وتطاول شبح الأزمة الراعب وتضخم، فارتعدت البيوت التجارية في الولايات المتحدة، وتناثرت الأوراق والأسهم المالية في الأسواق كأوراق الخريف الصفراء تحت أذيال العاصفة، فهلعت القلوب، ثم أخذت البيوت التجارية والمالية تتداعى واحدا بعد واحد كما يحدث ساعة الزلزلة، ولم يثبت أمام هذا الإعصار المخيف إلا الطويل العمر.
ومن هؤلاء الأفذاذ الذين صمدوا للأزمة المستر ه. ك. فإنه ظل متمتعا بالثقة حتى عام أول، ثم ظهرت الصدوع، فأخذ يسد كل عورة تبدو بما عنده من مال احتياطي، حتى عجز هذا العام فكان من المفلسين، فأوى إلى بيته قانطا.
ارتمى ذات يوم على كرسي في شرفة مسكنه المطل على الطريق، وقد أسبل دموعه ومرت في مخيلته ذكريات الماضي، فساوره الأسف وكاد يخنقه الغم، يفكر كيف ينقذ عائلته، ويود أن تبتلعه الأرض حين يرى أصحابه، ويتفتت قلبه إذا فكر بزوجته وبنيه أو أبصر أولاد الناس فرحين مرحين، كيف لا والعيد مقبل، ولعيد الميلاد في أميركا شأن عظيم، ونفقات ذات بال: هدايا للأطفال، وألبسة للبنين والبنيات، وحسنات للفقراء، وتبرعات للعيال المستورة، ومآكل فاخرة أهمها الديوك الحبشية، وزيارات ومعايدات ...
تلك ساعة أشد هولا من يوم العرض، مرت عليه، وبينا كان مطرقا كمن ألقي على منكبيه أثقل الأحمال، إذا بكلبه يتمسح به بعدما جفاه الناس وجفاهم، وما كان أشد ألمه إذ رأى هزال كلبه الأمين، وكيف لا يهزل وبنوه أصبحوا ينازعونه زاده، بعد أن كانوا يجودون عليه بألذ المآكل وأشهاها. لم يطق المستر ه. ك. هذا الموقف فأسرع إلى غرفته ليخفي آلامه المبرحة، فنام ولم يستيقظ حتى المساء، وعند الغروب عاد إلى الشرفة فسطعت الكهرباء فصيرت الليل نهارا، فلم ير صاحبنا في اختلاف النهار والليل شيئا جديدا، ماذا يعنيه من شئون الليل، فذاك عهد مضى وراح.
أجل، لم يعد يهتم إلا لقوت الغد، وقد جفاه الأصحاب والخلان، وعند فراغ الكيس يستوحش الحر.
فكر طويلا بصديق يقرضه بضعة دولارات يستعين بها على حاجات الغد، فإذا بنفسه تقول له: هيهات! فهب من شرفته كمن أهين ولا يستطيع دفع الإهانة، فتوجه شطر غرفته، فما كاد يتوسط البهو حتى قرع الباب فتعوذ، ولا أدري ماذا تمتم.
فأسرعت ابنته وفتحت الباب، فإذا بموزع البريد ينتصب أمامه كالمارد ويدفع إليه مكتوبا قائلا: «مضمون يا سيدي.» وناوله السجل.
فوقع بيد مرتجفة، وهو يظن الكتاب إنذارا من أحد الدائنين، ففضه بحنق قائلا: أيلحقونني إلى القبر؟ غدا إن شاء الله.
وانشق الكتاب عن توءمين: عاطفة نبيلة، وإكسير الحياة.
كتاب من لص حاسب ذمته، وأرضى ضميره الحي، وأثلج صدر البشرية، رأى الواجب يدعوه فلبى - والفتوة سجية - فنفح التاجر الذي سرقه من أعوام بألفي ليرة إنكليزية، فجاءت بوقتها.
Página desconocida