ورأيته مرة يضرب الكراز ضربا عنيفا، فقلت له: ما عرفت يا مخايل؟ فأجاب بهزة كتف عنيفة مستغربا، فقلت: الشريعة الحاضرة تغرمك وتحبسك إذا ضربت الكراز كما ضربته اليوم.
فقهقه وجعل يضرب الأرض برجليه ويصفق على ركبتيه، وطفرت الدموع من عينيه، ولما هدأت ثورته قال: ومن يربي الكراز كلما خرب؟ نتشكي إلى المدير! بأية لغة نحاكيه حتى يفهم؟ ثم أغرب في الضحك وقال: كل خطرة يعصي علي الكراز أقيم عليه دعوى! ثم افتكر قليلا وقال: طيب يا سيدي، ومن يشتكي علي؟ الكراز!
قلت: الناطور. فغضب وصاح: الناطور! الناطور يضرب الأولاد ولا نشتكي عليه، شريعة عوجاء.
قال هذا وسكت ينتظر حديثا جديدا، فقلت له: تسمع ما يقول هذا الشاعر الفرنجي عن الراعي؟ فقال وقد هدأت فورته: هات خبرنا. فقلت: يصف الهواء المعطر الذي تتنشقه، وأشعة الشمس المطهرة التي تنسكب عليك حرارتها المحيية ... فقاطعني قائلا: حقا نار الشمس غنيمة، ما كان عندنا خبرها. قلت: والمناظر الجميلة التي تتمتع بها والأعشاب المفيدة التي تأكلها. فقال: قل له يجيء يرعى مع العنزات، عندنا ما يكفينا ويكفيه.
قلت: والقطيع المخلص الذي تسوسه، والكلب الأمين الذي تعاشره. فقال: يحسدنا على عشرة الكلاب، الجنون فنون!
وترجمت له القصيدة كلها بلغة يفهمها، وأسرعت لكيلا يقاطعني، فكان أحيانا يتعجب، وأحيانا يستهزئ، وأحيانا يصدق على قول الشاعر بإحناء الرأس، ولما انتهيت قال لي: ولكن الشاعر نسي زبل المراح وصنة المعزى.
فأجبته: لست أقول لك شيئا من عندي، هذا المكتوب أمامي. فقال: أنت صادق، ولكن هذا مثلك لا يعرف من حياتنا إلا دق القصب والغناء، لا يعرف أني أنام مرات وما عندي عشاء ليلة، أمس استعرنا عشرة أرغفة. لا يذكر كيف نهرب من وجه «العداد»، ولا ما يصيبنا أيام البرد والثلج، نسي المرض الذي يفني المعزى ونعلق الجرس على الكلب، تعجبكم حياة المعازة في الربيع، ولما يمعكنا المطر ولا نلاقي مغارة نلطي بها، يكون الشاعر قاعدا على النار يتدفأ.
وجاءني يوما بسؤال غريب، سألني إن كان سماع القداس في الراديو يغني عن حضوره في الكنيسة، فعجزت عن الجواب، فوجم ومغمغ: ما ترقينا شيئا. وبعد هنيهة قال: ما يقول كتابك اليوم؟ قلت: فيه حكاية حلوة، حكاية مرأة وأختها. فتربع وأنصت، فقلت: كان لمرأة أخت عزيزة عليها فمرضت وماتت، فركعت أختها قدام فراشها على جلد أسد تسأل ربنا بحرارة أن يحمي جميع من في تلك الغرفة، فسمع ربنا واستجاب. كان على «برنيطتها» عصفور محنط ففرفر وغنى، وكان على رقبتها فرو ثعلب فعاش وأخذ يدور في الغرفة ليهرب، وفتحت أختها الميتة عينيها وطلبت الأكل، ولكن الأسد لم يمهلها فعاش وأكل الجميع.
فأرخى فكه الأسفل تعجبا وقال: يا رب. ونهض، فقلت: ما لك؟ اقعد. فقال: عندي في البيت جلد ذئب وقشرة حية كبيرة، أخاف أن تصلي بنت عمي في ساعة رضا، فيقوموا ويأكلوا العنزات. وخرج من الباب وهو يضحك.
وجاء مرة وكان يلبس فروا، فقلت: فروك يذكرني بعاموس النبي. فقال: من يدري، ربما أصير نبي آخر زمان. فقلت له: أكثر الأنبياء قاموا من بين الرعيان. فضحك وقال: الله يجبر خاطرك، أمس كنت معازا واليوم صرت راعيا، كلنا رعيان، من كبيرنا إلى صغيرنا، منا من يرعى في البيوت، ومنا من يرعى في العب مثل البراغيث، ومنا من يرعى في الجبل الأقرع مثل المعزى.
Página desconocida