فقال سيف: قد تجهلهم أنت يا سيدي، ولكن من ذا يجهلك أنت؟
فقال الشيخ هادئا: ومن أنا يا ولدي؟
فقال سيف في ثبات: حكيم صنعاء، بل حكيم اليمن. هذا ما يقوله الناس جميعا.
فقال الشيخ: حكيم اليمن؟ ما أطيب الناس إن قالوا هذا!
لست أتواضع يا سيدي الأمير، ولا أحب التواضع الكاذب الذي يستدر الرحمة أو يختلس المجاملة، أود مخلصا لو استطعت أن أتجرد من هذا الفكر الذي أشعرني الجدب والإفلاس، فكلما تعمقت ضميري لم أجد فيه شيئا يستحق أن أسميه فكرا. فإذا عثرت على شيء أظنه يستحق أن أجهر به لم أجد جدوى في أن أنطق به. ولمن أنطق؟ لمن أتحدث؟ أللقليلين الذين يستطيعون أن يستمعوا، ومع ذلك فهم لا يريدون إلا أن ينصرفوا إلى التافه السخيف؟ أم إلى الأكثرين الجهلاء الذين لا يجدون وسيلة إلى شيء غير ما يمسك الرمق؟
فقال سيف: إذن تعيش لفكرك وحكمتك، وحسبك أن تكون موردا لنفس بشرية واحدة.
فأطرق الشيخ ثم قال في صوت خافت: لو علمت أن عندي ما يروي نفسا بشرية لما ترددت في شيء. ليس عندي ما يروي، فما أنا إلا رجل إذا عاش مع الناس عاش وحده. إن المغني لا يطرب إذا غنى في سجنه؛ لأن طربه مستمد من استجابة سامعيه.
فقال سيف: أليس هذا هبوطا بالفكر؟
فقال الشيخ: ولم تسميه هبوطا؟ إن الناس يخدعون أنفسهم بمثل هذه الأباطيل، وما هي إلا محاولة ماكرة لصرف الفكر عن أداء واجبه في الحياة. ليس المفكر مثل الوعاء الممتلئ الذي يفيض بما فيه عن مدد غير منقطع. لا يستطيع المفكر أن يؤدي الفرض الذي توجبه عليه طبيعته إلا إذا اتصلت أسبابه بالناس، واستطاع أن يستمد منهم نبع أفكاره، فهو يعطيهم ما يستمده منهم، مثل النحلة التي تستمد شرابها من قطرات الزهر ثم تحيله إلى عسل فيه حلاوة وشفاء. الأفكار لا تعيش في فراغ ولا تجد صدى إلا في القلوب، والمفكرون قوم فيهم شطط وكلفة، لا يرضون إلا إذا تحركت قلوب الناس ليستمدوا الإلهام من حركتها. ولكن الحركة تكلف الناس جهدا، كما أنها تزعج الذين اطمأنوا في مقاعدهم، بعضهم يقتعد الأكتاف من عل، والآخر يرزح مطمئنا تحت العبء الثقيل الذي يحمله، وكلاهما لا يحب أن يتكلف مشقة، فالراكبون على الأكتاف يخشون مشقة النزول، والرازحون تحت الأعباء لا يستطيعون أن يبذلوا جهدا ليتخلصوا من أحمالهم. فما الذي يحملني على أن ألتمس المتاعب لنفسي ولغيري؟
فقال سيف باسما: لم أقصد كل هذا يا سيدي الجليل، وإن كان ما أسمعه يلذ سمعي، ولكن قولك يحملني على أن أسألك هل ترتاح إلى أن تترك الشر مستقرا لأنك تشفق من الحركة؟ ماذا تريد أن يبقى للناس إذن؟
Página desconocida