رفع السماء عبرة للنظار، وعلة للظلم والأنوار، وسببا للغيوث والأمطار، وحياة للمحول «5» والقفار، ومعاشا للوحوش والأطيار. ووضع الأرض مهادا للأبدان، وقرارا للحيوان، وفراشا للجنوب والمضاجع، وبساطا للمكاسب والمنافع، وذلولا لطلاب الرزق وأرباب البضائع. وأشخص الجبال أوتادا راسية، وأعلاما بادية، وعيونا جارية، وأرحاما لأجنة الأعلاق حاوية. وجعل البحار مغائض لفضول الأنهار، ومغائر «6» لسيول الأمطار، ومراكب لرفاق التجار، ومضارب لمصالح الأمصار، ومناجح الأوطار. تحوي من الدر والمرجان نباتا، وتنبع من الملح الأجاج عذبا فراتا، وتقذف للآكلين لحما طريا، وتحمل للابسين جواهر «1» وحليا.
واستخلف على عمارة عالمه «2» من انتخبهم من خلقه، وآثرهم بإلهامه، ودبرهم بأوامره وأحكامه. وكان أعلم بهم من ملائكته حيث قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء [2 ب] ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون «3».
وأقام عليهم مهيمنا من لدنه يهديهم الرشاد، ويحذرهم الفساد، ويرجيهم الثواب، وينذرهم العقاب. ولم يقتصر على ما أقامه به من الحجة، وأوضحه من المحجة، حتى انبعث الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، بالمعجزات الباهرة، والدلالات الزاهرة، والبينات المتظاهرة، داعين إلى توحيده، ونادبين «4» لتسبيحه وتمجيده، فأزاح بهم العلة، وأزال الشبهة، وأفاد سكون النفس ، ونفى خلاج «5» الشكوك واللبس. ولم يزل يستخلف «6» من يشاء من خليقته موسومين بسنن الأنبياء، ومثل من قام بعدهم على مناهجهم من الولاة والأمراء، حتى انتهت نوبة الخلق إلى زمن النبي المصطفى، الأمين المجتبى، الأبطحي المرتضى، محمد صلى الله عليه وعلى آله، فأرسله بالحق بشيرا ونذيرا «7»، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا «8»، وجعل أمته به أفضل الأمم، وكلمتهم أعدل الكلم، وملتهم أوسط الملل، وقبلتهم أسد القبل، وسنتهم أقوم السنن، وكتابهم أشرف الكتب.
Página 4