى أن أراك قبل السفر»، فقالت: «ذلك لا بد منه».
وما زلنا نتجاذب أطراف الحديث بين تلك الرياض الغناء إلى وقت المساء، فرجعنا إلى المنزل ووجدنا أبوينا يتحادثان، فلما رآني والدي قال لي: «إنك مدعو لتناول العشاء في منزل سعادة البك مع سكينة»؛ فحصل لي سرور عظيم، ولما ذهبنا إلى المنزل جلسنا للأكل مع والدها ووالدتها، وكانت سكينة على يميني تحادثني وتلاطفني، ولم تكن أول مرة أكلنا سوية فإننا كنا مختلطين كأننا عائلة واحدة؛ لأن والدها كان صديق والدي ورفيق صباه، وكان يسكن معنا في بيت واحد، وبعد تناول العشاء جلسنا للمحادثة، ولم ندر إلا وقد حضر والدي ومرضعتي، وأمضينا تلك الليلة في هناء لا يشابهه هناء وأنا بين والدي ورفيقة صباي إلى منتصف الليل، فأشار والدي بالقيام لكي أنام وأقوم مبكرا في الصباح فذهبنا إلى مسكننا، وبودي لو كانت الدنيا تستمر ليلا إلى الأبد وأنا وتلك الفتاة نتجاذب الحديث، ونتذاكر عصر الطفولة.
ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه. ذهبت إلى سريري وأنا أحاول النوم والأفكار تتجاذبني، حتى غلب علي النعاس فصرت أحلم أني راكب القطار وسكينة معي، وتارة في المدرسة، ولم أستيقظ إلا في الصباح؛ لأن يدا لطيفة وضعت على خدي تنبهني، ففتحت عيني ورأيت «سكينة» وفي يدها باقة من الزهور عليها ندى الصباح، فشعرت بحرارة تدب في جميع جوارحي حين لمست يدها خدي، فحولت رأسي قليلا حتى وضعت فمي على تلك اليد الناعمة اللطيفة وقبلتها قبلة شعرت لها بتيار سرى في مفاصلي كما تسري الكهرباء في السلك، ونظرت إليها فرأيت خدودها قد احمرت من الخجل، وقالت: «قم، فقد قرب ميعاد السفر»، فقمت وأديت فرض صلاة الصباح، ولبست ملابسي، وجلست معها نتكلم قليلا، وإذا بالخادم دخل علينا وقال إن «والدك يطلبك لتناول الإفطار»، فذهبنا إلى قاعة الطعام، وجلست هي بجانبي والباقة بيدها.
وبعد ذلك، أمر والدي الخادم بحمل جعبة السفر إلى المحطة، ثم جاءت مرضعتي وقبلتني بين عيني، ودعت لي بالسلامة، وخرجت من المنزل وأنا أشعر لأول مرة بمرارة الفراق، كل ذلك وسكينة بجانبي لا تنبس ببنت شفة، بل كنت أراها مفكرة كمن يبحث عن نتيجة أمر يود عمله، ثم كنت أراها تنظر إلي مرة وإلى والدي مرة أخرى حتى وصلنا المحطة فوجدت والدها هناك، وما لبثنا أن جاء القطار، وركبنا جميعا إلى أن وصلنا محطة سيدي جابر، فنزلنا وانتظرنا القطار الذاهب إلى مصر، وما لبثنا كثيرا حتى جاء فركبت أنا ووالدي فقط، وسلم علينا والد سكينة وقدم إلي صورته مع ابنته التي سلمت علي وعيناها مغرورقتان بالدموع، وقدمت لي الباقة فأخذتها، ويعلم الله أني بللتها بالدموع التي انحدرت من آماقي على تلك الزهور، ولما صفر القطار نظرت إلى سكينة ووالدها ورياض الرمل، وقلبي واجف ودموعي تسيل على خدودي، ولما سار القطار صرت أزود نظري من محاسن رفيقة صباي حتى احتجبت عن نظري، ولم أعد أرى سوى أشجار الرمل، فدخلت العربة ورأيت والدي يقرأ إحدى الجرائد، ولما رآني والدموع ملء عيني شرع في ملاطفتي قائلا: «لو كنت محلك ما بكيت كما تبكي ، بل لكنت أكثر سرورا»، فسألته: «وهل تظن يا والدي أن فراق الموطن والإخوان سهل؟» فأجاب: «أنا لا أنكر أن الفراق صعب، ولكن إذا كان الفراق لنيل المعالي والحصول على الشرف فإني لا أستصعبه، ولا سيما إذا كان الإنسان سيجتمع بإخوان يؤنسونه ويضاعفون مسراته»، فأجبته مترددا: «إذا كان!»
قال: «كن على يقين أنك ستكون مسرورا بين إخوانك التلامذة، فإن زمن التعليم كله سرور وهناء، لا سيما وأن المدرسة التي تذهب إليها مشهورة بحسن موقعها، ولطف أساتذتها، وجميل أخلاق ناظرها، وأدب تلامذتها.»
قلت: «وما اسم هذه المدرسة؟»
قال: «المدرسة التوفيقية»، فقلت: «طالما سمعت عنها أنها مدرسة أولاد الأغنياء، فهل يدفعون فيها مبالغ وافرة؟»
قال: «قد كان ذلك من قبل، وأما الآن فجميع المدارس الثانوية على حد سواء، وإنما تمتاز هذه المدرسة بحسن نظامها وحرية التعليم فيها، ولذلك فكبار الأمة يرسلون أولادهم إليها، وإني آمل أن تتخلق بآداب أحسنهم، وأن تختار لك من الأصدقاء من يعاونونك على أعمالك؛ فإن أصدقاء المدرسة يكونون أعظم أعوان المستقبل»، ثم انتقل للكلام معي في مسائل أخرى تهذيبية، حتى وصلنا إلى محطة مصر، وإذا بأصحاب الفنادق ينادون: «أوتيل كديفيال»، «أوتيل شبارد»، «أوتيل رويال»، ونحو ذلك، فنادى والدي رجلا يقول أوتيل كديفيال، وأعطاه جعبة السفر، ومن ثم ركبنا إلى النزل، وإذا به في سناء يشرف على الأزبكية. ولا أطيل على القارئ؛ فأقول إني توجهت في الصباح إلى المدرسة، وبعد الكشف الطبي أمرت بالعودة ثانية بعد أسبوع، وهكذا فعلت.
الفصل الثاني
Página desconocida