وقال ذلك المصطفى المزعوم: إن العقاد «يقيم الحجة على نبوة محمد باضطراب الأحوال وقت نشوئه في بلاد العرب ... ترى أين يكون اقتناع العقاد لو انبرى مسلم - قبل أن يتصدى من لا يدين بالإسلام - وقال: إن الأحوال الحاضرة أشد قساوة مما مضى في عهود الإنسانية جميعا ... وإذن فالحال المعاصرة تستلزم نبيا ينشر الخير والعدل، فأين هذا النبي ممن عرفهم العالم حاليا ...؟»
والعجيب أن يسألني هذا المصطفى المزعوم عن رأيي وقد بينته صريحا في الكتاب نفسه حين قلت: إن العالم حائر في طلب العقيدة أو طلب المسوغ للوجود؛ لأن الوجود وحده لا يكفي الإنسان إلا أن يكون على طبقة مع الحيوان، فالإيمان للمستقبل، وعسى أن يكون المستقبل للإيمان ...
قلت ذلك في ختام الكتاب وجعلته خلاصة الرأي فيه وموضع العبرة منه، ولا أزال أقول كما قلت دائما: إن خلاص العالم مرهون بالإيمان، وإن حياة الناس بغير عقيدة نبيلة هي حياة حشرات.
ولكن الإيمان الذي يحتاج إليه العالم لن يكون إيمان المعدات والأمعاء؛ لأن الإنسانية لن تحتاج إلى رسل وحكماء ليعلموها عبادة الطعام والشراب، وإن أحقر حصان معلق في مركبة نقل ليعلم من هذه الفلسفة ما يعلمه كارل ماركس ولنين وإخوان هذه العصبة أجمعين.
إنما يحتاج العالم إلى إيمان يليق بأبناء آدم، ولا يحتاج إلى إيمان يزعم أنه يخلصه من ضرورات المعدة بعبادة هذه المعدة في الصباح والمساء، وفي ساعة العمل وساعة الرياضة، وفيما يدير عليه تجارب العلم ومطالب الفن، وأشواق النفس وعقائد الضمير.
قبحت عقيدة كهذه العقيدة إن قضى بها النحس على أمة من الأمم، فهي عقيدة لن تخلص الناس من ضرورات المعدة وخسائسها، بل تفرض عليهم عبادتها وتسجل عليهم الخضوع لرهبة الرجوع إلى آخر الزمان، وقبح من رسل أولئك الذين لا جديد عندهم يعلمونه الناس وراء ما علمته الحشرات قبل ملايين السنين، وأبى الله أن «تنبسط» الاشتراكية الرعناء إن كان تحقير عظماء الإنسانية وتحقير الإنسانية كلها فرضا لزاما لمن يسترون شرورهم بأمثال هذه الدعوات.
الفصل الرابع والثلاثون
الأدب والإصلاح
أشار الدكتور زكي مبارك إلى حديث لي لخصته صحيفة العزيمة الأسبوعية بقلم مراسل من مراسليها، ولخصه الدكتور في قوله: «إن الأدب ينبغي أن يكون للأدب، فلا يكتب الكاتب غير ما يوحي به الطبع، وهو يعنى بالحقائق الخالدة؛ أما المشكلات التي تتعلق بالطبقات المختلفة، فهي مشكلات وقتية يناط تدبيرها بالرجال الإداريين.»
ثم قال الدكتور: «أما بعد، فهذه مشكلة من أصعب المشكلات، وللأستاذ عباس العقاد أن يوضح رأيه كما يشاء.»
Página desconocida