Caiga Sibawayh
لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه
Géneros
ولا أفهم لماذا نتهرب من الحقيقة ونكره أن نرى الواقع كما هو. وكما حاولت أن أبرز في كتاب «الداء العربي»، فإن من أخطر عيوب العقل العربي الإصرار على رفض مواجهة الواقع، والميل إلى الاستسلام الإرادي للأوهام. فمن أكثر ما يزعجنا أن يخرج علينا من يكشف المستور الذي يعرفه الجميع، لكن الكل يتكتمه ويرفض أن يجهر به.
والغالبية العظمى من القادرين على فهم أو تذوق الشعر العربي القديم ينتمون على الأرجح للجامعات ومراكز البحث الأكاديمي والأساتذة وغيرهم ممن وهبوا حياتهم للغة والأدب. أما الباقون ففهمهم للشعر تقريبي ويدركون المعنى العام للبيت لكنهم بالتأكيد لا يدركون معانيه الحقيقية والعميقة.
ولا أعتقد أنه يوجد شخص واحد في العالم العربي يستطيع أن يدعي أنه قادر على فهم كل المفردات ولا تفوته كلمة واحدة في الشعر العربي القديم. فهل يعقل أن يستوعب عقل واحد ما يقارب 2 مليون كلمة مهما أوتي من ذاكرة حديدية؟ مثل هذا الكم الهائل في حاجة إلى كمبيوتر للحفظ والتخزين. وقد وجدت القواميس في كل اللغات لهذا السبب بالذات، وهو استحالة أن يستوعب عقل واحد معاني كل الكلمات في أي من لغات العالم. والمشكلة كما قلت هي أن القواميس اللغوية غير متوفرة في العربية بالسهولة وبالأسلوب العملي الذي نجده في اللغتين الإنجليزية والفرنسية بصفة خاصة.
وتلاميذ المدارس يكتفون بحفظ الشعر دون فهمه لمجرد النجاح بالامتحان، وهم يسرعون بنسيان ما حفظوه بمجرد الخروج من قاعة الامتحانات، وكأنه «هم وانزاح» من على كاهلهم.
وأعترف أنني كنت من هؤلاء؛ فقد كنت أحفظ شعرا كثيرا نسبيا من أيام المدرسة، لكنني لم أكن أفهمه. وعندما استرجعت هذا الشعر بعد بلوغ سن النضج الذهني، أدركت المعاني التي كانت خافية عني تماما في السابق. والغريب أنني كنت قد نسيت هذا الشعر ولم أكن أتخيل أنه لازال كامنا في أعماق ذاكرتي، لكنه كان بالفعل مخزونا في العقل الباطن حتى تم استحضاره عندما أعدت قراءته وأنا كبير.
والأرجح أن الغالبية العظمى من المصريين والعرب لا يتاح لهم أن يستعيدوا من أعماق الذاكرة أبيات الشعر التي حفظوها في مرحلة الدراسة. ولولا والدي رحمه الله الأستاذ محمد مفيد الشوباشي، ولولا احترافي الكتابة لظل الشعر الذي حفظته مدفونا في مجاهل اللاوعي بذاكرتي، ولم يظهر أبدا إلى السطح.
وأستخلص من هذا أن الذين يجيدون العربية إجادة تسمح لهم بفهم التراث، هم الذين أفنوا حياتهم في تعلم اللغة والدين، وهؤلاء مطلوبون في مجتمعاتنا، لكنه لو فعل الجميع مثلهم فلن تكون لدينا هياكل البنية الأساسية للدولة؛ لأن هؤلاء غير قادرين على استيعاب العلوم الدنيوية.
وأعلم أن مثل هذا كلام وتلك الاستفسارات ستثير قلق وحفيظة الكثيرين، وسيجد هؤلاء تبريرات وتفسيرات غير منطقية، لكنها ترضي قناعتهم العمياء بالارتباط العضوي بين الشعوب العربية ولغة الضاد. وبالتأكيد أن هذه العلاقة العضوية موجودة بالفعل، لكنها ليست كما يدعيه حراس العربية وحماة تراث السلف. •••
وصعوبة اللغة العربية ليست ظاهرة جديدة يعاني منها الإنسان العربي في هذا الجيل وحده، فهي سمة قديمة لها جذور في أبعد عصور التاريخ العربي.
ومن يجادل في ذلك عليه أن يتأمل بيتا للمتنبي والظروف التي كتب فيها هذا البيت، يقول فارس العربية:
Página desconocida